تسع سنوات مرت منذ أحداث فبراير 2011، لم تجن ليبيا فيها سوى الدم والدمار والإرهاب والتشظى والارتهان للخارج وتكريس الانقسام، والفساد ونهب المال العام، ناهيك عن نهب الأموال والأصول الليبية بالخارج بل وتقنين ذلك بذرائع مختلفة، في ظل سبات عميق، وربما صمت وتواطؤ من ممثلي ومسؤولي الدولة الليبية المتعاقبين.

مشهد الاشتباكات بين المجموعات المسلحة في ليبيا ليس غريباً على المواطن، منذ عام 2011، صراعات مسلحة تندلع لأجل السيطرة على مناطق النفوذ والثروة أحياناً، وأحياناً أخرى بدافع الحصول على أوراق أكثر في لعبة المفاوضات الدبلوماسية والحلول السياسية.

مجرد استعراض سريع لأواخر سنوات العقد الأول من الألفية الثانية وسنوات العقد الثاني منها، يُبرز بجلاء كيف تحول المشهد العام في ليبيا بعد تسع سنوات من سقوط النّظام.


 •المشهد العام السياسي

فبينما شهدت ليبيا استقرارا سياسيا استمر لعقود، تعاقبت على ليبيا بعد سقوط نظام الرئيس الراحل معمر القذافي، عدد من الحكومات، منذ تم تأسيس المجلس الوطني الانتقالي في فبراير عام 2011 والذي استمر حتى أغسطس 2012:

-المجلس الوطني الانتقالي

حينما تأسس المجلس الوطني الانتقالي، والذي كان صاحب السلطة التشريعية في البلاد والذي استمر حتى أغسطس 2012، تم تشكيل حكومة محمود جبريل في 23 مارس 2011 الذي استقال من منصبه بعد ازدياد الانتقادات ضده.

وأعقبها تكليف علي الترهوني، بتشكيل حكومة في 23 أكتوبر 2011 واستمرت حتى 24 نوفمبر 2011.

وتبعها اختيار عبدالرحيم الكيب لتشكيل حكومة انتقالية في 24 نوفمبر 2011 واستمرت حتى 8 أغسطس 2012، وكون الكيب برلمان انتقالي وهو المؤتمر الوطني العام، ضم 200 عضو، وفقا لخريطة الطريق الموضوعة من قبل المجلس الانتقالي.


-المؤتمر الوطني العام
 وبعد تسلم المؤتمر الوطني العام السلطة التشريعية من المجلس الوطني الانتقالي في 8 أغسطس 2012، تم تكليف مصطفى أبو شاقور، ولكنه فشل في تشكيل حكومة مؤقتة، وانتخب المؤتمر علي زيدان الذي تمكن من تشكيل حكومة وفاق وطني، ضمت 27 وزارة واستمرت حتى 11 مارس 2011.

وبعد سقوط زيدان كلف وزير الدفاع في مارس 2014 عبدالله الثني، بتسيير الأعمال إلى حين اختيار رئيس وزراء جديد، وانتخب المؤتمر الوطني رئيسا جديدا للحكومة، ووقع الاختيار على أحمد معيتيق رئيسا للوزراء، ولكنه استقال في 9 يونيو 2014.

وحين انتخب مجلس النواب الليبي في 4 أغسطس 2014، قضت المحكمة الدستورية العليا بطرابلس التي كانت محاصرة من ميليشيات مسلحة آنذاك بحل المجلس، انقسمت ليبيا بين برلمان منتخب وبرلمان منتهية ولايته.

وعلى إثر ذلك كلف المؤتمر الوطني العام المنتهية ولايته عمر الحاسي في 6 سبتمبر 2014 بتشكيل حكومة في طرابلس حتى 31 مارس 2015، وأعقبته حكومة خليفة الغويل حتى الآن وهما حكومتين غير شرعيتين.   


 -مجلس النواب الليبي

في المقابل، تم انتخاب عبدالله الثني في 11 مارس 2014 رئيسا للحكومة الليبية (المؤقتة آنذاك) من قبل مجلس النواب، والذي اتخذ من طبرق مقرا له بعد الانفلات الأمني في البلاد.

وبعد التسوية السياسية التي عقدت برعاية الأمم المتحدة في مدينة الصخيرات المغربية، تم تشكيل المجلس رئاسي لحكومة الوفاق، برئاسة فائز السراج في 8 أكتوبر 2015.


•المشهد الأمني

في 17 فبراير من العام 2011، دخلت ليبيا في مرحلة جديدة أخرجتها من طور الأمن والإستقرار لتلقى بها في غياهب الفوضى.وتدخلت قوات الناتو مدعومة من الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا لإسقاط نظام الرئيس الراحل معمر القذافي واغتيال الاستقرار والأمن في هذا البلد العربي الغني بموارد الطاقة النفط والغاز. وعقب رحيل القذافي، تخلى الغرب عن ليبيا تاركاً فراغاً أمنياً، سمح بانتشار الجماعات المتطرفة التي تمكنت من السطو على مخازن السلاح التابعة للجيش الليبي، كما سيطرت على مدن بأكملها وفرضت على السكان قوانينها ورؤيتها المتطرفة.

ولسنوات عانت ليبيا من ثلاثية المليشيات والتنظيمات الإرهابية وعصابات الهجرة غير الشرعية والإتجار بالبشر.

- أزمة المليشيات
 وطيلة السنوات التي أعقبت اندلاع الأزمة في البلاد، أصرت الميليشيات المختلفة على التمترس فى العاصمة الليبية طرابلس، حيث دخلت في صراعات متواصلة على النفوذ والسيطرة في غياب جيش أو شرطة نظاميين وفي ظل عجز حكومي متواصل عن وضع حد لسيطرة المسلحين وفرض سلطة القانون.ورغم وصول حكومة الوفاق ، برئاسة فايز السراج، الى العاصمة الليبية في 30 مارس 2016، وفي جعبتها تأييد دولي واسع، لم تستطع حل أزمات البلاد الأمنية حيث فشلت في احتواء المليشيات المسلحة المنتشرة خاصة في العاصمة بل سارعت الى شرعنتها والاعتماد عليها لطرد مناوئيها.

وكان السبب الرئيسي لتمترس المليشيات في العاصمة طرابلس كونها مركز القرار، لا السياسي والدبلوماسي فحسب، وإنما المالي والاقتصادي بالأساس، حيث أن الحرب كانت في جانب أكبر منها منذ العام 2011 حرب غنائم في بلد غني بأرصدته واستثماراته وثرواته النفطية.وهذه الغنائم التي تثير أطماع الداخل والخارج، صنعت طبقة من أمراء الحرب المحتكمين على مليارات الدولارات، والمسيطرين على مفاصل السلطة في طرابلس، يتدخلون في التوظيفات والتعيينات، ويتحكمون في مآلات ومسارات الصفقات الكبرى، يهيمنون على الاعتمادات، ويحددون أسعار الصرف في السوق الموازية، ويديرون استثمارات ضخمة في دول عدة.

سطوة المليشيات ونفوذها الكبير بدت واضحة أكثر حين قامت في 10 أكتوبر 2013 بخطف علي زيدان رئيس الوزراء من مقر إقامته ليلا وبملابس النوم. وخطفوا بعد ذلك نوري بوسهمين رئيس المؤتمر الوطني في 25 مارس 2014. وكان هذان الحدثان يمثلان أكبر دليل على أن الدولة كانت مجرد كيان ورقي لا حول له ولا قوة أمام تغول المليشيات التي كانت تمارس أنشطتها الاجرامية دون رادع.

إذ يجوز القول بأن الحكومات التي تعاقبت على العاصمة طرابلس كانت تدار عبر المليشيات التي كانت تستعملها لاستنزاف الأموال.ومؤخرا، كشف رئيس الحكومة السابق علي زيدان، في تصريحات اعلامية ملف تمويل مليشيات الدروع المتطرفة التي تحولت لاحقاً إلى أنصار شريعة وداعش وغيرها من التنظيمات، حيث أكد زيدان بأنه وجدها أمامه وقد شكلتها حكومة عبدالرحيم الكيب وشرعنتها رئاسة أركان يوسف المنقوش وبأنه تعامل معها كواقع موجود أمامه عند توليه الحكومة.

وصولا إلى المشهد الحالي في طرابلس، بعد تحالف مليشيات طرابلس ومصراته وسرت وانضوت تحت حكومة الوفاق في حربها ضد الجيش الليبي التي اندلعت في الرابع من أبريل 2019.

- التنظيمات الإرهابية (القاعدة وفروعها وداعش)

حراك 2011 الذي شارك فيه العديد من القوى الإسلام السياسي الليبية مثلت الرحم الذي أنتج كل هذا التطرف والإرهاب بكل مسمياته حتى الآن، فتعاظم خطر تلك القوى ومجاهرتها أنها ضد الدولة الوطنية المدنية الديمقراطية، وممارسة الإرهاب الممنهج ضد أعضاء من المؤسسة العسكرية والقوى الأمنية والسياسية والإعلامية والاجتماعية في بنغازي.

ذلك الخطر فرض جمع شتات المؤسسة العسكرية لمواجهة تلك القوى الإرهابية من أجل إنقاذ ليبيا، خاصة أنها صنفت ضمن قوائم الإرهاب لدى الأمم المتحدة، وتمكن الجيش رغم تلقي تلك القوى الإرهابية دعما داخليا وخارجيا من أن يلحق بها الهزيمة عبر عملية الكرامة في أكثر من موقع.

عمدت الجماعات المتطرفة بعد أن نجح الجيش الليبي في طردها من بنغازي وأجدابيا، إلى الاختباء خلف مسمى «سرايا الدفاع عن بنغازي»، حيث تشكل هذا التنظيم من فلول مجلسي «شورى ثوار بنغازي وأجدابيا» و«مجلس شورى مجاهدي درنة»، وهي جماعات تابعة لـ«تنظيم أنصار الشريعة»، المصنف من قبل مجلس الأمن جماعة إرهابية.

مطلع يونيو عام 2016 كان إعلان عدة فصائل ليبية مسلحة الاندماج في كيان واحد جديد باسم «سرايا الدفاع عن بنغازي»، التي ضمت مجموعة كبيرة من مقاتلي تنظيم القاعدة والجماعة الإسلامية الليبية المسلحة، أبرزهم إسماعيل الصلابي المصنف في دول عربية إرهابيا، ومصطفى الشركسي وأبو عبد الله النوفلي، الذين شاركوا تلاوة بيان التأسيس، ومنذ ذلك الوقت خاض هذا الكيان عدة معارك مع الجيش الوطني الليبي داخل بنغازي وعدد من المدن الليبية.

بعد طردها من بنغازي، اتخذت «سرايا الدفاع» من مواقع عسكرية بمنطقة الجفرة مقرات لها، وشنت مستعينة بمرتزقة من تشاد، عدة هجمات في منطقة الهلال النفطي ومدن شرق البلاد، وآخرها الهجوم على قاعدة براك الجوية جنوب البلاد في مايو 2017 الذي أدى إلى مقتل 141 عسكريا تابعين للقوات المسلحة.

-شورى مجاهدي درنة
 يتبع تنظيم القاعدة وهو تحالف لعدد من الميليشيات، ضمّ عند تأسيسه جماعة من أنصار الشريعة التي صنفها مجلس الأمن على لائحة الإرهاب منذ عام 2014، إضافة إلى كتيبة “جيش الإسلام” وكتيبة “شهداء بوسليم”، ومؤسسه هو سالم دربى، الذي انتمى سابقا إلى الجماعة الإسلامية المقاتلة، التي تبنت إيديولوجية متطرفة، وقامت بعدد من العمليات الإرهابية في ليبيا، خلال تسعينيات القرن الماضي.

ومدينة درنة أبرز المناطق التي شكلت ولا تزال ملاذا لهذه العناصر الإرهابية، نظرا لطبيعتها الجغرافية، حيث تحولت إلى مرتع رئيسي للجماعات المتطرفة خاصة تنظيم “القاعدة”، جعل منها على امتداد السنوات الماضية، مركزا رئيسيا لتجمّع الإرهابيين ولشن هجمات ضد كل من يعتبرونهم أعداء، كما باتت منطقة أساسية لتصدير وتوزيع المتطرفين إلى المدن المجاورة كسرت وبنغازي وكذلك إلى دول الجوار خاصة مصر.

في نهاية ديسمبر 2013، أعلن «داعش» ليبيا خطف سبعة عمال مصريين أقباط في مدينة سرت، ثم اختطف 14 آخرين في مطلع يناير 2015 من منازلهم في سرت، وفي 15 فبراير 2015، نشر داعش مقطع فيديو مدته 5 دقائق، يظهر فيه مجموعة من مقاتلي التنظيم، وكل واحد منهم يمسك برأس قبطي ويذبحه.

بدأ هجوم القوات الحكومية لاسترجاع مدينة سرت من مقاتلي تنظيم داعش في 12 مايو 2016، وهي المدينة التي تحولت إلى معقل للتنظيم الإرهابي في ليبيا، أعلنت القوات في 5 ديسمبر استعادة السيطرة على المدينة.

عملية "البنيان المرصوص" شنتها قوات تابعة لحكومة الوفاق بدعم من الضربات الجوية الأمريكية، أنهى الجيش الأميركي رسميا عمليته ضد مقاتلي تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش) في مدينة سرت الليبية، بحسب ما أعلن مسؤولون أميركيون الثلاثاء. وكانت وزارة الدفاع الأميركية قد شنت في الأول من أغسطس هذه العملية لمساعدة القوات الليبية.

وقالت القيادة العسكرية الأميركية في أفريقيا (افريكوم) إنه "بالشراكة مع حكومة الوفاق الوطني الليبية، كللت العملية بالنجاح" وأتاحت دحر "الجهاديين".

واستهدفت سفن وطائرات مقاتلة وبدون طيار مواقع تنظيم "داعش" خلالها 495 مرة. وقال بيتر كوك المتحدث باسم وزارة الدفاع الأميركية "نحن فخورون بدعمنا لهذه الحملة للقضاء على تنظيم الدولة الاسلامية في المدينة الوحيدة التي كان يسيطر عليها خارج العراق وسوريا".

-الهجرة غير الشرعية
 وعلى الجانب الآخر من البحر المتوسط سرعان ما اكتشفت أوروبا، وهي من دعمت عبر «الناتو» ثورة فبراير وأسقطت نظام القذافي، الذي كانت تضمر له كثيراً من الضغينة، عمق الفخ الذي وقعت فيه، بتدفق أعداد غير مسبوقة من المهاجرين السريين الأفارقة على جنوب القارة، وخاصة بعد تغول وتغلغل شبكات التهريب التي استغلت انفلات الأوضاع والفوضى العارمة في ليبيا، وغياب قبضة الدولة والسلطة وجهات إنفاذ القانون. بل إن بعض المليشيات اكتشفت هي أيضاً العائد المادي الممكن من وراء أنشطة تهريب المهاجرين، أو المساومة بها لابتزاز الأوروبيين. وقد بلغ طوفان المهاجرين، الواصلين أو الغرقي في عرض المتوسط، أرقاماً لم يشهد لها التاريخ المعاصر مثيلاً، وفي مواجهة هذا التحدي الجارف، الذي أدى لتفاقم دور وحضور الأحزاب الشعبوية واليمينية المتطرفة في القارة العجوز، كان رهان الدول الأوروبية منذ بداية الأزمة الليبية الراهنة مركزاً على إيجاد نظام قوي فقط، من أي طيف سياسي، قادر على لعب دور المصد والحجاب الجاجز بين أوروبا وطوفان المهاجرين.

ولكن التقدم المطلوب أوروبياً في الحد من تدفق الهجرة السرية عبر الأراضي الليبية، تبين بسرعة وجود علاقة طردية بينه وبين تراجع حقوق الإنسان في ليبيا نفسها لتتكشّف أزمة الهجرة في النهاية عن أزمة أخلاقية، مع الكشف عما يكابده المهاجرون السريون الأفارقة من تعديات جسيمة على حقوقهم الإنسانية الأساسية، وخاصة بعدما كشفت شبكة «سي إن إن» الأميركية عن وجود أسواق نخاسة يباع فيها المهاجرون الأفارقة. ما أثار زوبعة إعلامية وحقوقية، على ضفتي المتوسط، في أوروبا وإفريقيا معاً.

•المشهد الاقتصادي
 فرحات بن قدارة، كان أول شخصية ليبية قيادية، وضحت لليبيين بعض الغموض حول حجم وحقيقة الأموال المجمدة والمهربة خارج ليبيا، باعتباره كان آخر محافظ لمصرف ليبيا المركزي خلال حكم معمر القذافي من 2006، إلى 12 مارس 2011. وقال فرحات في مقابلة تلفزيونية إن «الأصول الليبية تقدر بـ168 ملياراً و425 مليون دولار، منها نحو 104 مليارات للمصرف المركزي، تتوزع بما يقدر بـ40 مليار دولار سيولة نقدية، ونحو 30 مليار دولار عبارة عن سندات خزانة أميركية، وسندات في حكومات أوروبية، والبقية موزعة على شكل قروض لدول أجنبية، وبعض المحافظ الاستثمارية التي تدار من الغير لصالح المصرف المركزي. وقرابة 64 ملياراً للمؤسسة الليبية للاستتمار».

وكالة «رويترز» للأنباء نشرت في 31 أغسطس 2011م، تقريرًا أكثر تفصيلاً من تصريحات فرحات قدارة، حيت بينت أن عدداً من الحكومات الأجنبية جمدت أموالا ليبية سيادية تقدر بنحو 150 مليار دولار و144 طنا من الذهب، منها 1.2 مليار يورو مودعة في بنوك نمساوية، و12 مليار جنيه إسترليني في بريطانيا، وفي كندا 2.3 مليار دولار كندي، وفرنسا لديها في بنوكها 6.7 مليار يورو، وأكثر من 7 مليارات يورو في ألمانيا، وفي إيطاليا 8 مليارات دولار، و827 مليون دولار في البنوك السويسرية، ولدى الولايات المتحدة الأميركية ما يقرب من 34 مليار دولار مجمدة في مصارفها.

هذه الأموال أسالت لعاب مسؤولين في الحكومات الليبية المتعاقبة، بعد سقوط نظام معمر القذافي، التي حاولت بشتى الطرق وكل الوسائل الممكنة وغير الممكنة الشرعية وغير الشرعية، السرية والعلنية، استعادة هذه الأموال وفك الحظر عنها، بدأت بمحاولات المكتب التنفيذي والمجلس الانتقالي عن طريق المناشدات المتكررة لمجلس الأمن وطلب بالإفراج عن هذه الأموال، أو عن طريق الزيارات المكوكية السرية إلى بعض البلدان التي في مصارفها المليارات، عدد كبير من اللجان التي تم تشكيها على وجه السرعة منذ تولي المجلس الانتقالي السلطة، وحتى تولي المجلس الرئاسي السلطة، وتحت تسميات مختلفة تهدف كلها لاسترجاع أموال مجمدة في مصارف خارج ليبيا. وأغرب هذه القرارات ما أصدره محمد المقريف رئيس المؤتمر الوطني العام، بشأن تشكيل لجان فنية للبحث عن الأموال المهربة، وسمح القرار للأشخاص المكلفين بالتصرف فيما قيمته 10 في المائة من الأموال المحصلة لإتمام مهمتهم، «فيما اعتبره كثير من المتابعين للشأن الليبي، أنه تشريع للفساد من قبل أعلى سلطة تشريعية في الدولة، فمثلاً لو كانت قيمة هذه الأموال المسترجعة للدولة الليبية 10 مليارات، فإن مليارا من هذه العشرة يعد مكأفاة لهم! 


طالب وزير الخارجية المفوض بحكومة الوفاق محمد سيالة، بأن يكون لليبيا دور في إدارة ومتابعة ما تحققه الأموال والأصول الليبية في الخارج من عوائد لا يشملها القرارات الدولية الصادرة بشأن تجميدها، كما طالب بأن تتم الاستفادة من عوائدها داخلياً في دعم الاقتصاد الوطني والعملة،  مطالبا الدول الأفريقية الأعضاء في مجلس الأمن الدولي دعم هذا الطلب.

جاء ذلك، خلال كلمته التي ألقاها خلال اجتماعات الدورة العادية الـ (36) للمجلس التنفيذي للاتحاد الأفريقي في العاصمة الإثيوبية أديس أبابا يومي 6 و7 فبراير الجاري.

وأضاف سيالة، أن هذه القرارات أبعدت الدولة الليبية عن مراقبة هذه الأموال والإشراف عليها، والتي تم إيداعها من قبل القنوات الرسمية في إطار تنفيذ سياسة ليبيا للاستثمار في الخارج، متابعا: "كان من المفترض أن تكون محصنة من أي تهديد بموجب القرارات الدولية"

وقال وزير خارجية الوفاق، إنه سبق أن تم إبلاغ رئيس مفوضية الاتحاد الأفريقي بأهمية أن يلعب الاتحاد دور في المحافظة على هذه الأموال وما تدره من عوائد، خاصة تلك الموجودة في بريطانيا، وسعي الأخيرة – متجاهلة كل القرارات الدولية – لاستصدار تشريع من مجلس العموم لإقتطاع جزء من هذه الأموال لسداد تعويضات عن أحداث لم يكن الشعب الليبي مسؤلاً عنها، وقد تم تسويتها في وقت سابق، وفقاً لما أوردت الصفحة الرسمية لوزارة الخارجية الليبية، في منشور عبر صفحتها الرسمية على فيس بوك.

وتشير أغلب التقارير أن أرقام الفساد المالي في البلاد منذ أزمة 2011 وصلت درجة قياسية فبعض الإحصائيات تشير إلى أن مئات المليارات بين 2012 و2016 صرفت دون معرفة المسالك التي مرت عليها ولا الجهات التي وصلتها لكن الكثيرين يؤكدون أنها كانت تتجه للمليشيات، واعتبر مراقبون اقتصاديون أن ميزانية العام 2012 التي كانت في حدود 71 مليار دولار، باطلة لعدم اعتمادها على أي أساس فني أو مالي.

المليشيات المسلحة التي كانت تتقاضى عشرات المليارات بحجة حاجتها للمال لتأمين البلاد كانت تقوم بعمليات السطو على المصارف الليبية، حيث تعرض أكثر من مصرف لعملية اقتحام وسرقة أمواله، مثل تعرّض شاحنة نقل الأموال التابعة للبنك المركزي في سرت سنة 2013 إلى عملية سطو من طرف مجموعة مسلحة وسرقة مبلغ يناهز 55 مليون دولار وهي حادثة اعتبرها مسؤولون ليبيون كارثة حقيقية.


كما تعرّض مصرف شمال إفريقيا في سرت أيضا سنة 2014 إلى عملية اقتحام وسرقة مبالغ قدّرت بحوالي مليوني دينار ليبي. وفي نفس الفترة تعرض مصرف وادي الشاطئ غرب البلاد إلى عملية سطو أفرغت خلالها خزانته بالكامل بعد طرد موظفيه وزبائنه من طرف مسلحي.

الثروة النفطية بدورها تعرضت ومنذ 2011، إلى شتى أنواع الإستنزاف وذلك في ظل وقوعها بين براثن الميليشيات، التي إستغلت الأزمة الدائرة في البلاد وغياب السلطة لتحكم سيطرتها على الموانئ النفطية وتعمل فيها الفساد.ومثلت حقول النفط الكبرى في ليبيا الهدف الأساسيّ للمسلّحين الساعين إلى السيطرة على القرار السياسيّ والاقتصاديّ، واحتكار عائدات الثروة بمعزل عن المؤسّسات الرسميّة للدولة.وأدى سقوط الموانئ النفطية الليبية فى أيدى الميليشيات إلى خسائر كبيرة ساهمت فى تردى الأوضاع الإقتصادية في بلد تمثل العائدات النفطية العماد الرئيسي للاقتصاد.

ومن أبرز المليشيات التي استنزفت النفط الليبي مليشيات ابراهيم الجضران التي وصف رئيس المؤسسة الوطنية للنفط مصطفى صنع الله في حوار مع فضائية "الان"، في أغسطس 2017، فترة سيطرتها على الموانئ النفطية بانها فترة اختطاف ارهابي وان ما قامت به تلك المليشيات لا يقل عما قامت به اي مليشيا ارهابية مشيرا إلى ان طرد هذه المليشيات من الموانئ النفطية كان تحريرا لها.

ورغم وصول حكومة الوفاق الليبية برئاسة فايز السراج وبداية عملها، إلا أنها لم تستطع كبح جماح الميليشيات، بل سارعت إلى شرعنة بعضها والإعتماد عليها.وظل كل شيئ يدار عبر أمراء الحرب كالعادة، ففي ما يخص الاعتمادات، تعرضت لجنة خبراء منظمة الأمم المتحدة في شهر مارس 2018، لتهديدات ميليشياوية مباشرة بعد أن تم تسريب تقرير، من 160 صفحة، يكشف عن عمليات فساد ونهب واسعة لأموال عامة، عبر عمليات مصرفية وهمية لصالح بعض قادة ميليشيات تسيطر على مصارف في طرابلس.


 •المشهد الاجتماعي

ظهر الصراع القبلي في أغلب الأنحاء وأدى إلى وجود العديد من المواجهات وسقوط القتلى كما ظهرت بوادر صراع عنصري بين مكونات المجتمع الليبي وصراع جهوي بين الأقاليم الليبية خاصة بين الشرق "برقة" والغرب "طرابلس"، وقد أثر هذا الصراع في الأوضاع في ليبيا ، كما أن مؤسسات الحكم التي تشكلت لم تتفرغ بشكل كامل إلقرار البيئة المؤسسية والتشريعية الملائمة لتحقيق العدالة الاجتماعية.

كما تسببت عدم العدالة في توزيع الثروة، خاصة عائدات بيع النفط والغاز، في حنق سكان المنطقة الشرقية الذين يعانون من مشكلات وتحتاج الكثير من مناطقهم إلى التنمية، وهم يرون أن المنطقة الغربية تستأثر بالنصيب الأكبر من تلك العائدات، يذهب الكثير منها للمجموعات المسلحة والمليشيات، التي تستأثر بالقرارين السياسي والاقتصادي في العاصمة.

ظهرت العديد من المشكلات المتعلقة بمكونات المجتمع الليبي مثل الطوارق والتبو والأمازيغ ونتجت معظم هذه المشكلات عن المسار السياسي في ليبيا بعد فبراير، حيث اعتبر الطوارق أنه جرى إقصاء تمثيلهم السياسي، كما طالبت قبائل التبو بحقهم في المواطنة في منطقة الكفرة، كما ندد الأمازيغ بمحاولة نخب المدن الكبرى تهميش ثقافتهم ولغتهم، وأدت أزمة الأقليات إلى مقاطعة العديد منهم للجنة الستين أو الهيئة التأسيسية للدستور فيما بدا أنه احتجاج على التهميش.

هناك العديد من الكيانات الجتماعية الأخرى في الجنوب الليبي منها "أولاد سليمان" و"المقارحة" و"القذاذفة" وهو الأمر الذي يجب مراعاته لتوفير حالة من المساواة بين هذه الأطراف الاجتماعية والقبلية.

•المشهد الحقوقي

شهدت حقوق الإنسان بعد 2011، تدهورا كبيرا بسبب حالة الحرب المستمرة والتوسع في امتلاك السلاح من قبل المليشيات وهو ما أدى إلى غياب مؤسسات فعالة للحكم والعدالة والأمن وزيادة الإساءات والانتهاكات التي ارتكبتها الجماعات المسلحة

 وكان نتيجة لتبعات فشل حكم القانون عمليات القتل التعسفية وغير المشروعة وعمليات القتل لدوافع سياسية من قبل جماعات خارج سيطرة الحكومة.

استمرت المليشيات والجماعات المسلحة وقوات الأمن في ارتكاب جرائم يشملها القانون الدولي، وانتهاكات وخروقات فادحة لحقوق الإنسان، ومن بينها جرائم حرب، مع إفلاتها من العقاب. وأدت الصدامات بين المليشيات المتناحرة إلى ارتفاع أعداد المصابين من المدنيين. واحتُجز الآلاف لأجل غير مسمى دون أي إجراءات قضائية عقب القبض عليهم بصورة تعسفية؛ ومن بينهم كثيرون تم اعتقالهم منذ 2011. وانتشر التعذيب وغيره من ضروب المعاملة السيئة على نطاق واسع في السجون التابعة للدولة، والمعتقلات التي تديرها المليشيات والجماعات المسلحة. وأسهمت المليشيات والجماعات المسلحة في انهيار عملية تنفيذ القانون، وانهيار القضاء، عن طريق مضايقة القضاة والمحامين، كما كانت مسؤولة أيضا عن حالات الاختطاف للحصول على فدية، إلى جانب الاعتقال التعسفي واختطاف من يصنفون على أنهم معارضون سياسيون. وظل الآلاف من الأسر الليبية في حالة نزوح داخلي. وعانى اللاجئون وطالبو اللجوء والمهاجرون من انتهاكات وخروقات جسيمة لحقوق الإنسان، ومن بينها الاغتصاب والابتزاز، على أيدي مسؤولين بالدولة، وعلى أيدي المليشيات والمهربين. وتقاعست السلطات عن حماية النساء من العنف القائم على أساس النوع الاجتماعي من جانب المليشيات والجماعات المسلحة، واستُهدفت الناشطات عن طريق العنف القائم على النوع وحملات التشهير. وأصدرت المحاكم عددا من أحكام الإعدام.

قامت المليشيات التي تعمل كقوات أمن في ظل حكومة الوفاق الوطني بعمليات قبض تعسفي واختطاف لأشخاص من بيوتهم وأماكن عملهم على نحو دوري، مستهدفة ضحاياها على أساس أصولهم الجهويّةأو ما يعتقد بشأن آرائهم السياسية أو مهنهم أو ما يعتقد بشأن ثرواتهم؛ وذلك بغرض طلب فديات مالية.

انتشر التعذيب وغيره من ضروب المعاملة السيئة في السجون ومراكز الاعتقال وأماكن الاحتجاز غير الرسمية، حيث لم يتح للضحايا أي شكل من أشكال الحماية أو الانتصاف. وحكى الضحايا عن حالات الإعدام الوهمية والضرب والجلد بالخراطيم المطاطية، وصار الكثيرون منهم يحملون آثارا واضحة للتعذيب ومن بينها الأطراف المكسورة. 

وفي سجن معيتيقة الواقع على الأطراف الشرقية للعاصمة طرابلس، والذي تديره قوة الردع الخاصة وهي مجموعة مسلحة تابعة لحكومة الوفاق، وتتولى الحكومة سداد رواتب أعضائها، احتُجز المعتقلون إلى أجل غير مسمى دون استيفاء أي إجراءات قضائية، ووضعوا في زنزانات مكتظة دون ما يكفي من الطعام أو الماء، وحرموا من الحصول على الخدمات الطبية. وفي 29 أبريل، ألقت قوة الردع الخاصة القبض على المذيع التليفزيوني البارز سليمان قشوط لقيامه بتنظيم حفل توزيع جوائز إعلامية، رأت المليشيا أنه يتعارض مع قيمها الاجتماعية. كما استخدمت قوة الردع الاعتقال التعسفي لبذل ضغوط سياسية على المعارضين؛ فتم احتجاز فارس الجضران، قريب إبراهيم الجضران، طوال عام 2018 دون تهمة في سجن معيتيقة.

ظل النظام القضائي معطلا وغير فعال؛ فلم تتمكن المحاكم ولا مكاتب الادعاء من توفير التعويض لضحايا انتهاكات حقوق الإنسان، ولا من تقديم المشتبه في مسؤوليتهم الجنائية عن هذه الانتهاكات إلى العدالة. وظل مرتكبو انتهاكات حقوق الإنسان الجسيمة يعملون دون خوف من مساءلتهم أو محاسبتهم على جرائمهم.

ظلت آلاف الأسر الليبية في حالة نزوح داخلي بسبب استمرار الصدامات، والقتال إلى جانب انعدام فرص الحصول على الخدمات الأساسية، والعنف الذي يستهدف فئات بعينها، والتهديدات وانتهاكات حقوق الإنسان التي ظلت تحدث في شتى أنحاء البلاد. وكان الكثيرون قد ظلوا على حالهم من النزوح لمدة طويلة منذ 2011. وأفادت المقررة الخاصة التابعة للأمم المتحدة المعنية بحقوق الإنسان للنازحين الداخليين بوجود وضع إنساني متردٍ عبر أنحاء ليبيا، حيث إن أشد فئات النازحين الداخليين ضعفا ليس أمامها سوى النذر اليسير من الآليات ليعيلوا أنفسهم، كما أن فرصة حصولهم على اللوازم المنزلية الأساسية كالطعام تقلصت نتيجة لانعدام الأمن والتضخم وضعف السيولة المالية في البلاد. كما   أن الكثيرين يواجهون بواعث قلق خطيرة بشأن الحماية.