بعد سقوط نظام القذافي صارت ليبيا نهبا لعدد كبير من التنظيمات والميليشيات المسلحة، وفي عهد حكومة الدبيبة، أصبح جهلاء ليبيا حكماؤها، ومراهقوا ليبيا منقذوها، والانتهازيون والعملاء من أبناء ليبيا "مناضلون يقايضون عليه"، فالوطن حين تتحكم به الرعونة وتحكمه الرؤى الضيقة العجاف والعناصر المتطرفة والمصالح الشخصية والفئوية والتطرف الأعمى، ويسيطر على قراره وتوجهاته ضعاف الأنفس وقصار النظر، تُخنَق فيه الكفاءات والمبادرات، ويُخنق فيه أهل الخير وكل من فيهم النفع له من أبنائه، ويُضيق على من يحرصون عليه ويراعون مصالحه ومصالح مواطنيه ويضيق بهم، ويضيق حاكمه بمن لا يوافقه الرأي والرؤية وبمن لا يتفق معه في كل ما يقوم به من أفعال ويدلي به من آراء وأقوال، ويصبح وجود أولئك عبئاً يتم التخلص منه بوسيلة ما لسبب ما... 


الثابت اليوم، أنه عندما أخفقت الجماعات والميليشيات الإرهابية في تحقيق النتيجة النهائية لأسيادها الممولين والداعمين، غدت مثل عش الدبابير الذي فقد دليله، فراحت تتقاتل ذاتياً ويفتك بعضها ببعض، في نزاع ضارٍ على الغنائم وفرض السيطرة... ولتأكيد المؤكد، فقد عادت الاشتباكات بالأسلحة الثقيلة بين المجموعات المسلحة، في العاصمة الليبية طرابلس، إلى الواجهة مرة أخرى، وسط تحذيرات بتأثيرها على الانتخابات المرتقبة، وشهدت العاصمة الليبية طرابلس، ليل الجمعة 23 يوليو/ تموز، اشتباكات عنيفة بأسلحة متوسطة وثقيلة بين قوة الردع التي يقودها عبد الرؤوف، وقوة دعم الاستقرار التي يقودها عبد الغني الككلي، الشهير ب"غنيوة". 


وقبل الدخول لتحليل ما جرى بطرابلس، لابد من إلقاء الضوء على تاريخ المتحاربَين. عبد الرؤوف كاره، الذي يقود مجموعة "قوة الردع" (الأكثر تسليحًا وعددا)، المعروف بـ"الشيخ الملازم"، تربطه بجماعة الإخوان علاقة وطيدة، ولا أدل على قوة هذه العلاقة من تخلي "قوة الردع" عن جزء من مقارها العسكرية (قاعدة بوستة البحرية)، ليتخذها المجلس الرئاسي السابق لـ"حكومة الوفاق" مقرًّا مؤقتًا له، كما دمجتها حكومة الإخوان في وزارة داخليتها. و"عبد الرؤوف كاره"، أحد المتشددين، وقد اعتقل أكثر من مرة من قبل نظام الرئيس الليبي الراحل معمر القذافي، وتربطه علاقة قوية بالجماعة الليبية المقاتلة التي يقودها الإرهابي "عبد الحكيم بلحاج"، فانضم إلى مجلسه العسكري الذي أسسه في طرابلس. وتاريخه مع الإرهاب في طرابلس ممتد، إذ شارك قبل تدشين حكومة الإخوان في محاصرة وزارة الخارجية بالعاصمة الليبية في أبريل 2013، للمطالبة بتطبيق قانون العزل السياسي على رموز نظام القذافي (في نوع من الثأر ممن سجنوه)، وهاجمت القوات التابعة له في هذا الحصار العشرات من المدنيين واعتقلتهم. كما شارك في صناعة وتصدير الإرهاب في المدن الليبية الأخرى من خلال مركزه لإعادة تأهيل المتطرفين في قاعدة "معيتيقة"، ومن هؤلاء الإرهابيين العديد ممن شاركوا في القتال في كلِّ من مدن "درنة" و"صبراته"و"بنغازي"، تحت لواء تنظيم "أنصار الشريعة".


أما عبد الغني الككلي، المعروف بـ"غنيوة"، رئيس جهاز دعم الاستقرار، فقد شارك في عملية فجر ليبيا، وبدأ حياته كتاجر مخدرات، وتطارده الجهات الأمنية منذ عصر القذافي، وشارك بعد الثورة في اعتداءات مسلحة مختلفة، أبرزها اعتداؤه شخصيًّا على وزير العدل بعد محاصرة مبنى وزارة الداخلية والعدل. وتتبع "الككلي"، الحاصل على شهادة الإعدادية، عدة ميليشيات إرهابية، وتسيطر على العديد من المؤسسات والسجون السرية...

وكما هو الحال دائما في مثل هذا الاشتباكات المسلحة التي جرت أحداثها في منطقة باب بن غشير وسط طرابلس، بين "كارة" وغنيوة"، يحمل أجندات لا تصب في الصالح الليبي لأسباب عقائدية، أو لارتباطها بأطراف خارجية، تغذي الصراع لتحقيق أهداف تخصها لا تصب في مصلحة ليبيا، التي تسقط في محنة النزاع المسلح. وفي التحليل فإن ثمة ما هو أبعد بكثير مما يجري في طرابلس، حيث لا تزال الخلافات والاختلافات المتصاعدة بين أطراف الإرهاب وأدواته تدفع بأحمالها وأثقالها وأوزارها إلى السطح كانعكاس صارخ لتباين وتناقض وتضارب المواقف والمكاسب والمصالح والاستراتيجيات بشكل أشمل وأوسع، وهذا من شأنه أن يؤدي إلى تأجيج الصراعات التي تطل برأسها بين الفينة والأخرى، وهذا أيضا يؤدي بدوره إلى توتر وتعثر وتخبط في الأداء والسلوك والمواقف، ما يجعل من الذهاب إلى التصعيد وامتطاء خيارات الحماقة والمغامرة والأوراق المحروقة أمرا عاديا، بل ومتوقعا من تلك الأطراف، لأن ذلك يشكل لها على الأقل متنفساً ضرورياً، من الضغوطات المتراكمة والمتدحرجة بشدة في هذه المرحلة العصيبة، التي تعصف بتلك الأطراف، وبذات الوقت يعتبر هروباً من مواجهة الواقع الجديد المرتسم على الأرض والذي يرفض أولئك الإرهابيون حتى اللحظة الاعتراف به.‏


إن مقاربة الأمور بهذه الطريقة لا تسهل علينا فهم الكثير مما يجري في طرابلس فحسب، بل تسهل علينا فهم واستشراف ما يدور ويحاك خلف الكواليس أيضاً، وصولاً نحو فك طلاسم وشيفرات كل المواقف والسياسات التركية والقطرية والأمريكية والغربية... فالنظام التركي ومن تحت سيطرته، تقود إلى تعزيز مواقع المتقاتلين بصورة ما، تركيا "العقدة والحل" وتشي مجريات الأحداث الأخيرة في ليبيا بأن محاولة إعادة إنتاج شكل الدولة الليبية يمر عبر رحى نزاع داخلي بين مختلف المكونات، وسلّم أولويات خارجي يتنوع بين ما تريده أطراف إقليمية ورغبة أوروبية وأمريكية في سد الثغرة التي تم تجاهلها لنحو عشرة أعوام ونتيجتها مفاقمة قضية اللاجئين والتنظيمات الارهابية واحتمال تواجد روسي مستدام في جنوب المتوسط.


نحن أمام مشهد لا يكتمل بهذه التفصيلات، لأن الليبيين ليسوا وحدهم في الميدان، وليسوا وحدهم في الأزمة، وليسوا وحدهم من سيتوصل إلى الحلول، على الرغم من أن المنطق والدعوات والادعاءات والتصريحات والبيانات تقول بأنهم وحدهم من ينبغي أن يتوصل إلى الحلول! ذلك لأن على الأرض الليبية اليوم دول وسياسات ومحاور وقوى وتيارات فكرية ودينية وقبائل تتقاتل، وعلى أرضها مقاتلون وأجهزة استخبارات وإرادات... وفي تربتها السياسية أياد كثيرة، مرئية وخفية، تطبخ الطبخة المرة التي مادتها وآكلها والمتأثر بكل ما فيها من سموم وأدواء هو الشعب الليبي... وفي ليبيا اليوم يظهر وجه الفتنة القبلية القبيح الذي عمل أعداء الأمتين العربية والإسلامية على أن يتجلى "فرقة وتمزقاً ومقتاً وموتاً ودماراً" ليحقق لهم من الأهداف ما عجزوا عن تحقيقه بالعدوان المباشر وبالسياسات الشريرة... والمسرح يُعد فيها لما هو أشد وأقسى وأدهى وأمر من كثير مما مضى...


 نعم إنها رؤية سوداء وكم كنا نتمنى أن تكون عكس ذلك... والسبب فيما نذهب إليه أننا نشهد منذ الاتفاق على إجراء الانتخابات الليبية في 24 كانون الأول المقبل ضمن اتفاق خريطة الطريق التي أكدها مؤتمرا برلين1 وبرلين 2، نشهد بداية أزمة مناورات وخدعاً وتوجهات نحو إشعال المنطقة وليس ليبيا فقط. في ليبيا لم يعد الكلام يتصل بنظام وخيارات سياسية، وحتى بحلول سياسية جادة تتبناها كل الأطراف الدولية، وينفذها الليبيون باستقلالية تامة... ولم يعد الكلام عن الانتخابات المقبلة... بل عن طبخة مسمومة تكثر الأيادي فيها، ومذاقها مواجهة وحشية، فيها تركيا وقطر وبعض الدول الغربية على رأسهم أمريكا، داخل معادلة العسكرة والاقتتال، فهم طرف... وقد لا تغير المعطيات الجديدة والمستجدة من مواقف أصحاب المواقف السابقة منهم لأن أكثرهم لا يملكون إلا أن يدخلوا اللعبة الدامية سواء لأغراض في أنفسهم أو تنفيذاً لسياسات من يهمهم أن ينالوا رضاهم... أما قوات ومليشيات ومرتزقة "غنيوة" و "كارة" من الجماعات الأخوانية، ممن هم في حكم الأصوات والأتباع، هم والأدوات... فسيبقون على ما هم عليه، أصواتاً وأتباعاً وأدوات، وسوف يلتمسون لأنفسهم أعذاراً، ويبقون في أماكنهم التي يلوذون بها، وتستمر لهم الأعطيات ثمناً لدم أهليهم وذويهم وأمتهم التي كانت تؤويهم؟!


إنّ كل ذي عقل يدرك أن إجراء الانتخابات في موعدها، هو المخرج المناسب للدولة والشعب والمنطقة إذا أخلص له الجميع النوايا ورجحوا كفة السلم على الحرب، لكن قبل هذا وذاك، لابد أن ندرك عن أي حرب نتحدث، ومن نحارب، سوف نقطع نصف الطريق لإيجاد الحلول، والخروج من عنق الزجاجة، ودعوني هنا أقدم بعض النقاط السريعة لتوضيح ذلك:


ـ الحرب التي نتحدث عنها هي عدوان حقيقي يُشن على الدولة الوطنية الليبية، والشعب الليبي بأدوات داخلية، وإقليمية، ودولية.

ـ العدوان الذي نتحدث عنه استخدم كل أدوات الإجرام، والقتل، والتدمير، وكي يفهم البعض ذلك عليه أن ينظر إلى عمليات إدارة التوحش التي تتم في ليبيا، والمنطقة، وإلى منظري الديمقراطية الأخوانية ـ  العثمانية، الذين يقودون هذه العملية.

ـ ليبيا تحارب مليشيات ومرتزقة وجماعات أخوانية، وهؤلاء تتقاطع مصالح العولمة المتوشحة مع أدواتها المتخلفة والرجعية في المنطقة (الإخوان- العثمانية...) وبقيادة أمريكية ـ تركية، مع اعتماد أدوات جاهلة في الداخل، ومتورطة وفاسدة، ومنظرة- وتافهة في أغلب الأحيان.

ـ إن السند الحقيقي الذي يجب أن نقف خلفه، وندعمه بكل قوانا من أجل مواجهة هذا العدوان الهمجي هو الجيش العربي الليبي الذي شكل عبر تاريخ ليبيا المعاصر القوة الوطنية الجامعة لكل الليبيين، وإن أي محاولة للمقارنة بين هذا الجيش، ومجموعات مسلحة مرتهنة للخارج هو عمل انتهازي- ساقط أخلاقيا - ووطنياً، ولهذا فإن تذاكي بعض (المعارضة) على الليبيين لا وزن له، ولا تأثير في معركة، وحرب بحجم ما يجري في ليبيا.

ـ إن سعي حكومة الدبيبة، للاستنجاد بالمؤتمرات الدولية عبر قوى إقليمية، ودولية، والركض من عاصمة إلى أخرى معتقداً أن الحل تارة في تركيا، وتارة في قطر، وتارة في برلين... ليس إلا مضيعة للوقت، والجهد، فمن يحسم على الأرض المعادلة الاستراتيجية فهو من ينتصر، ويحق له الجلوس حول الطاولة، وما هو مطلوب من الشعب الليبي التوحد، ودعم الجيش العربي الليبي في معركته ضد التكفيريين والإرهابيين الذين يشكلون رأس حربة المشروع المعادي لتقسيم ليبيا وتفتيتها.


خلاصة الكلام: كثيرون مروا في ليبيا، ثم رحلوا ولم يبق سوى أهلها الذين اختاروا أهليتهم الوطنية، فيما انتهى كل عبث بمقدرات البلاد وأهلها إلى الزوال، ولو أنها مرحلة مرت بكوارث وفواجع. وليبيا ليس جديدا عليها أن تقارع وتحارب، أن تجتث وتستأصل، أن ترفض كل تجربة لا تؤذي الحاضر فقط بل المستقبل بالتحديد. المليشيات والجماعات الإرهابية، هي العنوان الذي يؤهله صانعه لمسح الحاضر، من أجل صناعة قيم مختلفة في كل مناحي الحياة من السياسة إلى الفكر والثقافة والفن والاجتماع والاقتصاد، ثم والأهم إلى تقسيم ليبيا. يقول المناضل العربي الشهير شيخ المجاهدين عمر المختار (1858 ـ 1931): إنني أؤمن بحقي في الحياة وهذا الإيمان أقوى من كل سلاح. ولكن حينما أقاتل كي أغتصب وأنهب لأعيش أكون غير جدير بحمل صفة إنسان ولا بالدفاع عن حقي في الحياة. تلك هي تبعات المعادلة التي تنطبق اليوم على غزاة ليبيا فرداً فرداً...