فضلا عن التدهور الأمني الغير مسبوق الذي تعيشه ليبيا، بسبب عدم تفعيل وغياب الأجهزة الأمنية الرسمية، تعيش البلاد على وقع أزمات عديدة ومتصاعدة، في ظل عدم وجود الدولة، وعدم قدرة المؤسسات الحالية على ضبط الأمور، بطريقة يمكن أن تقود البلاد إلى نهاية مرحلة الانتقال الديمقراطي المتعثر، بسبب الخلافات والانقسامات الحادة بين مختلف الأطراف والمكونات السياسية والاجتماعية.

وتصاعدت خلال الأيام الأخيرة أزمة الموانئ النفطية بمنطقة الهلال النفطي (وسط البلاد) والمغلقة من قبل أنصار التيار الفيدرالي منذ يونيو الماضي، فيما بدت السلطات الرسمية غير قادرة على إيجاد حل لتكل الأزمة، وسط تصاعد الانقسام بين الحكومة الموقتة التي أقيل رئيسها علي زيدان في الثامن من مارس الجاري، وتجري ملاحقته قضائيا بسبب اتهامه بقضايا فساد على حد قول البعض، كما تشهد مدن ليبية أخرى على رأسها مدينة بنغازي مهد الثورة خروقات أمنية خطيرة وكذلك مدينة درنة أحد معاقل الجماعات المشددة في شرق ليبيا على خلفية ارتفاع وتيرة عمليات الاغتيال والخطف، فيما بدت أجواء التوتر أكثر سخونة في وسط البلاد على خلفية أزمة تصدير النفط خارج إطار سلطات الدولة المركزية في طرابلس من قبل الفيدرالية.

كما تلوح في الأفق بواد صدام قادم بين المؤسسة التشريعية التي تم انتخابها في السابع من يوليو 2012 الذي يحظى فيه الإسلاميين باليد الطولي، وبين الهيئة التأسيسية لصياغة الدستور المعروفة اختصارا بـ(لجنة الستين) التي تشير النتائج النهائية حسب ما أعلنته المفوضية العليا الوطنية العليا للانتخابات الليبية بفوذ كبير لأنصار التيار المدني بمقاعد اللجنة؛ حسب ما تكشف عنه تصريحات عدد من الأعضاء الفائزين، بسبب الخلاف حول مقترحات لجنة فبراير التي كلفها المؤتمر بإعداد مقترح لتعديل الإعلان الدستوري الذي أصدره المجلس الوطني الانتقالي السابق في أغسطس 2011، وإعداد قانون للانتخابات الرئاسية والبرلمانية.

أزمة ناقلة النفط

فجر الثامن من مارس الجاري تمكنت ناقلة النفط "مورننغ غلوري1" التي ترفع علم كوريا الشمالية من الدخول إلى المياه الإقليمية الليبية والوصول إلى ميناء السدرة أحد الموانئ النفطية بمنطقة الهلال النفطي التي يسيطر عليها أنصار التيار الفيدرالي، لتحميل شحنة نفط مباعة لصالح الفيدراليين للمرة الأولى منذ إعلان قائد حرس المنشآت النفطية الليبية السابق إبراهيم الجضران انضمامه للتيار الفيدرالي بعد إقالته من رئاسة حرس المنشآت النفطية وتعيين بديلا عنه في يونيو 2013.

ورغم التهديدات الحكومية بقصف الناقلة بحجة مخالفتها القوانين ودخولها المياه الاقليمية الليبية دون إذن مسبق من السلطات الرسمية في العاصمة طرابلس، والتهديدات المتبادلة من قبل أنصار التيار الفيدرالي بأن أي تعرض للناقلة سيعدونه بمثابة إعلان حرب، إلأا أن الناقلة ظلت في الميناء لأكثر من 24 ساعة وتم تحميلها بما تفوق قيمته أكثر من 30 مليون دولار أمريكي حسب ما ذكرت تقارير إعلامية ليبية لصالح الفيدراليين، وخرجت من الميناء بعد تحميلها بحماية زوارق بحرية تابعة للفيدراليين لحمايتها من تعقب القطع البحرية التابعة للسلطات الرسمية حتى تمكنها من الوصول إلى المياه الدولية.

ورغم التصريحات الرسمية التي ذكرتها حكومة زيدان المقال في ساعتها الخيرة التي أكدت على ان قوات البحرية الليبية تعرضت للناقلة وحاولت توقيفها إلا أن الناقلة تمكنت من الافلات والهروب الى المياه الدولية بسبب سوء الأحوال الجوية وضعف إمكانيات البحرية الليبية، التي استطاعت إصابة الناقلة بإصابة مباشرة حسب ما كشفه وزير الثقافة الليبي في مؤتمر صحفي يوم الأربعاء 12 مارس الجاري، ما أدى إلى اشتعال النيران في أحد أبراجها ما أضطر إحدى قطع البحرية التابعة للأسطول السادس الأمريكي بمطالبة الجانب الليبي بالتوقف عن قصف الناقلة حتى لا تحدث كارثة بيئية في البحر المتوسط.

وبرغم التقارير الليبية التي تحدثت عن ملكية السفينة لرجل أعمال سعودي ونفي المملكة لهذا الأمر، إلا أنه تبين بعدما نفت كوريا الشمالية علاقتها بالسفينة الخميس 13 مارس الجاري، أنها تدار ورقيا من قبل شركة مصرية مقرها الإسكندرية تدعى "جولدن إيست لوجستكس" حسب ما أعلنت الأخيرة، الأمر الذي يلقي بمزيد من التعقيدات على الأزمة التي ظهر جليا مدى حالة الارتباك التي عليها السلطات الرسمية في طرابلس ومدى القوة المتنامية للفيدراليين خاصة بعد حصولهم على ثمن عملية التصدير الأولى للنفط، وهو ما سيجعل أنصار التيار الفيدرالي في موقف أكثر قوة في مواجهة حكومة طرابلس المركزية الضعيفة خاصة بعد تحسن موقف الفيدراليين المالي والذي كان يعاني بسبب نقص الموارد وحاجتها الى الأموال لدفع رواتب رجال الجضران الذي حسب ما هو مؤكد يعاني من ديون كثيرة نظرا لغياب التمويل لأنشطته.

وقد دفعت هذه التطورات المتعلقة بتصدير النفط لصالح الفيدراليين للمرة الأولى المؤتمر إلى المضي قدما في التصعيد ضد أنصار الفيدرالية المسيطرون على الموانئ النفطية وسط البلاد وتكليف قوة من الجيش لتحرير الموانئ وتخليصها من قبضتهم، وهو ما قوبل باستعدادت عسكرية واستعراض للقوة من جانب الفيدراليين. كما عجلت الأزمة بالمؤتمر لإقالة رئيس الحكومة المؤقتة علي زيدان التي تعثر بشأنها لأكثر من مرة بسبب الخلاف حول من سيخلفه في المنصب بين الإسلاميين من جانب والقوى المدنية والليبرالية من جانب آخر.

إقالة زيدان       

لا يمكن استبعاد أزمة الموانئ النفطية كسبب من الأسباب التي أدت إلى الإطاحة بعلي زيدان من منصبه في رئاسة الحكومة الليبية المؤقتة، لكن يمكن القول أنها كانت آخر الأسباب، وبينما يتهم التيار المدني زيدان بأنه ارتمى في حضن الإسلاميين لينجو من مقصلة العزل السياسي الذي أقر في مايو 2013، يتهم الإسلاميون زيدان أنه يمكن للمحسوبين والمقربين من أنصار النظام السابق في أجهزة الدولة من جديد، لكن الطرافان يتفقان على انه كان ينفرد بالقرار دون استشارة أحد منهم خاصة فيما يتعلق بالعلاقات الخارجية لليبيا، كما أنهم يرون أن حكومته كانت أكثر الحكومات إنفاقا في الميزانية العامة حيث حصل على اكثر من 70 مليار دولار للعام الماضي دون ان يحقق أي شيء على أرض الواقع ودون ان يشعر المواطن الليبي بأي تحسن في مستوى الخدمات أو حتى على الأقل تحسن الوضع الأمني الذي ازداد تدهورا في عهده.

وتحت وطأة الخلاف الحاد داخل المؤتمر حول حكومته بين الليبراليين والاسلاميين، اضطر زيدان للبحث عن دعم غربي لحكومته الضعيفة في مواجهة التحديات الكبرى في الداخل الذين قدموا له نصيحة بأن يتسلم السلطة من المؤتمر الذي تنتهي ولايته في السابع من فبراير 2014، ويفعل دستور المملكة الليبية المعدل عام 1963، وهو ما أغضب أطراف بعينها، خاصة الاسلاميين الذي يتهمونه بالمساهمة في اعتقال المواطن الليبي المعروف بأبو أنس الليبي على يد قوات أمريكية في أكتوبر 2013، لضلوعه في تفجيرات السفارتان الأمريكيين في نيروبي ودار السلام عام 1998، الأمر الذي أدى إلى اختطافه من مقر إقامته ليلا بأحد فنادق طرابلس على يد عناصر مليشيا مقربة من الإسلاميين.

وقبل ذلك مثلت محاولة زيدان لاستمالة الجضران وإقناعه بالتخلي عن أسلحته وتسليم الموانئ النفطية للدولة مقابل أن تدفع له الحكومة مبلغ مالي كبير، في إطار استراتيجية شراء الدول للسلاح من الثوار، في يوليو 2013، أزمة حادة بين الاسلاميين من جانب وزيدان من جانب ثان والفيدراليين من جانب ثالث بسبب اتهامه بمحاولة دفع رشوة من أجل فك الحصار عن الموانئ وهي القضية الرئيسية التي تجري ملاحقة زيدان الان على خلفيتها بعد اقالته. فيما اتهمه الفيدراليين بالفساد.

وبرغم تكليف وزير الدفاع في حكومة زيدان عبدالله الثني بمهام رئاسة الوزراء لمدة أسبوعين لحين الاستقرار على حكومة جديدة، إلا أن الثني اعتبر أن حكومة زيدان كانت تواجه تحديات كبيرة خاصة في الوضع الأمني واكد على ان تشكيلة الحكومة ستظل كما هي لحين لاتفاق على الحكومة الجديدة، وهي خطوة يمكن تشير الى مدى الرفض الذي كانت تلقاه شخصية زيدان لدى أعضاء المؤتمر خاصة الاسلاميين.

ويظل غياب الدولة في ليبيا مكلة كبرى ستواجه أي مسئول جديد في ظل حالة السيولة والفلتان الأمني الذي تعيش ليبيا على وقعه منذ الإطاحة بنظام القذافي في أكتوبر 2011، نظرا لغياب البنى الهيكلية في الدولة وعدم وجود مؤسسات أمنية قوية قادرة على ضبط الأمن والحيلولة دون تصاعد النزاعات القبلية التي تنشأ بين الحين والأخر بسبب انتشار السلاح والتعدي على الممتلكات وعدم احترام القوانين.

ويبقى المؤتمر الوطني العام باعتباره أعلى سلطة سياسية وسيادية في ليبيا خلال الوقت الراهن رغم كونه مؤسسة منتخبة شعبيا إلا ان لم يبدي القدرة اللازمة لضبط الوضع وإعادة الأمور إلى نصابها نظرا للاستضعاف الهيكلي الذي عليه الآن بسبب نقص الخبرات والإمكانيات والتوازنات الهشة بين مختلف الكتل السياسية التي تلجأ إلى التهديد بالعنف فور تصاعد الخلاف بشأن الأمور السياسية، وهو ما يفقد قراراته التي يصدرها الفعالية المطلوبة، مثلما هو واقع الآن مع القرارات المتعلقة بإخلاء كافة المدن من التشكيلات المسلحة خاصة طرابلس وبنغازي، متناسيا أن الذين صوتوا على هذه القرارات يملكون ظهيرا مسلحا يلجأون إليه كلما اقتضت الحاجة.

وبينما شكل المؤتمر "لجنة فبراير" لتكون حكما لمعالجة الآثار التي خلفها قرار التمديد لمدة ولايته حتى نهاية العام الجاري، إلا أن بعض الكتل السياسية عادت وانقلبت على مقترحات اللجنة ورفضت بعضها خاصة تلك المتعلقة بانتخابات الرئاسة ما اضطر المؤتمر لترك مسألة انتخاب الرئيس للمؤسسة التشريعية التي ستخلفه. فيما أسفرت نتائج انتخابات الهيئة التأسيسية لصياغة الدستور على تقدم للتيار المدني إلا ان بوادر الصدام بين الهيئة التأسيسية والجسم التشريعي تلوح في الأفق.

الصدام المرتقب

حسب النتائج النهائية التي تؤكد تقدم التيار المدني في انتخابات لجنة الستين، فإن مقترحات فبراير ومصير المؤتمر الوطني العام المنتهية ولايته منذ السابع من فبراير 2014، سيكون محل خلاف بين هاتين المؤسستين، وهو ما يعني أن المرحلة الانتقالية الثالثة التي ستدخل عليها البلاد خلال الأيام القادمة ستشهد بداية أزمة جديدة بسبب وجود مؤسستين منتخبتين إحداهما منتهية المدة والأخرى حديثة، وبينهما خلافات جوهرية نظرا لتداخل الاختصاصات التشريعية.

وتمثل تصريحات عدد من الفائزين بعضوية لجنة الستين بداية المؤشرات على الصدام القادم بين المؤتمر الوطني العام ولجنة الستين، خاصة أن بعض أعضاء لجنة الستين يرى أن لجنة فبراير التي شكلها المؤتمر الوطني العام قد تدخلت في اختصاصات لجنة الستين فيما يتعلق بشكل المؤسسات القادمة التي سيجري تدشينها في المرحلة الانتقالية الثالثة مثل مؤسسة الرئاسة والمؤسسات الأمنية والتشريعية. كما ان أعضاء اللجنة يرون ان المؤتمر لابد ان يقتصر دوره في الأيام القادمة في التركيز على تسليم السلطة لجسم جديد ولا يقحم نفسه في أمور معقدة لم يحسمها مثلما هو الحال مع الوضع المني وعدم تفعيل وبناء المؤسسات الأمنية التي يمكن تعيد هيبة الدولة.  

 

معهد العربية للدراسات *