إن أغلب القراءات التي سمعناها مع دخول ليبيا، مرحلة انتقالية جديدة غداة انتخاب سلطة تنفيذية مؤقتة وموحّدة، تبدو قاصرة، تفتقر للعمق، والدقة، والتحليل العلمي. إن الظرف الذي  تمر به ليبيا، يتطلب التمييز بين الخطاب المسؤول، وأساليب التحليل السياسي التي يستخدمها مراقبون لا علاقة مباشرة لهم بالقرار السياسي، والتصريحات المشار إليها تمثّل رأياً فردياً، وظهور آراء ومواقف فيها اجتهادات متباينة مؤشر على شفافية المرحلة الجديدة التي تعيشها ليبيا، وعلى المناخ الإيجابي السائد، بغض النظر عن أن هذه الآراء فردية ولا تعبر عن الحكومة الانتقالية الجديدة ومواقفها... لقد كان مشهد انتخاب سلطة تنفيذية جديدة في ليبيا هو آخر مشاهد الأزمة اللبيبة التي شهدت توافقات ومؤتمرات دولية لم تشهدها أي أزمة في المنطقة، فهل تنتهي أزمات ليبيا بانتخاب مجلس رئاسي وحكومة انتقالية جديدة وبرلمان...؟ وهل تلوح في الأفق ملامح مستقبل أفضل؟ أم تتغلب مصالح الحلفاء على مصالح الشعب الليبي؟

علينا أن نكون منصفين ونعترف، أنّ السلطة التنفيذية الموحدة الجديدة المراد تشكيلها في ليبيا، والتي سيناط بها بشكل أساسي قيادة ليبيا حتى موعد إجراء الانتخابات الوطنية المقررة في 24 كانون الأول 2021 وإعادة توحيد مؤسسات الدولة، هذه السلطة الجديدة بمثابة فرصة لبداية التفكير بأبعاد أوسع وأبعد، من تلك الأبعاد الضيقة التي تحكم المعنيين المباشرين... وربما جاز لنا القول: إنها فرصة للمراجعة: مراجعة الذات، ومراجعة العلاقات، والوقوف على التطورات بالاتجاهين "السلبي والإيجابي"، ولا نزعم أن كل الأطراف المعنية بالحل السياسي/حكومة انتقالية، قادرة على رؤية المشهد الليبي بكل أبعاده وتفاصيله، ومن كل جوانبه: السياسية، والعسكرية، والأمنية، والاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية، والحضارية... والأبعاد الأخرى: المحلية، والإقليمية، والدولية... ولكن بعض تلك الأطراف أقدر من بعض... فهناك من يعرفون تفاصيل أكثر، وأعمق، وأدق، عن جانب، من آخرين تعنيهم جوانب أخرى... وهناك من تحكمهم مصالحُهم الضيقة، واستراتيجياتهم الخاصة، وأمراضهم الفردية، والجماعية "القبلية، أو الحزبية، أو الفئوية..."، ومن تحكمهم دماء أريقت، وهامات تدوم في فضاء الأنفس، داعية إلى الثأر والنصر؟! فتجعلهم غير قادرين على الرؤية السليمة، الموضوعية، الشمولية، وهناك أيضا من لا رؤية لهم ولا قرار، إذ هم إما عملاء، وإما أتباع، أو هم ممن ذهبوا في الغلو إلى أبعد مدى، وغرقوا في الدماء إلى قمة رؤوسهم، فأصبحوا محكومين بأحقادهم، وجرائمهم، وثاراتهم... وبرؤية أسيادهم، أو حماتهم، أو مشغّليهم... 
 
وعلى الرغم مما قيل ويقال، وأبعاد الحكومة الانتقالية الجديدة، إذا ما وقفنا على أطلال وطن، وأطلال علاقات وقيم... فإنه يبقى أمل، ويبقى من واجبنا أن نستنْبِتَ الأمل، وأن نعززه، وندعو إلى تعزيزه بكل الوسائل والسبُل... إذ لا بد للإنسان من وطن، ولا بديل عند الليبي الأصيل، الحر، المنتمي لأمته وحضارته والإنسانية جمعاء... لا بدّ له من وطن، ومن عودة كريمة إلى الوطن، والمواطنيّة العزيزة في الوطن، ومن العيش فيه بأمن من جوع وخوف، وإقامة العدل فيه على أسس متينة، وإعادة بنائه، ليكون بيت الأسرة الليبية القوية: الخلية السليمة المعافاة، والنواة الصلبة الجامعة لأبنائها، والأمل الكبير لتحقيق آمال شعب، وطموحاته المشروعة. إن الرأي الموضوعي والمسؤول ينبغي أن يطالب بتغييرات بنيوية وفي مقدمتها الاستفتاء على دستور جديد، الذي على أساسه سينتخب مجلس شعب بشكل ديمقراطي وحر، وتأليف حكومة تعددية تشارك فيها وفي المجلس أحزاب من كل القوى الوطنية، هذا الدستور الجديد يلتزم بالمعايير العامة للديمقراطية المعاصرة... وما لا ينبغي تجاهله، أنّ المعارضة الخارجية، بأذرعها الإرهابية في الداخل عملت في السابق على إلغاء المعارضة الوطنية الليبية، وذلك من خلال توليفات هجينة مريضة، كان هدفها الوحيد القفز إلى السلطة والاستئثار بها مستمدة شرعيتها من الأعداء في الخارج ومن التيارات الأخوانية.

ولهذا الغرض، ينبغي على رئيس الوزراء المكلف عبد الحميد دبيبة، أن يحرص على مراعاة تمثيل كل البلاد في تشكيل حكومته المؤقتة المرتقبة، وأن يراعي عند تشكيلها الكفاءات، وأن يكون أعضاؤها من القادرين، الأكفاء، غي المتورطين في صراعات وانتماءت مريضة، ومن مشارب وطنية شاملة لكل الفئات، ومن المشهود لهم بالعقلانية، والقدرة على معالجة الشأن الليبي بإيمان، وكفاءة، وإخلاص، ونزاهة، ووعي معرفي، وانتماء "وطني، وقومي، وإنساني"، شامل، متكامل. وتعمل هذه الحكومة الوطنية، بغطاء قانوني كامل، فيما يُسنَدُ إليها من مهام، وتمنح بثقة شعبية، ورسمية... وتعالج الأمور الموكلة إليها: بمسؤولية، وانفتاح، وواقعية، ومراعاة تامة لمصالح ليبيا في الشؤون الموكل إليها معالجتها... وتعمل، من منطلق وطني موحد، بعيدا عن أي شكل، وعن كل شكل، من أشكال التدخل الداخلي أو الخارجي، والارتهان للآخرين، أو لارتباطات، وتعهدات، واتفاقيات، ليست في مصلحة الوطن والشعب الليبيين... تلك التي أقيمت في ظروف غير طبيعية، ظروف الحرب والقهر والتمزُّق الوطني، والتدخل الخارجي بأشكاله وألوانه وغاياته... أو قد تكون أقامتها، أو فرضتها، جهات أو شخصيات أو أطراف ليبية أو أخرى متصارعة في ليبيا، لأغراض خاصة جدًّا وضيقة جدًّا، أو تحت ضغط لا يُحتمل، الأمر الذي يجعلها، بحكم عقود الإذعان، أو الارتهانات السياسية الاستعمارية، أو الارتباطات المشبوهة... وكلها ذات أثمان باهظة، ومُخلَّة بحقوق ليبيا، والشعب العربي الليبي، وبشرائع، وتشريعات، وقوانين: "وطنية، ودولية، وإنسانية". على أن يتم هذا بموقف وطني ليبي قوي، وعبر حوار جاد ومقتدر، مع الأطراف المعنية بهذه الأمور، كافة... وبما يراعي مصلحة ليبيا، في المرحلة الانتقالية، وفي المستقبل الذي هو ملك أجيال ينبغي ألا تحكمها أخطاء جيل غير مسؤول، أو أخطاء وجرائم أشخاص ألحقوا بالوطن والشعب والأمة، ما هو أكبر من الجريمة بكثير، وما هو أكثر من العار بأكثر. 
إن أي حديث موضوعي ومسؤول لابد وأن يعترف بأن ليبيا دولة ذات سيادة، ومؤسسات وأحزاب ومجتمع أهلي، وهي ليست دولة ملغيّة أو غير قائمة حتى يكون قيامها نتيجة تسوية بين القوى الإقليمية والأمم المتحدة وغيرها، لهذا لابد من الأخذ بالخيارات الشعبية - الوطنية - المستقلة - الحرة، التي تلبي المصالح العليا، وترأب الصدوع، وتعيد الثقة بين الأطراف السياسية، والمناطق، وبين الشعب والحكومة الانتقالية الجديدة... وتُبلسم الجراح، وتبني الوطن والدولة والمؤسسات وفق هيكليَّة عصرية متطورة، يضمنها دستور جديد متوافق ومستفتى عليه، يبني العلاقات الاجتماعية الداخلية، على أسس: سليمة، وقوية، وثابتة... بحيث يدوم البناء، ويَحتمِل المزيد من الإعلاء، على الصعد الوطنية والشعبية والرسمية كافة... في هذا التوجه، من المفيد، بل من الضروري، أن نناقش المراجعات المتنوعة ـ المتعددة ـ على الصعيد الوطني، بموضوعية، وانفتاح، والتزام بمصلحة الشعب ومستقبل ليبيا، ونُغَرْبلها، بحيث تخلو من الشوائب، ومن كل ما قد يكون ألغاما مؤقتة، ومن كل ما يؤسس لصراعات، تهز كيان الدولة، أو تشل مؤسساتها، كليًّا أو جزئيًّا... لكي نقيم رؤية ليبية مشتركة، تتعامل وتتفاعل مع الرؤى العربية، والإقليمية، والدولية، التي هي الآن منخرطة في المسألة الليبية، وستكون في المستقبل، على صلة، ومؤثرة، في الدولة.

لقد ضاق الشعب الليبي بما يجري، واشتدت عليه وطأة الأحداث ومن حقه أن يرتاح، ومن حق الوطن على الشعب والأمة أن يبقى وطناً عزيزاً، وحصناً منيعاً، وحضناً دافئاً، وبيتاً لجميع أبنائه... وأن يبقى جزءاً عضويًّا من حضن الأمة معتزاً بها ومعتزة به... إن من حق الليبيين أن يضمنوا لأنفسهم، ولدولتهم، الخروج من حرب مجنونة، هي كما يقولون: "حرب الإرهاب، وحرب على الإرهاب"، وحرب استباقية لدول، تقول إنها تخوضها "دفاعًا؟!" عن نفسها، وعما تسميه "أمنها، ومصالحها، وحدودها، وقيمها، و... و..." حرب مدمرة، تخوضها في ليبيا، وعليها... حرب استراتيجية بين دول عظمى وتحالفات دولية. إن من حق الليبيين، المنكوبين بكل جحيم هذه الحرب، وأهدافها، ونتائجها، أن يستعيدوا وطنهم: حرًّا، مستقلًا، موحدا، وغير مثقل بأعباء لا طاقة له، ولا لأجيال شعبه باحتمالها... أعباء أثقلها: أن يُرتهَنَ، ويُرتهَن مستقبلُه لعقود وعقود من الزمن. وكل هذه الحروب، والممارسات، والصراعات السياسية القذرة، دفعَ ثمنها الفادح ويدفعُه: ليبيا والليبيون، تدفعه/ويدفعونه: دما، ودمارا، وتشرُّدًا، ومعاناة متعدّدة الأوجه، لا مثيل لها. 

خلاصة الكلام: ألا يجوز لليبيين ضحايا، بكل ما لهذه الكلمة من معنى، وما لها من فنون، وشجون... أن يتطلعوا إلى خلاص، وإلى أن يستعيدوا وطنهم، لكل أبناء وطنهم... كل أبناء وطنهم من دون تمييز... وإلى أن يستقروا في وطنهم بأمان، وأن يحرصوا على ضمانٍ "بأنفسهم، ومن أنفسهم، قبل سواهم"، بأن يصلوا إلى بَرِّ الأمان بأمان، مع بعض العافية والسلام؟! إنه سؤال ملقى على الليبيين قبل سواهم.




كاتب صحفي من المغرب.