منذ أن أحكم تنظيم الدولة الإسلامية في العراق و الشام "داعش'' السيطرة على مدينة الموصل في وقت سابق من الشهر الجاري بدأت الأخبار تتوارد حول قيامه بحملة ممنهجة لتدمير الآثار الموجودة بالمدينة ،الدينية و الفنية ،ففي 19 يونيو/حزيران الجاري ،التقطت كاميرات المصورين فيديو لمسلحي داعش في العراق، هم يقمون بتحطيم تماثيل لرموز دينية وثقافية عراقية مرموقة بمدينة الموصل،وتظهر في اللقطات ، ثلاثة تماثيل ملقاة على ظهر شاحنة، بعد تحطيمها ورفعها على السيارة.وحصل على الفيديو صحفيون من وكالة "أسوشيتد برس" في مدينة الموصل، الذين تحققوا من صحة الفيديو بمطابقة المواقع التي جاءت فيه، والتحدث مع الأشخاص الذين صوروا اللقطات.و يعود أحد التماثيل إلى عثمان الموصلي، وهو عازف وملحن عراقي مشهور، ويعود تمثال آخر إلى شاعر العصر العباسي العراقي المشهور أبو تمام،كما قام التنظيم بازالة  مرقدًا دينيًا سنيًا، غربي مدينة الموصل يعود للشيخ فتحي بن سعيد.(1)

و هذا أمر كان متوقعا لدى المهتمين بالشأن الجهادي فالمسألة ليست جديدة،فأفغانستان و مالي و ليبيا و سورية كلها مازلت شاهدا قويا على سلوك التنظيمات الجهادية تجاه الآثار و التراث بكل تنوعه الفني و الديني و الطائفي و بغض النظر عن قيمته المادية و التاريخية "فلا صوت يعلو فوق صوت التفسير الفقهي الجامد"،فالتيار الجهادي المعاصر دأب و منذ 2001 في وضع الآثار عل قائمة خصومه ،ففي مارس/آذار عام 2001 قامت حركة طالبان الأفغانية بتدمير تماثيل بوذا في باميان أو كما تعرف بإسم "بوذا باميان" باستخدام الديناميت بذريعة  مخالفتها للشريعة الإسلامية "كأصنام تعبد من دون الله" و هي نفس الحجة التي تعتمدها كل الحركات الجهادية في العالم لاستهداف الاثار و التراث المادي في المناطق التي تسيطر عليها،فهي الحجة التي نسف بموجبها تمثال أشوري عمره ثلاثة ألاف سنة الشهر الماضي في محافظة الرقة السورية على يد عناصر من تنظيم "داعش".

وقود الفتنة

تشكل الاثار المقدسة في وجدان الكثير من المؤمنين بقداستها أمرا عظيما و العبث بها أو استهدافها يشكل عبثا بالوحدة و التجانس داخل المجتمعات ذات التنوع الاثني و الديني و الطائفي ،فحين دوت تفجيرات مرقد ضريح العسكريين في فبراير 2006 و التي استهدفت ضريح الإمامين علي الهادي والحسن العسكري في سامراء في العراق الذي له قدسية لدى الطائفة الشيعية ،انطلقت معها الحرب الطائفية فردت بعض الميليشيات الشيعية الفعل بإحراق مساجد سنية وهدمها و حدثت أعمال قتل عشوائي و أعلن الوقف السني أن ما يقرب 168 مسجداً سنياً تعرض للهجوم وتم قتل 10 أئمة في المساجد وخطف 15 آخرين في بغداد وحدها.(2)

و في تونس و ليبيا عصفت الحرائق المدبرة و الاستهداف الممنهج بعشرات المراقد و الأضرحة التاريخية ،اذ بلغت في تونس الحصيلة 150 ضريحا بين سنتي 2012 و 2013 ،فقد كاد حرق مقام "سيدي بوسعيد الباجي"، العالم المتصوف الذي منح اسمه للقرية التي تطل على خليج تونس بالضاحية الشمالية للعاصمة وهي قبلة السياح الوافدين من مختلف دول العالم،أن يشعل أزمة في البلاد بسبب اتهامات لحكومة حركة النهضة الاخوانية انذاك بعدم تحمل المسؤولية في حماية المراقد و الأضرحة.

وتقول وسائل إعلام محلية ان جماعات "سلفية متطرفة" شرعت منذ الإطاحة في 14 كانون الثاني/يناير 2011 بالرئيس السابق زين العابدين بن علي، في هدم أضرحة صوفية بكامل أنحاء البلاد وفي دعوة المواطنين إلى الكف عن زيارتها لأن في ذلك "شركا بالله". (3)

الأمر نفسه في ليبيا المجاورة،ففي أب/أغسطس 2012 قامت عناصر جهادية بهدم مسجد "سيدي الشعاب الدهماني"، القريب من وسط العاصمة طرابلس، والذي يزوره الناس للتبرك به، وقاموا بانتهاك حرمة القبر. قبل ذلك قامت مجموعة سلفية جهادية بتفجير ضريح للعالم الصوفي الشيخ عبد السلام الأسمر، الذي عاش في القرن التاسع عشر، وأضرمت النار في مكتبة مسجد في مدينة زليتن، كما ظهر في شريط فيديو بثته شبكات للتواصل الاجتماعي على الانترنت، ويظهر في التسجيل تفجير الضريح بحضور عشرات المتشددين وسط هتافات "الله اكبر". (4)

تدمير أثار الأقليات...القضاء على التنوع

إلى جانب ما يخلفه استهداف الآثار من خسارة رمزية و مادية فان الجانب الموجه منه نحو الأقليات موجب للقضاء على التنوع الديني و الطائفي و الذي كان يشكل مصدر ثراء للمنطقة العربية سابقا و تحول لاحقا إلى أحد أهم مصادر التوتير و الاحتقان،فمعاول الجهاديين لم ترحم كنائس المنطقة و وأديرتها التاريخية ،فقد تحولت كنائس سورية مثلا في الفترة الأخيرة إلى مقرات عسكرية و شرعية للتنظيمات الجهادية المقاتلة هناك،ككنيستي البشارة والشهداء في محافظة الرقة و غيرهما.

فقد أكد الأب مكاريوس عطا من كنيسة القديس أنطونيوس الكبير ببني سويف، والذي قدم إلى مصر في أواخر 2012 آتيا من كنيسة السيدة العذراء بحمص، "إن معظم الكنائس السورية الواقعة في المناطق الخاضعة لسيطرة الإسلاميين تعرض للتخريب والاحتلال، وبالتالي مُنعت إقامة الشعائر الدينية فيها، كما تم  تدمير عدد من الكنائس بشكل كامل بعد أن تمركزت العناصر الإسلامية المتطرفة فيها، ومنها كنيسة حي الجديدة في حلب، وكنيسة السيدة في بستان الديوان، وكنيسة سيدة السلام وكنيسة أم الزنار والكنيسة الإنجيلية في حمص.

و أضاف الاب ماركوس في مقابلة صحافية، وفي دير الزور رصد هدم كنيسة السريان وكنيسة اللاتين وكنيسة ودير الرهبان الفرنسيسكان الكبوشيين.والتعديات على الكنائس والأديرة فيها أيضا خسائر أثرية وتاريخية، وفقا للأب عطا الذي أوضح أن "الكثير من كنائس وأديرة سوريا تعود إلى القرون المسيحية الأولى، وأهمها كاتدرائية مار سمعان العامودي الواقعة على بعد حوالي 40 كيلومترا من حلب والتي يعود تاريخها إلى القرن الرابع ميلادي، وهي من أجمل وأكبر الكنائس في العالم حيث تبلغ مساحتها 5000 متر مربع".

وقد أدرجت الكاتدرائية والقرية المحيطة بها على لائحة اليونسكو للتراث العالمي في عام 2011، ولكنها تعرضت منذ فترة إلى التخريب على يد عناصر من جبهة النصرة، بحسب ما أوردته وكالة "سورية الآن" في تشرين الثاني/نوفمبر 2013.وتابع الأب عطا "كذلك هناك معلولا وأبنيتها الدينية خصوصا دير مار تقلا ، بالإضافة إلى الكنيسة الأثرية الواقعة في حي الحميدية بحمص القديمة". (5)

و في الموصل العراقية أقدمت عناصر الدولة الإسلامية في العراق و الشام "داعش" على تدمير و حرق 11 كنيسة ودير من أصل 35 موجودة في عموم المدينة التاريخية، ودمروا قبر نبي الله يونس ثم مقام نبي الله شيت وهم من الأنبياء المذكورين لدى المسلمين والمسيحيين على حد سواء.(6)

تمبكتو..الجوهرة الضائعة

تعتبر تمبكتو - المصنفة ضمن التراث العالمي للبشرية من قبل منظمة اليونسكو – بوابة الصحراء و العاصمة الإسلامية الأشهر على الإطلاق في إفريقيا غير أنها لم تسلم من معاول الجهاديين،الذين تمكنوا من احتلال شمال مالي المتكون من مدن غاو Gao  ، تومبكتو وكيدال ، في يناير 2012. و تتألف هذه المجموعات من تحالف متباين من الحركات الإسلامية مثل أنصار الدين، تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي والحركة من أجل التوحيد والجهاد في غرب أفريقيا .

ففي حزيران /يونيو 2012 قامت حركة أنصار الدين الجهادية بتدمير سبعة أضرحة ودور عبادة إسلامية في المدينة التاريخية ،كما قاموا باضرام النار في مكتبة مخطوطات قديمة في المدينة أثناء فرارهم منها قبل دخول القوات الفرنسية والمالية ، ويوجد في تمبوكتو حوالي 300.000 مخطوط محفوظا البعض منها يعود إلى مابين القرنين 13 و 16 للميلاد ألفها علماء من المدينة ومن مدن أخري أو تمت مقايضتها في اسواق شمال إفريقيا وبلاد الأندلس والبلدان الواقعة في الشرق،وتشهد هذه المخطوطات على حضارة عريقة تحتوي على  دراسات دينية ورياضيات والطب وعلوم الفلك والموسيقي والادب والشعر والهندسة المعمارية. وقد ساعدت اليونسكو علي انشاء مركز البحث احمد بابا حيث وضعت 40.000 مخطوط منها 10.000 مخطوط مرقمن.(7)

قصور العقل الأصولي

تنطلق كل التبريرات الفقهية و الشرعية التي تتخذها المجاميع الجهادية لتدمير الآثار و التراث في العالم الإسلامي من فكرة واحدة و هي "محاربة الشرك و عبادة الأصنام" فكرة تقوم على أمر متخيل غير واقعي و غير منطقي في دول تقوم على أغلبية إسلامية من المستحيل أن تعود إلى "طور الوثنية" الى جانب نظرة قاصرة من هذا العقل الأصولي تجاه بقية المكونات الطائفية و الدينية في المجتمع بالرغم من أن النصوص الإسلامية الأصلية (القرآن و الحديث) قد منحت هذه الأقليات حقوقا واسعة في ممارسة العبادات و الاحتفاظ بآثارها و كنائسها و معابدها .

نموذج ليس ببعيد عن مثل هذا القصور كشفه القيادي بالدعوة السلفية الجهادية في مصر، مرجان سالم الجوهري،حين دعا في إحدى اللقاءات التلفزية إلى تحطيم تمثال أبوالهول والأهرامات وكل التماثيل في مصر ،وقال الجوهري: "يجب تحطيم الأصنام والتماثيل التي تمتلئ بها مصر، والمسلمون مكلفون بتطبيق تعاليم الشرع الحكيم، ومنها إزالة تلك الأصنام كما فعلنا بأفغانستان وحطمنا تماثيل بوذا".وأضاف: "نحن مكلفون بتحطيم الأصنام وسنحطم تمثال أبوالهول والأهرامات لأنها أصنام وأوثان تعبد من دون الله".وأضاف الداعية السلفي أن الله عز وجل أمر نبيه محمد (صلى الله عليه وسلم) بتحطيم الأصنام، مضيفاً: "عندما كنت ضمن حركة طالبان قمنا بتحطيم تمثال بوذا رغم أن الحكومة هناك فشلت في تحطيمه".(8)

 

المصادر

(1)- الرابط

(2)- الرابط

(3)- الرابط

(4)- الرابط

(5)- الرابط

(6)- الرابط

(7)- الرابط

(8)- الرابط

 

*"معهد العربية للدراسات"