في مثل هذه الأيام من عام 1986 و تحديدا يوم 24 مارس، سجل الليبيون حدثا فارقا عندما تمكن سلاح الجو الليبي من التصدي للطيران الأمريكي "الأقوى في العالم"، ومقارعته بندية تامة في مواجهات خليج سرت، حيث تمكنت وسائل الدفاع الجوي الليبي من إسقاط الطائرات الأمريكية فوق مياه خليج سرت، لتلتحق بسابقتها التي أسقطها سلاح الجو في المواجهة الجوية الفارقة في 19أغسطس 1981 عندما تم إسقاط أول طائرة أمريكية F14  من قبل نسور الجو الليبيين.

أحداث مواجهة سلاح الدفاع الجوي الليبي، التي تمر اليوم ذكراها الرابعة والثلاثين، وبكامل تفاصيلها يرويها أحد أبطالها الذين شاركوا فيها وهو العميد المتقاعد في قوات الدفاع الجوي الليبي محمد خليفة نائل، والذي أمده الله بالعمر ليسرد هذه الملحمة، ويوثقها لتبقى علامة ومناسبة أخرى يحتفى بها ضمن سجل الشرف الذي يحفل به تاريخ هذا الشعب وهذه الأمة على الرغم من كل حالات التردي ولحظات التراجع لتبقى مثار أمل في النهوض من جديد، وتقوم بوابة افريقيا بنشر هذه التفاصيل دون تدخل أو تعديل كما صاغها نائل، والذي عنونها بـ " بركان التحدي والتصدي والصمود"، وسردها على النحو التالي: 

يوافق اليوم24مارس الذكرى الـ ( 34 ) لاسقاط الطائرات الامريكية فوق خليج سرت ، بوسائل الدفاع الجوي العربي الليبي .

توطئة واجبة :

لعل من أهم المحطات في حياتي المهنية كعسكري محترف (1981م/2014م) ، تلك التي شاركت من خلالها في المواجهات الحربية ضد الأسطول السادس الأمريكي ، في خليج سرت في منتصف ثمانينيات القرن الماضي كضابط بقطاع سرت للدفاع الجوي .بالرغم من الزخم الإعلامي المرئي والمسموع والمقروء، الذي واكب أحداث هذه المواجهات، لكن الكثير من الليبيين وغيرهم، لا يصدقون أن الدفاع الجوي الليبي أسقط طائرات أمريكية في خليج سرت ظهيرة يوم 24مارس 1986م، ويعتبرون ذلك من قبيل الدعاية والتضخيم .

كثيراً ما فكرت بالكتابة حول هذا الحدث، الذي عايشت تفاصيله، لكن في كل مرة أتوقف عند الحاجة الملحة للوثائق التي تدعم ما أكتب، وألجأ إلى التأجيل .مؤخراً عثرت على وثيقة مترجمة عن اللغة الروسية صادرة عن بعثة الخبراء الروس الفنية العاملة لدى الجيش الليبي، والمتواجدة على الأرض الليبية ، أبان أحداث خليج سرت، تضمنت الوثيقة التي أخذت شكل التقرير، تفاصيل تصدي الدفاع الجوي الليبي لاختراق الطيران الأمريكي للأجواء الليبية بتاريخ 24مارس1986م ، كانت هذه الوثيقة خير مرجع لي لكتابة هذه الرواية لما تضمنت من معلومات قيمة .

زمن السيادة :

السيادة والإستقلال من المقومات التي تقوم عليها الدول، وهي التي تحقق الهيبة والمنعة، وترفع الروح المعنوية للشعب، وتحافظ على المقدرات الوطنية من أطماع السلب، غير أن هذه المقومات لا تتأتى بسهولة، وتتطلب جهوداً مضنية لتحقيقها، تتمثل في سياسة وطنية قوية، وتقوم على نظام دفاعي أمني حصين، وتهيئة معنوية تستند على عقيدة واجبة التضحية بالأرواح لأجل ترسيخها .وكانت السيادة المطلقة على كامل ليبيا بأقاليمها الثلاثة، البري، والبحري، والجوي، تتصدر إنجازات النظام الجماهيري ، بقيادة الشهيد الصائم معمر القذافي، الذي عرف الليبيون في عهده معنى الاستقلال الحقيقي، وذاقوا من بعده مرارة فقدان السيادة والاستقلال والهيبة .

جذور الصراع 

كان القرار الليبي بإجلاء القواعد الأمريكية بعد بضعة أشهر من قيام ثورة الفاتح من سبتمبر 1969م ، والذي برهن على تحرر الإرادة الليبية، وصار عيداً يحتفل به الليبيون سنوياً في الحادي عشر من يونيو، كان هذا القرار بداية إنهيار العلاقات بين البلدين، بالإضافة إلى دعم الثورة الليبية لحركات التحرر في العالم وعلى رأسها منظمة التحرير الفلسطينية، علاوة على السياسة النفطية التي انتهجتها ليبيا المتمثلة في تأميم الشركات النفطية، وإعلان ليبيا عام 1973م مياه خليج سرت مياه داخلية ليبية، ومعارضة أمريكا لهذا الإعلان، علاوة على الدعم الليبي لمصر في حرب اكتوبر 1973م ضد الكيان الصهيوني، من هنا بدأت سياسة كسر العظم التي مارستها الإدارات الأمريكية المتعاقبة، ضد الشعب الليبي وقيادته العنيدة، حيث تطور الخصام الليبي الأمريكي بمرور الزمن لاسيما في زمن الرئيس الأمريكي السبق دونالد ريغان في بداية الثمانينيات، ليأخذ شكل الصراع العسكري .

كانت المحطة الأولى في هذا الصراع، الإشتباك الجوي فوق خليج سرت، بتاريخ 19أغسطس 1981م، عقب إعلان القوات الأمريكية، إجراء مناورات حربية في البحر المتوسط ، حيث أسفر هذا الإشتباك غير المتكافيء، من حيث العدد ومن نوعية الطائرات " 8 طائرات F14 "اعتراضية امريكية، مقابل (2طائرة ) قاذفة ليبية، أسفر هذا الاشتباك عن إسقاط طائرة F14 من الجانب الأمريكي يقودها الطيار (هنري كليمان)، الذي لقي حتفه، وعن إسقاط طائرتين نوع سيخوي 22 من الجانب الليبي، يقودهما اللواء طيار بلقاسم امسيك، والعميد طيار ركن مختار الجعفري، اللذين كتبت لهما النجاة من خلال القفز المظلي، على إثر هذا الاشتباك ألغيت المناورات المقررة، وعرف الأمريكان جدية الليبيين في الدفاع عن أحقيتهم بخليج سرت .

في أواخر عام 1985م ، دفعت أمريكا إلى البحر المتوسط بحاملة الطائرات ( كورال سي ) وحاملة الطائرات ( ساراتوجا )، وحاملة الطائرات ( امريكا )، كان قوام هذه الحاملات قرابة 300 طائرة نصفها هجومي، علاوة على مساندة القواعد العسكرية الأمريكية الوقعة في الساحل الشمالي للبحر المتوسط، وظهرت دلائل الهجوم الجوي المعادي على شاشات محطات الرصد والانذار، وشاشات غرف العمليات في قطاعات الدفاع الجوي الليبية الساحلية، من خلال الطلعات الاستطلاعية والقتالية للطيران الامريكي، وأتذكر أنه في صباح 31ديسمبر1985م رفعت درجة أستعداد قطاع سرت للدفاع الجوي إلى الحالة ( الكاملة )، ولم تنزل عن (50%)، حتى نهاية عام 1986م .

في يناير 1986م أعلنت القيادة الليبية أن خط 32:30 كخط فاصل بين المياه الدولية والمياه الاقليمية الليبية وأطلق عليه إسم ” خط الموت ” ، ورفع القائد طيب الله ثراه شعار ( سيتحول خليج سرت إلى خليج أحمر عند اللزوم ) .

إعداد العدة :

استمرت المناورات الأمريكية في البحر المتوسط قبالة الشواطيء الليبية طيلة الثلاثة أشهر الأولى من عام 1986م ، وكانت ترتيبات رئاسة أركان الدفاع الجوي في أوجها، حيث دُعمت منظومة الدفاع الجوي الليبية، بمنظومات صواريخ أرض / جو، نوع سام5 (S200 ) ، التي يبلغ مداها القتالي (240كم )، كما دُعمت الشبكة الرادارية بمحطات رصد وإنذار المانية نوع أسترم 5 متطورة ذات مدى بعيد، وتم الربط بين المنظومات الشرقية الروسية والبولندية الصنع مع بعض المنظومات الغربية الألمانية، والفرنسية، والانجليزية، وذلك من خلال غرف قيادة وسيطرة متطورة تعتمد الحاسب الآلي في عملها، غطت كافة الاجواء الليبية، بالإضافة إلى المقاتلات الاعتراضية التي تعمل تحت القيادة القتالية لمنظومة الدفاع الجوي، وكانت جل الأطقم القتالية والفنية قد تلقت دورات استخدام قتالي وفني في الدول الموردة منها المعدات .

التحرشات :

خلال شهر مارس 1986م، كثف الأسطول السادس الأمريكي، من طلعاته الجوية الاستطلاعية، وسخر آلته الحربية الضخمة، بما تحوي من أقمار صناعية وطائرات تجسس، وطائرات استطلاع متطورة على غرار الطائرة (SR-71 ) المعروفة بـ الطائر الأسود ذات السرعة الخارقة ، سخر ذلك في دراسة الخواص التقنية والتعبوية لأنظمة الدفاع الجوي الليبي ، ومعرفة نقاط الضعف والقوة فيها ، بغية القيام بعدوان يستهدف إسكات منظومة الدفاع الجوي الليبية ، من خلال القيام بالتشويش الالكتروني ، ليتسنى لهم الاقتراب و توجيه ضربات ضاروخية جو أرض ، تستهدف محطات الرصد والانذار ، ومحطات توجيه الصواريخ م/ط ، ومن ثم القيام بضربات جوية على أهداف محددة بدقة ، لإسكات الصوت المناهض لسياسات أمريكا الامبريالية .

ضهيرة ربيعية ساخنة :

صباح يوم 24مارس1986م ، على تمام الساعة 01:00 كثف الطيران الامريكي تحليقه فوق البحر قبالة مدينة سرت ، وبشكل غير مسبوق ، وعلى حافة (خط الموت ) بمسافة إقتراب تتراوح بين(170 إلى 300كم ) تقريباً من اليابسة على إرتفاع بين ( 4إلى8كم ) تقريباً .

على تمام الساعة (13:00) تجاوز تحرك جوي بقوة طائرتين خط رفع درجة الاستعداد ، على الفور صدرأمر من غرفة عمليات قطاع سرت للدفاع الجوي ، برفع درجة استعداد وحدات الصواريخ م/ط بقوام قناتي فيجا ( سام 5) بلواء التحدي وكتيبتي فولجا (سام 2) وكتيبتي بيتشورا (سام3) بلواء المزن ، وكتيبتي ( سام6) كوادرات بلواء المرقب ، بالاضافة الى معدات الدفاع المحلي المدفعية م/ط ، أستمر التحرك بالمناورة والاقتراب ، تحت الرصد والتتبع الراداري ، وتم تمييزه كهدف معادي ، على تمام الساعة (13:45) دخل الهدف المعادي بقوة طائرتين منطقة تدمير منظومة (سام5) ، بعد تتبع محطة الرصد والدلالة على الأهداف ( ابارونا ) ، وفق المعلومات الآتية : (المسافة = 160كم ،الزاوية = 12 الارتفاع 4.5 كم ، السرعة=16 م/ ث). وقدم التمام لمركز العمليات بالجاهزية للرماية بواقع هدف لكل محطة توجيه ، على تمام الساعة (13:49) صدر الأمر بالرماية ، وعلى تمام الساعة 13.50 ، أطلقت القناتان من طراز (سام5) صواريخ فردية على الطائرات الامريكية التي تم رصدهما بشكل منفصل : ( المسافة115 كم ، الزاوية = 12 ° ، والارتفاع= 4.5 كم ، و السرعة= 160 م / ث.بمعدل 8 ثوانٍ. 25-30 ثانية ) .

بعد إطلاق الصواريخ بدأت الأهداف تفقد ارتفاعها بدون أي مناورة لتختفي من الشاشات على ارتفاع 2 إلى 2.5 كم. بعد 95 ثانية من الطيران بفاصل زمني قدره 6 ثانية ، وفي هذا دلالة على اصابة الطائرتين وسقوطهما في البحر .

ردة الفعل :

بعد الرماية الصاروخية ، كثف الأمريكان التشويش الالكتروني ، على قطاع سرت للدفاع الجوي ، مما نتج عنه تردي الاتصالات بين مركز العمليات والتشكيلات الصاروخية والرادارية وانقطاعها أحياناً ، وحدوث تشويش كامل على بعض الرادارت ، في حين استطاعت منظومة (سام5) التغلب على التشويش ، ومواصلة العمل بالكشف والتتبع للعدو ، في ظروف فقدان الاتصال بمركز العمليات ، وإعتماد السيطرة اللامركزية والتصرف من قبل آمر لواء التحدي ( سام 5) وفقاً لمقتضيات الحال ، في هذه الظروف وعلى تمام الساعة 18.42 التقطت القناة الاولى لصواريخ (سام5) هدف على بعد 120 كم وعلى ارتفاع 3 كم. وتمت اجراءات التصدي في تمام الساعة 18.44 ، و تم تدمير الهدف بصاروخ واحد على مسافة 100 كم،وارتفاع 3 كم ، بعد 25-30 ثانية من إطلاق الصاروخ ، باشر الهدف السقوط الحر وفقدان الارتفاع كما حدث للهدفين السابقين ، وذلك على ارتفاع 1.5 كم. حيث حدث تلاقي الصاروخ مع هدف عند المسافة 85 كم ،ارتفاع = 1.5 كم ، مع زمن طيران للصاروخ قدره 95 ثانية .

في هذا الوقت ، كانت حركة الطيران المعادي تنفذ مهامها بتداخل تشويش نشط ذي كثافة متوسطة ومنخفضة للرادارات P-14 محطة P-37 ومحطة P-18 ، في حين أن راداري Oborona-14 و PRV-17 لم يتداخل عملياً. في الساعة 20.47 إلى 20.50 توقف التشويش، وعلى مسافة 60 و 80 كم كان هناك هدفين. كلف قائد مجموعة كتيبة السام 5 مهمة بالاستطلاع و تم اكتشاف هدف على مسافة 70 كم ، واستمر الأول في مرافقة الهدف على مسافة 60 كم. جهزت وحدة الإطلاق الصواريخ الثانية الطاقة الكاملة وبدأت يدويًا في الالتقاط للرماية ، ولكن أقرب طائرة امريكية أطلقت صاروخين من نوع (هارم ) المضاد للرادارات . انفجر أول صاروخ هارم على مسافة 8 أمتار وارتفاع 9 أمتار وأصابت شظاياه هوائي كابينة القيادة K-1 . بينما حلق الصاروخ الثاني على الموقع على علو منخفض وانفجر عندما سقط على مسافة 10-11 كم من موقع مجموعة الكتيبة(سام 5 ) ولم يحدث اضراراً .

و كان من المقرر أن تضرب الطائرة الثانية التي تطير على مسافة 60 كم كابينة القيادة الأخرى K2 ، غير أن فطنة طاقمها فوتت الفرصة على العدو باطفاء المعدات وإيقاف الارسال الكهرومغناطيسي ، الأمر الذي منع من إطلاق صواريخ نوع (هارم) المتتبع للشعاع ، وغادرت الطائرتان قطاع المسؤلية .

الإصرار على التحدي :

أسفرت الضربة التي تلقتها محطة التوجيه (K1) ، عن أضرار متوسطة لحقت بهوائي المحطة ،وبعض الملحقات والكوابل .وفي خلال بضعة أيام عادت المحطة للعمل القتالي بعد تعويض الهوائي بمحطة التوجيه الخاصة بلواء التصدي (سام5 ) ببنغازي .

ها قدعدنا ياقذافي :

من الجدير ذكره في هذا السياق ، أن حلف الناتو عند قيامه بحملته العسكرية الحاقدة ضد ليبيا يوم 19مارس 2011م ، أستهل قصفه المحموم باستهداف مواقع الدفاع الجوي بسرت وعلى رأسها موقع لواء صواريخ التحدي (سام 5) " مرفق صور الموقع قبل وبعد القصف "، هذا بالرغم من معرفتهم المسبقة أن اللواء خارج العمل القتالي ، لمقتضيات الصيانة ، وفي هذا دلالة على أن هذا القصف أتى رداً على الضربات الموجعة التي تلقاها الأمريكان أبان المواجهات السابقة فوق خليج سرت .

تهنئة واعتزاز :

أهنيء بهذه المناسبة أبناء الشعب الليبي كافة، وأخص زملائي منتسبي الدفاع الجوي الليبي، الذين كانوا يغمرهم الفرح وهم يحتفلون سنوياً بهذه الذكرى العطرة .

ولئن توقف الاحتفاء بذكرى هذا الحدث البطولي ، وتنكر البعض له !!، لكنه يعيش في وجداننا نحن صانعيه ، معاني عظيمة ، وقيم وطنية سامية ، لإنتصار وطني نعتزبه ونورثه فخراً لابنائنا واحفادنا بعون الله .

......................................................................................................................................................

(*)العنوان اعتمد على أسماء ألوية صواريخ (سام5) المتمركزة في :

البركان زليتن ــ التحدي سرت ــ التصدي بنغازي ــ الصمود طرابلس .