في تقرير له تحت عنوان "معركة ليبيا الأخرى"، أشار معهد واشنطن للدراسات إلى أن ليبيا باتت الآن دولة منقسمة يهدّد العنف الذي يئزّ فيها منذ وقت طويل بالفوران.

وأضاف التقرير أن القتال احتدم في طرابلس في الـ 12 من يوليو بين ميليشيات إسلامية متشددة أتت من معقل الإخوان المسلمين في مصراتة وحلفائهم من شمال غربي البلاد وبين ألوية قومية مجهزة ومدربة من الزنتان. فقصفت الميليشيات المصراتية والإسلامية مطار طرابلس الدولي، الذي كان تحت سيطرة القوات الزنتانية منذ انتهاء الثورة، بعد احتدام القتال. وأدّت المعركة إلى تدمير 90 % من الطائرات على الأرض ما يساوي خسارة بقيمة 1,5 مليار دولار، الأمر الذي يشكل منعطفاً سوداويّاً لليبيا وازدياد إمكانية خوض البلاد حرباً أهليّة قبلية شبيهة بحرب عام 1936 مرة أخرى.

وواصل التقرير بالإشارة إلى وضوح القتال في بنغازي نوعاً ما، موضحاً أن الخلايا المتطرفة تسير على درب حرب العصابات، محاولةً استبدال نظام الدولة بنظامها غير الليبرالي. غير أنّ الوضع في شمال غربي ليبيا أكثر تعقيداً بكثير، لا بل يشبه التصارع على النفوذ السياسي الذي تصوّره الدراما التلفزيونية، إن أضيفت إليه الأسلحة الثقيلة.

ويشكّل المشهد الدولي عاملاً مهماً آخر، فيُفترض أن الإمارات ومصر تدعمان القوميين بينما تدعم تركيا وقطر والسودان الإسلاميين الذين يعتمدون على مصراتة، أي أن الحرب للسيطرة على طرابلس تمثل أيضاً حرباً بالوكالة لتيّارات إقليمية على نطاق أوسع.

كما لفت التقرير إلى أن اتجاهات سياسية عدة ساهمت في تأجيج الاشتباكات الأخيرة. أولاً، شلت حالة الجمود السياسي "المؤتمر الوطني العام" الذي كان على وشك أن يُحل والذي اعتمدت عليه عملية الدولة الانتقالية إلى الديمقراطية. ثم تم انتخاب 120 مرشح مستقل و80 مرشح آخر من اللوائح الحزبية خلال انتخابات حرة وعادلة أجريت في الـ 7 من يوليو عام 2012. ولاقت النتائج ترحيباً بارزاً مع فوز "تحالف القوى الوطنية" بـ 39 مقعداً ليصبح الأكثر تمثيلاً في "المؤتمر الوطني العام"، يليه حزب العدالة والبناء التابع لجماعة الإخوان المسلمين الحائز بسبعة عشر مقعداً.

وأكمل التقرير بقوله إن الدراسات أظهرت أن المرشحين الإسلاميين والسلفيين المستقلين تمتعوا بهامش ولو بسيط يفوق الأصوات الممنوحة للمرشحين المستقلين التابعين لـ "تحالف القوى الوطنية"، حتى أن بعض التقديرات أشارت إلى أن 80 % من المرشحين المستقلين المتوقعين كانوا من الإسلاميين أو المحافظين دينياً.

وأضاف التقرير أن الإسلاميين استطاعوا بالفعل استمالة الفاعلين الغير الإسلاميين عادة (كجماعة الأمازيغ مثلاً) من خلال الوعد بمنحهم حقوق ثقافية أوسع. كما استغل الإسلاميون النزاعات القبلية والإقليمية والإثنية لتهميش المعارضة. وفي نهاية الأمر، لم يجد "تحالف القوى الوطنية" عدداً كافياً من المرشحين المستقلين يتحالف معه.

ونتجت عن الأزمة السياسية آثاراً كارثية في ليبيا حيث تغيب المؤسسات والقواعد والإجراءات الديمقراطية. وبعد تعثر تسجيلها النجاحات في البرلمان بالطرق العادية، استخدمت الكتلة الإسلامية الثورية أساليب خارجة عن القانون لكي تفرض سنّ تشريعات تساعد على تطبيق برنامجها الخاص وأشهرها قانون العزل السياسي عام 2013.

وسمح بالتالي غياب قوة موازنة فعالة من طرف "تحالف القوى الوطنية" لبرنامج الإسلاميين في "المؤتمر الوطني العام" بإعاقة إعادة بناء جهاز الأمن القومي الناشئ في ليبيا.

كما سعى التكتل الإسلامي إلى تعيين قادة خاصين به داخل الجهاز الأمني. فقد أصبح عضو الجماعة الليبية الإسلامية المقاتلة السابق خالد الشريف مسؤول جهاز الحرس الوطني الليبي ووكيل وزارة الدفاع، وذلك بعد وقوع الثورة بفترة وجيزة. كما تم تكليف عضو كتلة "الوفاء"، صلاح بادي، وقت لاحق رئيساً للاستخبارات العسكرية.

وبصرف النظر عن المشاكل في بنغازي، التي تحظى بتغطية واسعة، فقد تزامنت السيطرة الإسلامية المتزايدة على الحكومة الليبية الشكلية مع ازدياد الاضطراب وانتشار عمليات الخطف في طرابلس. ويرى القوميون الليبيون أن الإسلاميين يتشاركون هدفاً واحداً ألا وهو إقامة خلافة إسلامية. وتقول عبارة شائعة قومية إن الإسلاميين لبسوا ثوب الديمقراطية مؤقتاً وخلعوه مؤخراً تبعاً لأدائهم الضعيف في انتخاب اللجنة لصياغة الدستور والمجلس النيابي الجديد الذي يأتي ليحلّ محل "المؤتمر الوطني العام".

ويُدخل هذا التصعيد ليبيا في حلقة مفرغة خطيرة، حيث يدعي كل طرفٍ التكلم باسم الأمة بينما يعاني من تناقضاتٍ داخلية. فالحصرية القبلية الظاهرة تعيق القوميين ومنهم الزنتان، بينما بدأ العنف المستمر يصعّب التفرقة بين الإسلاميين دعاة الديمقراطية ودعاة العنف. وأخيراً يمكن القول إن أمل ليبيا الوحيد يكمن على الصعيد الداخلي في إحداث تقدّم من خلال إقامة حوارٍ وطني فعلي كما من خلال دور اللجنة لصياغة الدستور والمجلس النيابي المنتخب الجديد إن قبل بهما الإسلاميون والثوار الآخرون. أما على الصعيد الخارجي، فإنه يتعين على الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد الأوروبي ومجموعة أصدقاء ليبيا وبعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا الإصرار على فرض وقف إطلاق نار فوري وانسحاب الميليشيات من العاصمة، وذلك بشكلٍ مشابه للتقدّم المحدود الذي تمّ تحقيقه ضدّ الميليشيات بعد مجزرة غرغور.