لا يمكن الحديث عن اختفاء تنظيم داعش من مكان بعينه. التنظيم الجهادي خلال سنوات قليلة ملأ الدنيا وشغل الناس في أكثر مكان سواء من خلال تمركزه في عدد من الدول بداية من سوريا والعراق وصولا إلى ليبيا واليمن وأفغانستان، بالإضافة إلى محاولته في مصر وتونس اللتين كانتا أفضل حظا وتأهبا في مواجهته. لكن العام 2017، كان الصورة المغايرة للتنظيم المتطرّف بعد هروبه التدريجي في المناطق المذكورة، حيث عرف حالة أشبه بالانهيار فتحت التساؤل حول حقيقة القوة المزعومة والخطر الداهم و"الدولة" الجديدة إلى غير ذلك من التسميات التي خرجت في لحظة "التطبيع" العالمي معه في بداية تشكّله الرسمي العام 2014 وإعلان خلافته من خلال بعض المناطق السورية والعراقية.

في يونيو 2014، أعلن تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام،الخلافة الإسلامية وطالب الجماعات الجهادية في العالم بواجب تقديم البيعة لزعيمه،أبو بكر البغدادي.قبل ذلك و في شهر أبريل 2014، ذلك كان تنظيم سلفي جهادي متشدد يسمى ” مجلس شورى شباب الإسلام” و يتمركز بمدينة درنة في أقصى الشرق الليبي، عن تشكيل ما يسمى بــ” لجنة شرعية لفض النزاعات والصلح بين الناس بشرع الله” على حد تعبيره، و مهمتها “تطبيق الشريعة “على حد زعم القائمين عليها، وذلك خلال استعراض عسكري كبير نسبيا، كشف عن امتلاك القوى الجهادية في البلاد عن أسلحة ثقيلة و متطورة في 22 حزيران/يونيو أظهر فيه دعمه لـ «الدولة الإسلامية» وزعيمه أبو بكر البغدادي. ومن جملة ما قال فيه: “لزاماً علينا نحن في مجلس شورى شباب الإسلام، نصرة هذه الدولة الإسلامية المظلومة، التي عاداها القريب والبعيد سواءً من الكفار، أو المنافقين، أو مرضى النفوس”. وتابع البيان: “فدولة الإسلام باقية – بإذن الله – لأنه ما كان لله دام واتصل، وما كان لغيره انقطع وانفصل". وقد جاء ذلك البيان قبل الادعاء الرسمي الذي صدر في 3 أكتوبر/تشرين الأول 2014، والذي اعتبر الأراضي التي يسيطر عليها «مجلس شورى شباب الإسلام» في مدينة درنة جزءاً من الخلافة، تلك الأراضي التي أطلق عليها فيما بعد اسم “ولاية درنة” التي هي جزءاً من الدولة الإسلامية.

التوسع

بعد التمركز في درنة، بدأت خلايا التنظيم في بقية مناطق ليبيا بالتحرك نحو بسط سيطرتها على مدن جديدة ومستفيدة من الصراع القائم بين الجيش الليبي وقوات فجر ليبيا في سيناريو مشابه لما حدث في سورية فينما كانت قوات الجيش السوري الحر تقاتل الجيش النظامي السوري إذ بالحركات الجهادية وعلى رأسها داعش تنجح في بسط سيطرتها على قطاعات واسعة من الشرق السوري وإعلان محافظة الرقة عاصمة للخلافة. ففي 11 فبراير 2015، أفاد شهود عيان من مدينة سرت بأن «داعش ليبيا» سيطر، أمس الأول، على مقر إذاعة المدينة، مطالبا أهاليها بمبايعة زعيم «داعش» أبوبكر البغدادي، كما طالب النساء العاملات في مقر الضمان الاجتماعي بارتداء النقاب. وكان التنظيم قد سيطر على مقر مصلحة الجوازات في سرت وطرد الموظفين. وقال أهالي المدينة الواقعة وسط البلاد، إن التنظيم أذاع يوم أمس عبر إذاعة سرت المحلية خطباً لأبوبكر البغدادي لساعات، وأكدوا أن عناصر “داعش” يفرضون على الأهالي نظماً وقوانين، منها عدم مغادرة النساء لبيوتهن بعد صلاة المغرب ووجوب ارتداء الإناث للحجاب، حتى في سنوات التعليم الابتدائي، إضافة لفصل البنين عن البنات في المدارس.غير أن التنظيم تقهقر بعد ذلك نحو قواعده بعد معارك دامية مع قوات فجر ليبيا.

شكل الاستحواذ على منابع النفط في سورية والعراق أحد أكبر الانتصارات التي حققها داعش، فهي تشكل مصدر تمويل ضخم لنشاطات التنظيم من خلال البيع في السوق السوداء.في ليبيا يسعى التنظيم إلى السيطرة على حقول النفط في منطقة الهلال النفطي،الواقعة في شمال شرق البلاد. في هذا السياق،اندلعت في 13 فبراير 2015، اشتباكات عنيفة بين قوات حرس المنشآت النفطية وقوات “داعش”، جنوب غرب ميناء السدرة، التي حاولت السيطرة على حقل الباهي النفطي. واقترب مسلحو داعش من ميناء السدرة النفطي، حيث وصلوا إلى منطقة النوفلية التي تبعد 60 كيلومترا عن الميناء. وكان ثمانية حراس ليبيين قتلوا، إضافة إلى ثلاثة فلبينيين وغانيين اثنين في الهجوم الذي شنه مسلحون على حقل المبروك النفطي وسط ليبيا، فيما قالت مجموعة تابعة الدولة الإسلامية” في ليبيا، إنها أسرت أثناء هجومها على حقل المبروك النفطي جنوب البلاد، عددا من موظفي شركة “توتال” الفرنسية العاملة هناك، بينهم ” فرنسيان”.

في 14 فبراير 2015 ،نشر “داعش” ،ما أسماه بـ”بشرى للمجاهدين” وقال إنه يستعد للسيطرة على مدينة مصراتة الواقعة شرقي العاصمة الليبية طرابلس ،و جاء في تدوينة تناقلتها مواقع و صفحات منسوبة للتنظيم “جنود الدولة في سرت ولاية طرابلس يستعدون على قدم و ساق لسيطرة على مصراتة و ستكون هناك عمليات نوعية هذه الأيام بداخلها”وفق بوابة افريقيا الاخبارية .وفي منطقة النوفلية المحاذية شرقاً للمدينة أعلن تنظيم “داعش” عن استتابة أهاليها لمدة 3 أيام ليقام عليهم القصاص إذا لم يعلنوا البيعة لزعيم التنظيم أبوبكر البغدادي في ساحة المنطقة ،وفي ذات السياق أفاد أهالي من مدينة صبراتة (70 كم غرب العاصمة طرابلس)أن إعلانا مماثلا بث اليوم من قبل تنظيم أنصار الشريعة المسيطر على المدينة منذ سنوات، يستمر لمدة ثلاثة أيام، وذلك قبل أن يقام القصاص بالقتل على كل من يمتنع عن مبايعة زعيم تنظيم “داعش” البغدادي.إلى ذلك وزع تنظيم “داعش” مناشير في مدينة صرمان الليبية غرب، توجه فيه بالتحذير للنساء من استعمال الماكياج وارتداء اللباس الضيق والاختلاط بالذكور في المؤسسات التربوية ومواقع العمل كما دعا الى ضرورة التقيد باللباس الشرعي ودعا إلى الفصل بين الجنسين في المدارس. وهدد التنظيم بأنه سيتخذ قرارات عقابية ضد أولياء الأمور في الساحات العامة باستعمال السلاح في حالة مخالفة المرأة أو البنت لقرارات التنظيم الذي بات يسيطر على المدينة.

مثل الرقة في سورية والموصل في العراق، كانت سرت محور الصراع الأساسي للتنظيم في مواجهة خصومه. الحقيقة أن كثيرين لم يقدروا خطورة تمركز تنظيم جهادي في منطقة من المناطق، خاصة التي تعيش أوضاعا سياسية وأمنية مضطربة مثل ليبيا، لكن الحقيقة الأخرى والأكثر إيلاما أن قوى إقليمية ودولية تواطأت بشكل مفضوح مع التنظيمات الإرهابية في كامل المنطقة العربية. إقليميا كانت قطر وتركيا الدولتان الرئيسيتان الداعمتان لداعش على الأقل في بداية تشكله وصورتاه أنه جزء من "الحراك الثوري" المشتعل في المنطقة. قطر كانت الخزينة التي تدفع دون توقف وتركيا كانت المركز الذي مرت من خلاله عناصر التنظيم إلى الأرض السورية أو جوا نحو ليبيا. في سرت تغيّرت حياة الناس لأكثر من سنتين. أعاد التنظيم الناس إلى الحياة البدائية. كان التنظيم بعناصره يتمتعون بالأموال وكان الناس يعانون الاضطهاد والظلم والتقتيل وتغيير نمط حياتهم. لسنتين كان العالم يشاهد وكأنه راض عما حصل لليبيا وأهلها. لم يكن يحس المرض إلا سكان سرت الذين لم تسعفهم الظروف للدفاع عن مدينتهم، بالإضافة إلى ظلم ذوي القربى الذي أكثر إيلاما.

النهاية غير كاملة

مع بداية العام 2017، تم طرد تنظيم داعش من ليبيا. العملية لم تكن سهلة وراح ضحيتها العشرات من أبناء الشعب الليبي الذي شاءت الأقدار وظروف البلاد أن يكونوا وقودا لمعركة أغلبهم لم يكن طرفا فيها. صحيح أن من طردوا داعش محسوبون على سياسيي طرابلس الذين يحملهم كثيرين مسؤولية ما حصل، لكن الهبة التي تمت كانت عاطفية إيمانا من المقاتلين أن معركة مصير البلاد التي يجب أن تنجح، لكن السؤال الذي يطرحه كثيرون هل طويت صفحة داعش في ليبيا أم مازال التنظيم يبحث عن متنفس له وينظم صفوفه للعودة.

بعد تطهير سرت، تساءلت بعض التقارير عن ألاف المقاتلين التابعين لداعش في ليبيا. الهزيمة التي مني لا تخفي تساؤلات حقيقية عن مستقبل أولئك المقاتلين. ففي تصريحات صحفية سابقة قال الدبلوماسي الليبي السابق عبد الرحمانشلقم أن هروب التنظيم من سرت لا يخفي تواجده في أكثر من 70 منطقة في ليبيا. ومهما كانت المبالغة في تصريحات شلقم لكن هناك حقيقة واضحة أن تنظيما بتلك القوة والإمكانيات التي ظهر بها خلال سنوات سيطرته لا يمكن أن ينتهي بتلك الطريقة وفي فترة زمنية قصيرة، والخطر الذي يهدد البلاد مازال قائما، خاصة أنها لم تعرف استقرارا سياسيا وأمنيا يمكنها من ضبط حدودها وجغرافيا، وما الأحداث التي مرت بها طرابلس منذ بداية سبتمبر إلا دليلا على أن مجهودات كبيرة يجب أن تبذل من كل الأطراف الليبية من أجل حماية البلاد من داعش وغيره.

التحذيرات من عودة "داعش" الي سرت لم تنقطع منذ تحريرها نهاية العام 2016.ففي يناير 2017، أكدت  قواتالوفاق وجود عناصر لتنظيم الدولة في الجنوب الليبي،كاشفة رصدها لتحول دواعش من سرت الى الجنوب الليبي حيث حاولوا السيطرة على المطار المدني والقاعدة العسكرية بمنطقة براك. وفيفبراير 2017،أشارت أنباء الى لجوء هذه العناصر، إلى الجبال والأودية الضيقة لإعادة ترتيب صفوفهم مرة أخرى، للهجوم على العاصمة طرابلس ومدينة سرت.وفي مارس 2017، قال قائد القوات الأمريكية في أفريقيا (أفريكوم) توماس والدهاوسر إن تنظيم داعش يعيد تجميع صفوفه، رغم خسارته مدينة سرت الليبية. وأضاف في جلسة أمام لجنة الخدمات المسلحة في مجلس الشيوخ الأمريكي، "داعش لم يعد يسيطر على سرت، لكننا نعلم أنه يحاول إعادة تجميع صفوفه، لكن أعدادهم صغيرة، مجموعات صغيرة"، وفق ما نشر الحساب الخاص بقوات "أفريكوم" على موقع تويتر.

وفي أبريل 2017، أكدت حكومة الوفاق في ليبي أن عناصر تنظيم الدولة الفارين من مدينة بنغازي في الشرق الليبي ومن مدينة سرت الساحلية، يعملون على تجميع أنفسهم من جديد في الجنوب الليبي.وقال العميد محمد الغصري، المتحدث الرسمي باسم غرفة عمليات "البنيان المرصوص"، التابعة لحكومة الوفاق،في تصريحات تلفزيونية في أبريل 2017، أنه "تم رصد تحركات في مناطق الجنوب لعدد من عناصر تنظيم الدولة الفارين من سرت، وأن قواتهم ستتصدى لوقف هذه التحركات".وفي مايو 2017، قتل جنديين وأصيب 3 آخرين من "القوة الثالثة" التابعة لوزارة دفاع حكومة الوفاق،بعد تعرضهم لهجوم مسلح جنوب مدينة سرت،على يد عناصر من تنظيم داعش.وأشار مدير المكتب الإعلامي لـ"القوة الثالثة"،لوكالة الأناضولإلى أن القوة أطلقت تحذيرات سابقة من وقوع مثل هذه الهجمات بعد رصد مجموعات تابعة لتنظيم داعش في المنطقة الممتدة من قاعدة براك إلى منطقة مشروع اللود الزراعي.

ويبدو أن خسائر التنظيم المتتالية جعلته يبحث عن حلفاء على الأرض،حيث سبق أن أشار وزير الدفاع المفوض بحكومة الوفاق الوطني، مهدي البرغثي، إن تنظيم "داعش" يعمل على إعادة تجميع صفوفه وتمركزاته في جنوب ليبيا، بدعم من تنظيم "القاعدة" وقيادة مختار بلمختار، وأن تلك الكيانات تستعد لشن مزيد من الهجمات الإرهابية.وقال البرغثي، في تصريحات إلى جريدة "ديلي تلغراف" البريطانية، الخميس 2 مارس/اذار2017، أن "القاعدة" يوفر مساعدات لوجيسيةلـ"داعش" ويساعده في إعادة تنظيم صفوفه وشن هجمات"، مضيفا "وفقًا لمعلوماتنا، يُعتقد أن مختار بلمختار ما زال حيًا، ويقود بقايا "داعش" الفارين من المعارك العسكرية في مدينة سرت".كما أفادت الصحيفة البريطانية، في تقرير لها، نقلا عن المخابرات العسكرية الليبية بوجود "نحو700 من عناصر داعش يتمركزون في أودية ومناطق صحراوية جنوب مدينة بني وليد، ويحصلون على تمويل عبرعمليات الهجرة غير الشرعية إلى أوروبا، وتهريب الذهب"، مؤكدة على أن "تعاون التنظيمين في ليبيا يخالف العداء الواضح بينهما في العراق وسورية، إذ شن زعيم تنظيم القاعدة أيمن الظواهري هجومًا لاذعًا ضد داعش، منتقدًا أساليبه الوحشية واصفًا عناصره بالكذابين".

وتمثل ليبيا مرتكزا أساسيا لداعش،وبرغم خسائره المتوالية وفقدانه لمناطق النفوذ في البلاد، فإن قيادة التنظيم تولي اهتماما كبيرا للعمل في ليبيا، خاصة مع انحسار المشروع الداعشي في سوريا والعراق.ويكفل المناخ السياسي والأمني الذي يتميز بالفوضوية في ظل الصراعات والانقسامات التي تعيق بناء دولة ذات سيادة، فرصة لداعش للعودة من جديد الى واجهة المشهد الليبي.