بعد أيام قليلة يكون التونسيون عل موعد مع استفتاء مصيري على دستور جديد للبلاد. الدستور الجديد كما يقول مؤيدوه، هو عملية "ثورة" على منظومة ما بعد 14 يناير بكل الأخطاء الكبيرة التي فيها، وقطع مع جل الكيانات التي كانت سببا في الأزمة وساهمت فيها وعلى رأسها حزب حركة النهضة الذي تحمّله أطراف كثيرة مسؤولية "العشرية السوداء" باعتباره كان أحد عناصر الحكم ومحرك اللعبة فيه والاتهامات تلحقه إلى اليوم في عدة قضايا أمنية وسياسية.
 
مساء الـ30 من يونيو الماضي، تقدّم الرئيس التونسي قيس سعيّد بمسودة لدستور جديد، من أجل الاستفتاء عليه شعبيا يوم 25 يوليو. الدستور المرتقب، مفترض أن يكون منبثقا عن حوار سياسي واجتماعي لحوالي أسبوعين، عبر لجنة شكلها الرئيس يقودها الأستاذ في القانون الدستوري الصادق بلعيد، ويشاركه فيها عدد من أساتذة القانون والأحزاب السياسية والمنظمات والشخصيات، وقد قدّمت تلك اللجنة بالفعل مشروعا للرئيس اعتقادا منها أنها النسخة التي ستعرض على الشعب، وفي خيارات مختلفة عن كل ماهو سابق، واعتقد بلعيد وحلقة ضيّقة معه أنها فرصة لوضع فصول تتماشي وأفكارها الخاصة المبتعدة عن فكرة الانتماء العربي والإسلامي لتونس، والمنخرطة ولو بشكل غير مباشر في اقتصاد السوق المنحاز آليا للرأسمالية وبرجوازية الدولة التي يرى بلعيد وحلقته الضيقة أنه جزء منها.
 
لكن الرئيس وبالقدر الذي منح شبه استقلالية للصادق بلعيد وأمين محفوظ، باعتبارهما الشخصيتين البارزتين في صياغة مشروع الدستور "على هواهما"، بالقدر الذي كان يعدّ بنفسه فصولا "مفاجئة" في علاقة بما هو سياسي أو اجتماعي أو ثقافي أو اقتصادي، حيث يبدو أنه كان يعتمد على اللجنة إلا لكي يعطي لنفسه نوعا من المشروعية حول فكرة الحوار والتشاور التي يتهم بأنه ضدها، لأن الدستور الذي قدّمه وبشهادة بلعيد ومحفوظ، هو نسخة مختلفة و"صادمة" بالنسبة إليهما وعلى ذلك تخليا على واجب التحفظ المعقود عليهما وصرحا بحقيقة المسودة التي أعداها ولم تعرض على الشعب.
 
الواقع أن أستاذيْ القانون الصادق بلعيد وأمين محفوظ، حاولا وضع الرئيس سعيّد في الزاوية، أو اعتقدا ذلك. لأن فصول الدستور الذي أعداه بعيدة كل البعد عن طبيعة التونسيين الميالة إلى المحافظة، والمتعلقة بهويتها العربية حد التعصب أحيانا، من الصعب أن تتقبل أراء لأشخاص أقرب للهوى الغربي (الفرنسي تحديدا)، وربما حسنا فعل الرئيس أن تخلى عما قدماه له وعرض ما جهّزه هو بنفسه، لأن النسخة الأولى التي نشرت في جريدة الصباح المحلية، من الوارد أن تحطّم كل ما بناه قيس سعيّد في صورة عرضت هي على الاستفتاء.
 
وفي تأكيد لما ذكر سابقا، كانت شهادات بعض الشخصيات السياسية الحاضرة في لجنة التشاور حول إعداد الدستور، دليلا على خلل العمل الذي قام به بلعيد ومحفوظ اللذين حاولا العمل بمفردهما دون أي رأي للعشرات الذين يفترض أنهم مشاركون في الاجتماعات، بل إن أمين عام حركة الشعب (ذات التوجه الناصري) زهير المغزاوي، صرّح تصريحات خطيرة بالقول، إن الدستور الأولي، تم إعداده في غرف سريّة ومن أشخاص بعينهم، الأمر الذي خلف ردود فعل مختلفة عن حقيقة تلك الغرف ومن يقف وراءها، وهذا ما تفطن إليه الرئيس عندما قدّم دستوره الخاص.
 
وتجنيبا لأي تعقيدات في مرحلة دقيقة تمر بها البلاد، وعلى الرغم من الانتقادات التي تلحق سعيّد بالاستفراد بإعداد الدستور وتطويع فصوله لفائدته، كما أن الانقسام المجتمعي اليوم واضح حول المرحلة الراهنة والتخوفات من سلطة جديدة للفرد، لكن الرئيس ماض في توجهه بإصرار كبير، وحتى التعديل المفاجئ الذي أعلنه لم يخلف ضجة كبرى باعتباره لم يمس عمق النصوص، ومن المتوقع أن يصوت عليه التونسيون ليس انسياقا وراء رغبات شخصية لسعيّد بل للقطع التام مع مشهد من الصراع لم يعد مقبولا من الغالبية العظمى من التونسيين الذين رأوا في لحظة 25 يوليو، عملية إنقاذ فرضتها الظروف ولم يعد مسموحا أن تفلت فرصة الإصلاح رغم الصعوبات الكبيرة التي طبعت السنة التي مضت والتردد في بعض الملفات الهامة.
 
الدستور المرتقب بالقدر الذي قوبل بالتأييد من عدد من الأحزاب والشخصيات "الوطنية" التي تعتبره فرصة لإنقاذ البلاد سياسيا واقتصاديا وتحولا نحو جمهورية جديدة تؤسس لمشروع مجتمعي جديد، بالقدر الذي لا يلقى اعترافا من حركة النهضة وبعض المقربين منها، على اعتبارها ترى أنه جاء بعد "انقلاب" على دستور سابق صوت عليه البرلمان (2011/2014)، وتؤلب أنصارها على عدم التصويت عليه لما في ذلك من تبعات مهينة لها وعلى ذلك كان نداؤها لهم بعدم الذهاب إلى التصويت اعتقادا منها أن ذلك يضعف مما تعتبره شرعية الرئيس المتخلي عنها وعن كل خياراتها التي حلمت بها معه بشعارات النظافة والكفاءة، قبل أن يتخذ قراره نحو صفحة جديدة في الواقع التونسي يوم 25 يوليو 2022، ويتخذ مسارا مختلفا عما كانت تنتظره الطبقة السياسية التي يبدو أنه ينوي تجاوزها نحو شكل مختلف من التمثيلية النيابية وطبيعة الحكم، وتوجه نحو فكرة العمل القاعدي القائم على الحلقات الجغرافية الصغيرة كأول مبدأ في ما يعتقد أنه "رأي الشعب" أو "حكم الشعب".