ما قامت به الميليشيات التابعة لحكومة فائز السراج الأربعاء، أكد مرّة أخرى أن سلطات طرابلس حشرت نفسها في زاوية ضيقة، وباتت مجرد أداة في يد جماعات الإسلام السياسي والميليشيات الجهوية المتحالفة معها، والمطلعون على حقيقة ما يدور في قاعدة بوستة البحرية يدركون جيدا أن الحاكم الفعلي الآن في المجلس الرئاسي وحكومته، هو فتحي باشا أغا وزير الداخلية المفوض، الذي عينه السراج في هذا المنصب في أكتوبر 2018 من أجل ضمان ولاء ميليشيات مصراتة، فأصبح الحاكم بأمره في العاصمة، وفي المجلس والحكومة.

فجر الأربعاء، استفاق الليبيون على خبر سيطرة قوة حماية الجنوب التابعة لحكومة الوفاق، كما يقول الخبر، على قاعدة تمنهنت الجوية، جنوب شرق سبها، واندفعت وسائل إعلام الإخوان وحلفائهم، لتقديم الخبر العاجل بالبنط العريض، وفتحت أبواقها للمحللين مما رأوا في هذه الخطوة نجاحا لقوات السراج، وبدأت بعض الجهات الميليشياوية تنشر بيانات المباركة، بينما كان القيادي الإخواني خالد المشري رئيس مجلس الدولة الاستشاري يعقد مؤتمرا صحافيا في سفارة بلاده بتونس، ليعلن أن من سيطر على تمنهنت ضَمنَ السيطرة على الجنوب، وأن قوات الوفاق تتجه لبسط نفوذها على الجفرة لقطع الإمدادات عن قوات حفتر، وفق تعبيره طبعا.

ساعات قليلة وانتهى الموضوع، فالجيش حرر قاعدة تمنهنت في يناير 2019 وسلمها كبقية المؤسسات لجهات مدنية للإشراف عليها وتسييرها، حيث تم تشغيل القاعدة كمطار مدني تشرف على تأمينه مفرزة صغيرة من الشرطة، وقد استغل بعض المسلحين المرتبطين بالمجلس الرئاسي ومن كانوا يعيثون فسادا في إقليم الفزان هذه الوضعية وهاجموا القاعدة، قبل أن يصل الخبر إلى الوحدات العسكرية التي ردت بعنف، واكتشفت أن أغلب المعتدين هم من عناصر المعارضة التشادية المسلحة مع بعض الانفصاليين التبو، الذين سرعان ما ذهبت ريحهم بين قتيل وجريح وفارّ في مجاهل الصحراء.

مساء الأربعاء وبعد طي صفحة قاعدة تمنهنت، جاء الخبر من غريان، الواقعة في الجزء الشمالي الغربي لليبيا على قمة الجبل الغربي. وتحديدا على بعد 75 كيلومترا جنوب مدينة طرابلس، حيث أعلنت قوات السراج أنها طردت الجيش الوطني من المدينة، وما زاد في تضخيم الصورة هو الانسحاب التكتيكي للجيش من مدينة العزيزية الواقعة بين طرابلس وغريان، ليتبين لاحقا أن وحدة صغيرة من مسلحي ما كان يسمى المجلس العسكري غريان حاولت الاعتداء على قوة أمنية تابعة للحكومة المؤقتة المنبثقة عن مجلس النواب، فتم التصدي لها بقوة، بينما شهدت العزيزية أكبر ضربة لمسلحي الميليشيات التي يتزعمها أسامة الجويلي وعماد الطرابلسي وحيث تظاهر إحدى كتائب الجيش بالخروج من المدينة، ما أغرى الميليشياويين بملاحقتها إلى أرض براح، لتتدخل المروحيات بقوة، وتبدأ في عملية حصاد لأعداد غفيرة من مسلحي المجلس الرئاسي، ثم عادت قوات الجيش إلى العزيزية من جديد.

بين تمنهنت وغريان، اعتقدت الميليشيات أنها قادرة على ضرب معنويات الجيش ومن ورائه الروح المعنوية للشعب الليبي الداعم في أغلبيته الساحقة لعملية طوفان الكرامة، وذهب في ظن حكومة الوفاق أنها ستعيد خلط الأوراق من جديد، بما يعني انتصار الميليشيات والجماعات الإرهابية في معركة يعتبرها الليبيون معركة المصير.

الحقيقة أن المجلس الرئاسي الذي أصبح تحت قيادة ميليشياوية يتزعمها وزير الداخلية فتحي باشا أغا، والذي وافق أن يقصف مسلحوه أحياء آمنة في طرابلس ما أدى إلى سقوط قتلى وجرحى، فقط لاتهام الجيش بذلك، ثم إدانته داخليا وخارجيا، بات يخبط خبط عشواء، فاقدا بوصلته، لأسباب عدة منها أولا لأنه اعتبر الجيش الوطني عدوا عليه أن يقاومه، رغم أن الجيش وصل إلى تخوم طرابلس وهو يعتقد أنه سيدخل العاصمة دون قتال، وفق اتفاق سابق بين السراج والمشير خليفة حفتر، كان الهدف منه تسهيل التوافق على حل سياسي في البلاد بضمانة مؤسسات الدولة، وعلى رأسها القوات المسلحة التي كانت تتجه إلى توحيد صفوفها.

وثانيا أن المجلس دخل في منعرج خطير عندما بدأ في هدر أموال الليبيين من أجل محاربة الجيش، وما حدث في تمنهنت وغريان ليس بعيدا عن تلك الأموال التي بات يستفيد منها الداعشي والقاعدي والمرتزق وحتى المتمرد التشادي، إضافة إلى فلول الجماعات الإرهابية التي كانت فرت من ضربات الجيش في شرق البلاد وجنوبها، ووجدت في المنطقة الغربية وخاصة في مصراتة وطرابلس والزاوية مستقرا لها تحت شعار واحد وهو معاداة الجيش الوطني وقيادته العامة.

وثالثا أن سلطات طرابلس الحالية لم تدرك أنها اختارت مواجهة أغلب القوى الدولية الفاعلة، الأمر الذي يترجمه توافق نادر في مجلس الأمن بين روسيا والولايات المتحدة على رفض البيان الألماني الداعي لوقف المعارك، فإذا حاولنا تبرير الموقف الروسي بأنه ينطلق من طبيعة دبلوماسية موسكو الداعمة لسلطة مؤسسات الدولة دون غيرها، فإن الموقف الأميركي لم يأت من فراغ، وإنما من قراءة للواقع بمختلف تجلياته وبما تمتلكه واشنطن من أدلة سواء عن اعتماد حكومة الوفاق على جماعات إرهابية وإرهابيين ملاحقين دوليا، أو عن تورط ميليشيات محسوبة على الرئاسي في قصف المدنيين منذ أيام والادعاء بأن الجيش هو الذي يقف وراء ذلك القصف.

ورابعا، أن هناك غموضا في مجريات الأحداث يشير إلى أن أطرافا إقليمية ودولية هي التي دفعت بالمجلس الرئاسي وحكومته غير المعتمدة، إلى نقض تعهداته السابقة سواء بتنفيذ الخطة الأمنية المنبثقة عن اتفاق الصخيرات والتي تقضي بنزع سلاح الميليشيات وبسط نفوذ مؤسسات الدولة، أو بتوحيد المؤسسة العسكرية، أو بالسماح بدخول الجيش إلى العاصمة تمهيدا للحل السياسي والمصالحة الشاملة، ومن مظاهر ذلك الغموض مثلا أن السلطات التركية كانت قد رفضت منذ أقل من شهرين السماح للقيادي الميليشياوي الخاضع لعقوبات دولية صلاح بادي بالعودة إلى ليبيا لحضور جنازة ابنه الذي توفي في أحد مستشفيات إسطنبول، وهي حالة إنسانية كما نرى، ثم دعته للمغادرة نحو مصراتة عندما بدأ الجيش التقدم نحو طرابلس، بل وأكدته له دعمها إياه في المعركة.

وخامسا، إن اتجاه المجلس الرئاسي للتشفي من المدن والمناطق والقبائل الداعمة للجيش مثل غريان وترهونة والجفرة وورشفانة، واستهداف سكانها المحليين بسلاح الجو، وحملات تكميم الأفواه في العاصمة، والبحث عن سيناريوهات للاستعراض الإعلامي بخلفيات جهوية وقبلية وفئوية ومناطقية، يجعل المجلس يخسر كل أوراقه، ولعلّ ما شهدته قاعدة تمنهنت ومدينة غريان الخميس يصب في تلك الخسارة، بينما يحقق الجيش نجاحات مهمة وعلى رأسها إقناعه الليبيين بأنه يدافع عن أمنهم المهدد وثروتهم المبددة وكرامتهم المهدورة وسيادة دولتهم المنتهكة ومكانة بلادهم المخترقة من قبل لصوص المال ودعاة الفتنة وعتاة الإرهاب والطامعين الإقليميين والدوليين.


(الحبيب الأسود - العرب اللندنية)