دعا المفتي الإخواني المعزول في ليبيا الصادق الغرياني، إلى الخروج في الشوارع رفضاً للانتخابات، بعد أن طالب بإلغاء عمل مفوضية الانتخابات. وقال الغرياني إن "المفوضية تسوي التناقض وتلمه وتستخرج منه صيغة حسب ما تراه مناسباً، وتجعل الكلام المتناقض صورة أخرى هي من تختارها وتبني عليها إجراءات الانتخابات في البلاد"، وفق تعبيره، بسبب ترشح شخصيات مناوئة له ولتياره الإخواني للانتخابات المقبلة، وعلى رأسها سيف الإسلام القذافي وقائد الجيش المشير خليفة حفتر. وعليه شدد مفتي الدم، على أن "العلاج ليس بمقاطعة الانتخابات بل منعها، بالتالي يجب خروج أعداد كبيرة للميادين ورفض إجراء الانتخابات... داعياً إلى إغلاق مكاتب المفوضية ومنعها من أداء مهامها". لقد حرض الغرياني الشعب الليبي ودعاه علانية للخروج للساحات، وراهن على الشارع، وهو يدرك أنه غير ممكن، فليبيا للأسف ساحات وشوارع سياسية، وليست فقط الساحة الخضراء، بل توازيها أهمية حقول وموانئ النفط التي تمثل أساس اهتمام العالم بليبيا.

وارتباطاً بذات الموضوع، وسيراً على النهج الإخواني الغرياني، فقد دعا مؤخراً رئيس المجلس الأعلى للدولة الليبي، خالد المشري، إلى مقاطعة الانتخابات المرتقبة نهاية العام الجاري، وهدد باللجوء إلى ما أسماه "حراك الشارع المدني" و إلى إقامة اعتصامات أمام مقر المفوضية الوطنية العليا للانتخابات. وقال المشري، خلال اجتماع وزارة الحكم المحلي مع مسؤولين وعمداء بلديات في طرابلس "ندعو إلى عدم المشاركة في الانتخابات المقبلة، لا ناخبين ولا مرشحين، وندعو إلى اعتصامات أمام مقر المفوضية والبعثة الأممية ومقرات الحكومة ومجلسي الدولة والنواب وفي الميادين لرفض الانتخابات". وتوعد المشري بما وصفه "بركان الغضب"، احتجاجا على قوانين الانتخابات التي وصفها بـ" المعيبة"، وذلك في إشارة إلى التعديلات التي قدمتها المفوضية العليا للانتخابات وصادق عليها البرلمان الليبي في الآونة الأخيرة.

وعلى أرضية ما يدور من صراع سياسي داخل ليبيا، وفي هذا المجال ربما تصح دعوة المفتي "الصادق الغرياني"، إلى التأمل في الآتي: ما دمت تفتي بالخروج في الشوارع رفضاً للانتخابات، وتطالب بإلغاء عمل مفوضية الانتخابات وإغلاق مكاتبها ومنعها من أداء مهامها. وما دمتَ تدعي أنك أكثر اتباعا للإسلام وفهما له... فلماذا لا تتسابق في تطبيق أحكام الإسلام التي فيها إنقاذ الإنسان الليبي وتكريمه وتحريم إراقة دمه، بدلًا من التحريض لإراقة دماء الأبرياء؟! فالمفتي المعزول الغرياني، يستبيح بفتواه الجسد الليبي بكل تفاصيله ولسان حاله يلهج بأنه لا شيء أفضل من استدامة الفوضى في ليبيا خدمة لمشغله التركي، فرأس النظام التركي ترتعد فرائصه من إجراء الانتخابات وتسوية قد تطفو على سطح المشهد الليبي فتحرمه من امتيازات مشاغلة أوروبا بعض الوقت وهضم المزيد من المكاسب. هو واقع الحال الذي يشي بأن لا شيء يثير رعب أنقرة أكثر من تسوية سياسية في طرابلس الغرب تمتص الأزمة وتبعثر حسابات عرّاب الفوضى في المنطقة وتجبره على انسحاب مذل من بلد يتربص به، والحقيقة واضحة وتتكلم وتقول لم يتبق أمام تركيا اليائسة من انضمامها للاتحاد الأوروبي، والمحبطة من أزماتها الداخلية، سوى الأزمة الليبية لتقتات عليها وتملأ معدتها بخيراتها.

إن الفكرة المحورية  التي تقوم عليها فتاوى "الغرياني" وتؤسس لها عبر إيديولوجيا دينية، هي أن فكرة الوطن والوطنية مسألة مرفوضة وصنمية، ما يعني عملياً إسقاط فكرتي الوطن والأمة والتأسيس على الحامل الديني، ليكون رافعة الفكرة الجامعة التي لا تقبل الآخر المختلف، ليس في الدين فقط وإنما في المذهب ذاته وهو ما يلحظه الجميع من خلال المجازر وأشكال القتل التي ترتكبها الميليشيات والجماعات الإرهابية الأخوانية، دونما استثناء لأحد، وكذلك الخطاب المتطرف الذي تصدره وتعلن فيه ذلك بصراحة ووضوح مع سعي حثيث  للتأصيل العقيدي لذلك بالرجوع إلى بعض الأحاديث والاجتهادات والفتاوى الدينية  التي يصدرها "الغرياني" التي تخدم  الفكرة التي تسعى تلك التنظيمات الإرهابية لتسويقها في الوسط الديني أملاً  في اجتذاب  جمهور واسع لها من خلال الترويج للنموذج والفكرة معاً. ويدخل في باب المريب والعجيب أن يلقي ''المفتي الغرياني'' عقله وعلمه وفهمه في سلة المهملات، ويغرق نفسه والآخرين في الدم والجُرم، توهما منه أنه العقل والإيمان والفضل، وأنه المكلف من الله سبحانه وتعالى بالنهي والأمر، في كل ما يجوز وما لا يجوز فيه الأمر والنهي، إذ لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.

ومن باب الغريب والعجيب أيضا أن يرى ''الغرياني'' فيمن يعارضه ويعارض جماعة الأخوان الإرهابية المسلطة على رقاب الليبيين، أن يرى في كل من لا ينفذ فتاواه الإرهابية، عدوا لدودا، وليس موضع ثقة، ولا صاحب نُهَى، وأنه ممن لا يجوز لهم، أو يجوز معهم، تداول وتعاون في أمر يهمهم المواطنين جميعا، ويصلح لدنياهم، إذ نترك أمر دينهم لمولاهم؟! وأن يحكم على الوطني القابض على الجمر، بأنه لا يفهم، ولن يفهم، إلا بمنطق القوة والاجتثاث... وليس بمجرد قوة محكومة بالحق والعدل والقانون والشرع والدين، يُلوَّح بها لتردع وتضبط وتخيف، لا سيما مع من هم شركاء في الوطن والمواطَنة والقرار والمصير، وشركاء في الهوية الثقافية والقيم والدين، وفي ضريبة الدم...؟! أليس هذا أمرا أعجب من عجيب، وما يزيده عُجبا وغرابة، درجات ودرجات ودرجات، أن يتحالف ''الغرياني'' مع المحتل التركي... ضد شعبه ووطنه ودينه، وأن يرى فيه نصيرا على ابن أمته ووطنه ودينه؟! 

"الغرياني" داعية الحرب والقتل، واستخدام القوة للقوة، والشرِّ للشر، عَكَرٌ مطلَق، وبصٌرٌ بلا بصيرة، وهو عبء على علاقات الناس، وعلى أخلاقهم وقيمهم، وعلى حياتهم... ويجب ألَّا ينقادَ الليبيون له، لأن في ذلك تَهلُكة، وإطاعة للمخلوق في معصية الخالق، ففتنة الحرب قتل، والفتنةُ أشدُّ من القتل، وفيها تَهلُكة، وقد نهانا اللُه، سبحانه وتعالى، عن أن نلقيَ بأنفسنا إلى التَّهلُكَة:﴿وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّـهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ). 195 سورة البقرة.

للأسف الشديد فالشيخ"الغرياني"، لا يحرص في فتاواه على أن يصون ما ينبغي أن يُصان من حيوات وقيم وأحكام، ولا يلجأ في أثناء السعي إلى بلوغ غاياته بصدق، بل يلجأ إلى الخديعة والمكر، و إلى تحريف ما لا يجوز تحريفه، و تأويل ما لا يحتمل التأويل، ولي عنق الكلام والمنطق ليلائم هواه ومنطقه وجماعته الأخوانية... اعتمادا منه على حذلقة، وفذلكة، وضَرابة لسان... ويعمَد إلى ضرب القرآن بعضه ببعض، مما نهى عنه الرسول صلى الله عليه وسلم عن ذلك، وقال للذين تحاجوا بآيات من القرآن ضد آيات منه، في حديث مرفوع رقمه 288: (حَدَّثَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا زِيَادُ بْنُ أَيُّوبَ أَبُو هَاشِمٍ الطُّوسِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بَكْرٍ السَّهْمِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ الزُّبَيْرِ، عَنِ الْقَاسِمِ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ عَلَى أَصْحَابِهِ، وَهُمْ يَتَنَازَعُونَ فِي الْقُرْآنِ، فَغَضِبَ غَضَبًا شَدِيدًا، حَتَّى كَأَنَّمَا يُصَبُّ عَلَى وَجْهِهِ الْخَلُّ، وَقَالَ: "لا تَضْرِبُوا كِتَابَ اللَّهِ بَعْضَهُ بِبَعْضٍ، فَإِنَّهُ مَا ضَلَّ قَوْمٌ إِلا أُوتُوا الْجَدَلَ، ثُمَّ تَلا هَذِهِ الآيَةَ: (مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلا جَدَلا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ) سورة الزخرف آية 58. وفي رواية أخرى قال: (أبهذا أمرتم أن تضربوا كتاب الله عز وجل بعضه ببعض إنما ضلت الأمم قبلكم في مثل هذا إنكم لستم مما ههنا في شيء انظروا الذي أمرتم به فاعملوا به وانظروا الذي نهيتم عنه فانتهوا عنه). لكن يبدو أن هذا المبتغى بعيد. 

والمؤكد عندنا، أنّ "الغرياني" يعيش وهم المعرفة ووهم السلطة ووهم الحرية والسيادة وحتى وهم التديّن، ويدرك ما آل إليه حاله من ضعف ولكنه لا يستطيع الخروج من تلك الحالة ليرى نور الحقيقة فيهرب إلى الأمام، ويقوم بما يؤمَر به حتى لو طلب منه أن يأكل لحمه حياً ولحم أخيه ميتاً!؟ جهل العقيدة والتاريخ والتراث، وضعف الإيمان بالله وبالوطن والشعب، وسطحية الذات بل تفاهتها لدى "الغرياني"... هي الأسباب التي جعلته وتجعله يتطاول على الجيش الليبي وعلى كل شريف وحر ليبي، بسطوة وسلطة وسوط، ويصبح نقمة على الدين والأمة... و ''الغرياني'' يدرك وكل معنيِّ ومسؤول من أولئك الذين ''يحرضون ويرفعون قاماتهم فوق قامة الشعب الليبي وليبيا؟!''، ويرون الناس والأرواح والدماء والمعاناة المرة مجرد أرقام، وقطع تبديل، وأدوات، في خدمة طموحاتهم العظيمة؟!''... يدركون أن مزيدا من التحريض تعني مزيدا من الجنون، والموت، والدمار، والضعف، والحقد في أوساط الليبيين، وأنها إنما ترسخ الانهزام أمام تركيا العدو المحتل لليبيا، بعد الذي "أنجز؟!" ويدرك "الغرياني" ومشغليه، أنه حينما يؤول أمرهم جميعا إلى الهُزال التام، سيتقدم عدوهم الألدّ، عدو شعبهم ووطنهم ودينهم وهويتهم، ليسحق من لا يستسلم له، وليضع المستسلمين له في خدمته، وتحت احتلاله، ورهن برامجه البطيئة المعتَمَدة للإبادة، إبادة الجسد وإبادة الإرادة. 

وفي ظني، بل في يقيني، أنهم جميعا يدركون أن حلًّا سياسيًّا توافقيًّا سيكون في صالح كل منهم، وفي صالح الشعب والوطن والأجيال القادمة من الليبيين، الذين يعاني أطفالهم من الأمية والأنيمية والجوع، ومن انعدام فرص التربية السليمة، والتعلم بدرجاته ومستوياته وأبعاده وفوائده، ومن سلامة النمو العقلي، والروحي، والثقافي، والوطني، والإنساني السليم، بسبب، وبعد كل، ما أصابهم من فقر، وقهر، وجوع، وبؤس وتشريد، وخوف.

إن ليبيا باقية، وسوف تستعيد مكانتها، وقوتها، وحقوقها، بعد إجراء انتخاباتها الرئاسية التي طال انتظارها في 24 كانون الأول القادم، بينما من المقرّر إجراء الانتخابات البرلمانية في أوائل عام 2022. وهذا الأمر يعلق آمالاً عريضة لوضع حدّ وإنهاء فترة طويلة من الفوضى التي غرقت فيها البلاد منذ العدوان الغربي عليها عام 2011، من خلال الحفاظ على وحدة الأراضي الليبية المقسّمة اليوم بين جزء غربي وجزء شرقي. وليبيا دولة ومن حقها بسط السيادة على أراضيها وإخراج المحتلين ولن تستكين وتطمئن إلا بعد القضاء على الحلم الأردوغاني في استدامة الفوضى وإخراجه من القواعد العسكرية الاستراتيجية التي يحتلها... 

ولكن على الليبيين أن يدركوا أن من أباح بلدهم، واستباحها، ودمرها، وأفقرها، وشرد شعبها، وهدَّم عمرانها، وأسلم مقاديرها لغير أهلها... لا يمكن أن يبني ليبيا ويستعيد لها القوة، والمنعة، والاحترام، والحقوق، والمكانة، والدور المحوري في المنطقة... وأن استعادة ليبيا، بالمعنى الشامل، والكامل، والقادر... لن يتم إلا على أيدي ليبيين غير مرتهنين، بأي شكل من الأشكال لآخرين، أياً كان شأنهم، ودورهم، ومكانتهم... ولن يحقق ذلك تجار الدين والسياسة ولا من يشهرون السلاح بوجه بعضهم بعضا فيقتلون الشعب والوطن ويتساقون كؤوس الردى ويخسر الشعب والوطن... والمدخل إلى ذلك تنفيذ ما حث عليه سيف الإسلام القذافي، المرشح للانتخابات الرئاسية في ليبيا، الشعب الليبي، حيث قال: "أدعوكم وكل المؤمنين بالمشروع الوطني التصالحي الجامع إلى الاقبال على العملية الانتخابية بالمسؤولية التي تقتضيها خطورة المرحلة، ابتداء من التوجه إلى مكاتب المفوضية العليا للانتخابات لاستلام البطاقات الانتخابية التي لن يتمكنوا من المشاركة واتخاذ القرار من دونها". وتابع "بطاقاتكم الانتخابية الموجودة والمتاحة في هذه الآونة بمكاتب المفوضية العليا للانتخابات هي جواز عبوركم إلى صناديق الاقتراع نحو المشاركة في اتخاذ القرار الوطني المستقل، لتعزيز حجم شرعية المؤسسات السياسية الجديدة التي ستنتخبونها للنهوض ببلادنا وإعادة تأهيلها وإعمارها واتخاذ ما تحتاجه من قرارات تعيدها إلى مكانتها الأولى بين الدول". وأضاف "تقف ليبيا على أبواب محطة تاريخية، وأمام استحقاق مصيري من شأنه أن يساعدنا على الخروج من الأزمة التي يعيشها الوطن".


كاتب صحفي من المغرب.

*المقال يُعبّر عن وجهة نظر الكاتب