في قلب الحوش "وسط المنزل الليبي"، عائلة من شارع الزاوية بالعاصمة الليبية طرابلس، في جلسة مسائية اجتمع فيها الأب الشاب مع زوجته وأولاده الصّغار الذين يلعبون هنا وهناك في أركان الحوش. كانت أصوات الانفجارات قد بدأت، أصوات عهدها الليبيون  وألفتها آذانهم ، اشتدّت فجأة وتعالت وانتشر الهلع بين الجيران وفي الشارع، فدون سابق إنذار"دقت طبول الحرب والصراع " من جديد في العاصمة طرابلس.

ركض الأب مسرعا إلى أولاده يحاول إدخالهم إلى المنزل وما هالهم إلا قذيفة تصيبه فتنسف نصف رأسه أمام أولاده وزوجته المرتعبين، لتليها قذيفة أخرى دكت معظم المنزل دكاّ بينما اختبأت الزوجة المسكينة وأطفالها المصعوقين من هول مصابهم تحت السلالم وهم يراقبون جثة والدهم  الهامدة أمامهم، لساعات ظل هذا المشهد المؤلم  يرجّهم رجّا فلا أحد من جيرانهم أو حتى الإسعاف قادر على الوصول إليهم وسط احتدام الإشتباكات.

مشهد سيطبع في ذاكرة الأطفال الصغار وفي ذاكرة شارع الزاوية وفي ذاكرة طرابلس المنكوبة وليبيا كضحية للإنقسامات والصراعات ومسرح للمليشيات المتناحرة.


يقول شهود عيان لبوابة إفريقيا الإخبارية، أن الإشتباكات بدأت بالأساس بين الكتيبة 77 بقيادة هيثم التاجوري، وجهاز دعم الاستقرار التابع للمجلس الرئاسي بقيادة عبد الغني الككلي المعروف بـ"غنيوة"، معركة يؤكّد محدثونا أنها كانت بالأساس معركة نفوذ و" تكسير عظام" بين التشكيلتين. حيث أن هذه المليشيات تقتسم العاصمة وتبسط هيمنتها فيها وتسعى كل مجموعة للسيطرة على أكبر رقعة جغرافية ممكنة وهو ما يمنحها بالتالي السلطة والنفوذ وما يساهم في المقابل في تواصل الفوضى والصراع والإنقسام.

بدأت الإشتباكات بعد محاولة مجموعات مسلحة تابعة للككلي بمهاجمة مقر 77 من أجل السيطرة عليه وهو ما تسبب في اندلاع الشرارة الأولى لليلة المرعبة التي عاشتها معظم أحياء طرابلس، معركة يجزم محدّثونا أنها معركة مصالح واستعراض للقوة ومحاولة واضحة للسيطرة على السلطة في طرابلس من الكتيبتين المتناحرتين ما يمنح بذلك أسبقية لمن يقف ورارء كل منهما.

تعتبر ميليشيات غنيوة من بين أكثر المليشيات الدامية في طرابلس وتبسط هيمنتها على منطقة بو سليم والهضبة وأجزاء من طريق المطار، وتنشط تحت زعامة عبد الغني الككلي الذي تحوّل من تاجر مخدرات وأحد أبرز أمراء الحرب بطرابلس الى مسؤول أول عن جهاز سيادي جديد إخترعه رئيس المجلس الرئاسي السابق فائز السراج تحت إسم "جهاز دعم الاستقرار". وتتولى هذه المليشيات تأمين مناطق مهمة وحيوية في العاصمة الليبية.

ورغم التقرير الصادم   الصادر عن منظمة العفو الدولية الذي كشفت فيه  أن  جهاز دعم الاستقرار يرتكب انتهاكات مروعة من قتل غير مشروع، واحتجاز الأفراد تعسفيا، واعتراض طرق المهاجرين واللاجئين واحتجازهم، وممارسة التعذيب وفرض العمل القسري وغير ذلك من الانتهاكات المروعة لحقوق الإنسان وجرائم مشمولة في القانون الدولي، الذي طالبت على إثره السلطات الليبية بقيادة عبد الحميد الدبيبة بإقالة ومحاسبة عبد الغني الككلي المعروف بـ"غنيوة" ولطفي الحراري حيث أكّدت أنهما  يقودان ميليشيات ويرتكبان انتهاكات ويتقلدان مناصب في الدولة. 

إلا أن خارجية الدبيبة أكّدت أن المنظمة لم تجر أية زيارات للأجهزة "الأمنية"، وتقصد هنا المليشيات، المذكورة ولم تستفسر منها عن أية خروقات أو نشاطات قامت بها قبل إعداد التقرير وعند زيارتها للبلاد.واعتبرت حكومة الدبيبة أن تقرير منظمة العفو الدولية الأخير "تسييس فج وتصعيد غير مبرر وإساءة استخدام التعاون". 

أما ميليشيات الكتيبة 77 التابعة لهيثم التاجوري، كان يشتغل سائق لسيارة أجرة قبل أحداث فبراير2011، ليصبح فيما بعد قائد ميليشيات بارز يساند "من يدفع أكثر" ويبسط نفوذه في العاصمة تحت مسمى ميليشيات" ثوار طرابلس" التي تسيطر أساسا على منطقة صلاح الدين وبعض المناطق المتفرقة في العاصمة، وتتمركز أيضا في مقر مزرعة النعام بتاجوراء. كما تسيطر هذه الميليشيات على البريد المركزي وعدد من الوزارات ومديرية أمن طرابلس.

وقد شارك التاجوري البالغ من العمر 37 سنة فقط، في عديد العمليات المشبوهة وعمليات الإختطاف التي طالت قادة بارزين في ليبيا ، الكثير منهم ينتمي إلى نظام العقيد الراحل معمر القذافي، وغيرهم. وعرف أيضا بابتزاز قيادات عليا ورجال الأعمال ما جعله من أغنى قادة المليشيات إذا تثير ثروته الطائلة واستثماراته الكثير من التساؤولات.

تطورت الإشتباكات إلى معاضدة من السلطتين المتنازعتين في ليبيا، وانظمت إلى قوات هيثم التاجوري  كتائب مساندة حيث تحرك اللواء 217 بقيادة سالم جحا من مدينة مصراتة إلى العاصمة طرابلس، كما تحركت أيضا قوات تابعة لأسامة الجويلي لتقديم الدعم للكتيبة 77 وهي كتائب معروف بمساندتها لرئيس الحكومة الليبية فتحي باشاغا، تحركت لمواجهة المليشيات الموالية لرئيس حكومة الوحدة الوطنية عبد الحميد الدبيبة، أين بدأت حرب ضروس امتدت على معظم شوارع العاصمة طرابلس من منطقة بني غشير وشارع الزاوية وشارع الجمهورية وشارع بن عاشور و طريق المطار وشارع ولي العهد وشارع المشروع مسببة هلعا وذعرا كبيرن في العاصمة التي خلت من سكانها حيث اتخذوا من منازلهم المهدّدة بالنسف مكان للإختباء من ضراوة المواجهات.

يؤكّد محدّثنا، الذي رفض التصريح عن إسمه، أنه لولا تدخّل طائرتين تركيتين لحسم المعركة لصالح الدبيبة، لاستمرت الاشتباكات بتقدّم الكتائب المساندة لفتحي باشاغا. وأكّد المتحدث الذي كان شاهد عيان على الإشتباكات أن الطائرتين التركيتين أجبرت الكتائب التابعة لأسامة الجويلي على التراجع، تصريح أكّد صحة التقارير البريطانية التي كذّبتها تركيا نافية تدخّلها في الإشتباكات، والتي أفادت أن القوات التابعة لأسامة الجويلي قد تعرضت  لضربات بـ18 صاروخا من طائرة مسيرة تركية وهو ما أكده مسؤول غربي أيضا.

اشتباكات طرابلس.. شبح الحرب المفتوحة يخيم على الأجواء الليبية | نون بوستاشتباكات تهز ضواحي طرابلس.. وتعيين باثيلي مبعوثاً خاصاً إلى ليبيا | أخبار  DW عربية | أخبار عاجلة ووجهات نظر من جميع أنحاء العالم | DW | 03.09.2022الأمم المتحدة تدعو للتهدئة في طرابلس وتجنب تعميق الانقسامات

اشتباكات راح ضحيتها 32 قتيلا و159 مواطنا مدنيا ليبيا وخلفت خسائر فادحة في المساكن والمباني والسيارات والبنية التحتية. وأعادت ليبيا إلى ما قبل "اتفاق وقف إطلاق النار"، إذا لا يمكن أن نعتبرها اشتباكات بقدر ماهي خرق للمواثيق الدولية بكل المقاييس من تبادل لإطلاق النار واستهداف للمدنيين وتدخّل لقوات أجنبية وهي البنود الأساسية التي نص عليها الاتفاق. فهل يمكن اعتباره ساري المفعول أم ملغا بعد هذه الإشتباكات؟