لم يكن وصولنا إلى أحد شقق الدعارة أمر سهل، إذ كيف تصل إلى مكان لا يمكن الوصول إليه إلا إن كنت "فريسة" حاملا لجنسية أجنبية..بعض الأحياء الراقيةيشير إليها التونسيون إلى كونها من أكثر الأماكن تعاطيا لهذا النشاط.. غير أن أكثرهم لا يعرفونها بالتحديد، فهم سمعوا عن وجودها من الأخبار المتداولة في صفحات الإعلام التونسي أو تواترت على ألسنة الناس حتى صارت حقيقة بالنسبة إليهم.. لاكن لا أحد دلّنا على الطريق..

تقول الرواية المتداولة هنا إن معلوم المنازل المؤثثة و الشقق "المفروشة" المعدّة للكراءارتفع بشكل خيالي يثير الريبة ويفوق معلوم الإقامة بنزل من فئة الخمس نجوم، لا يستطيع التونسيون دخولها فهي معدّة فقط للأجانب.. تتبعنا أحد إعلانات الكراء شقّة بالطابق الثاني بـ"حي النصر" أحد أرقى الأحياء بتونس العاصمة، شقّة يقول صاحبها في اتصالنا الهاتفي، أنها مؤثثة بالتمام و الكمال "حتى أنها تحتوي على مكيّف" وقبل أن يدلنا على العنوان أطنب في السؤال عن فصلنا و أصلنا و جنسيتنا و أسباب زيارتنا قلنا له أننا من ليبيا جئنا للعلاج قد يستغرق الأمر أسبوعا أو عشرة أيام.. قال "جيد خذوا العنوان".

شقة في الطابق الثاني تتكون من غرفتين أحدها تحتوي على سرير لشخصين و الأخرى فارغة على "التمام و الكمال"، الصالون -أو هكذا هو يعتبره- به أريكة صغيرة من الخشب و كرسي خشبي متداعي و تلفاز من الحجم المتوسّط من النوع القديم، بالمطبخ طاولة صغيرة و برّاد و بعض الأدوات المطبخية "المتسخة" بقدر ما غفل أصحاب و نزلاء الشقة عن تنظيفها، أما الحمّام لم نستطع دخوله فرائحته النتنة تفوح منذ دخلنا هذه الشقة، يستدرك صاحب الشقة أو "السمسار" بالنسبة للمكيف يحتاج بعض الصيانة لا تقلقوا سوف أعود مساءا صحبة فنّي ليقوم باللازم و لن يكلّفكم كثيرا، أما بالنسبة للسعر، 750 جنيه الأسبوع أي حوالي 600 دولار".

أموال كثيرة تدفع من أجل ليلة واحدة في هذه الشقة و من أجل شقق أقلّ "كمالا" منها، ليس من أجل أسرتها الوثيرة و ملاياتها التي يشبه بياضها السواد، إنما من أجل ما توفّره من خدمات للباحثين عن المتعة تكون غالبا بمقابل ومحور ليال حمراء وجلسات قمار و استهلاك المخدرات والمشروبات الكحولية وغيرها من الأنشطة التي تمارس في سرية وبعيدا عن أعين الأمن.

 وجهتنا الثانية كانت نحو أحد المقاهي بذات الحي المذكور، مقهى طعم بنّه يختلف عن بقية المقاهي ،به مذاق "جنسي" غريب، تفوح رائحة عطر نسائي في كافة أركانه و طاولاته ، نساء و فتيات يجلسن فرادا و جماعات ولا تجد بينهن "رجل"،تتعالى ضحكة بين الحين و الآخر للفت الانتباه، يأتيك النادل بفنجان القهوة يستدرجك بالحديث "كيف حالك؟ من أين أنت؟ ماذا تفعل في تونس؟ ذات الأسئلة و ذات الأجوبة أيضا، يستدرك مبتسما "مرحبا بكم في تونس.. استمتعوا" تراه بعد برهة يهمس في أذن أحدهم، يبتسم هذا الأخير ابتسامة خفيفة كأنما وجد ضالته، هل هو أحد الوسطاء.؟

الأمن كشف في السنوات الأخيرة عديد الشقق المعروفة بتقديم الخدمات المشبوهة ولعل آخرهاقبض الإدارة الفرعية للوقاية الاجتماعية التابعة لإدارة الشرطة العدلية بتونس العاصمة ،على 52 فتاة تونسية و 28 ليبيا وأطراف من 5 جنسيات مختلفة بينهم جزائريون وكويتيون وماليون بتهمة ممارسة الرذيلة والبغاء السري وذلك في منطقة حي النصر ،حيث اعترفت الفتيات أن الليبيين يقدمون 300 دولار للفتاة مقابل ممارسة الرذيلة.. الغريب في كلّ هذا، هو إفلات الوسطاء و "سماسرة الجنس" من العقاب ،أمر يفسّره مصدر أمني بكون الفتيات اللاتي يقعن في قبضة الأمن ينكرن وجود وسطاء أو سماسرة، لأن الفتاة غالبا ما تعود إلى ذات الحيّ وإلى ذات الوسيط بعد تمضيتها مدّة العقوبة.

عدنا إلى شقتنا مع حدود التاسعة مساء و بعد حوالي الساعة ،إذ بباب الشقة يطرق، فتحنا الباب فإذا به صاحب الشقة أو "السمسار"، كان معه "فني"إصلاح و صيانة المكيف و هذا الرجل لم يكن سوى صاحب الابتسامة الخفيفة بالمقهى و هو ما أكّد شكوكنا حول صفته "هو الوسيط" باشر في معاينة المكيّف و عيناه تجول في أرجاء الشقّة تارة و تتفحصنا تارة أخرى.. بادرنا في البداية بذات الأسئلة المعتادة (من أين أنتم؟ ماذا تفعلون في تونس؟..؟) و بادرناه بذات الأجوبة..ثمّ صارت أسئلته تتمحور حول أحوالنا الشخصية (من فيكم يدخّن؟ أجربتم الحشيش؟ هل تشربون الخمر؟ هل ؟ و هل؟ و هل؟ أسئلة توحي بأن الرجل قادر على توفير كل هذا.. ختاما ينهي "ترميم" المكيف، يقول و هو يودّعنا إسمي "يوسف تشرفت بمعرفتكم ..تعالوا غدا إلى المقهى سأعرّفكم إلى فتيات جميلات.."

“تجوع الحرّة ولا تأكل بثدييها”.. لم يعُد هذا المثل المأثور منسجما مع واقع شريحة من بنات تونس، بل لعلّه لم يعُد مطروحا أصلا في بعض الاوساط الشعبية الفقيرة والمنسيّة حيث تجوع الحرّة فتضطرّها الحياة القاسية والظروف الاجتماعية الصعبة الى السقوط في المحظور والمتاجرة بجسدها حتّى تسدّ رمقها وتسكت جوع أبنائها مادامت غير قادرة على توفير ما تحتاجه من مال عبر الطرق “الحلال”.

واذا كان المجتمع التونسي، أو الشقّ المحافظ منه، يُجرّم وفق منظور ديني وأخلاقي، بحت مبدأ الجنس خارج الأطُر القانونية للزواج فانّه عادة ما يضطرّ للصّمت حيال بعض الحالات التّي تستبطن قصصا اجتماعية مؤسفة تقطر فقرا وحرمانا.

شهرزاد 27 سنة، هكذا عرفّها "يوسف" إلينا، جلست إلى طاولتنا و طلبت قهوة ،قبل حتى أن تلقي التحية، وجهها مصفر شاحب تغطيه المساحيق الرخيصة تطلّ تجاعيد وجهها على 40 سنة و اسنان مصفرّة من أثر التدخين، شعرها مرتّب بشكل فوضوي كمن يقول أنه لا يحتاج للتسريح ،بدورها بادرتنا بذات الأسئلة المعتادة ،غير أنها خلافا للسمسار و النادل و الوسيط حاولت أن تقيّمنا ماديا (ماذا تشتغلون؟ هل تمتلكون سيارة؟ بكم اشتريت هذا الحذاء؟..؟) ثمّ استرسلت في الحديث في أمور جانبية،عن الأجواء الليلية بهذا الحي الراقي، عن طاولات القمار و أرباحها، عن أصدقائها الليبيين و المغاربة و الجزائريين و الماليين و عن القادمين من مختلف البلدان العربية، أحاديث غالبا ما تتقن سردها بائعات "الهوى".

تقول شهرزاد و بعد أن شجّعناها بـ150 دينارا، متذكّرة فصلا من فصول مأساتها :” بعد أن طردني المؤجّر لجأت الى منزل عائلة زوجي المرحوم طمعا في ايوائي الاّ انّ حماتي طردتني بدعوى أنّني نذير شؤم على العائلة و أنّني كنت سببا في وفاة زوجي. باختصار شديد، ضاقت بي الدنيا فلم أجد مفرّا من طَرق باب صديقتي التي فتحت لي منزلها و طفقت تنفق عليّ وعلى بنتيّ طيلة أشهر متتالية ثمّ وجدتُني شيئا فشيئا أسير على منوالها لجمع المال لأسقط في نهاية المطاف في فخّ المتاجرة بجسدي لأنّ جراية المصانع التي لا تتجاوز المائتين وخمسين دينارا لم تكن كافية للخروج من عنق الزجاجة .. ومنذ ذلك الحين وأنا أخرج صباحا من المنزل لأعود مساء مرهقة ومنهكة القوى وكلّي احتقار لنفسي.”

هي نموذج مصغّرلمئات الشابّات والنساء التونسيّات اللّواتي ارتمين بين أحضان “حرفاء المتعة الجنسية” ليس بحثا عن المتعة بل ابتغاء للكسب السّهل والسّريع وتحصيل أكبر قدر ممكن من المال بعيدا عن معادلة الحلال والحرام. هنّ عاهرات في نظر المجتمع، ضحايا في نظر الباحثين والأخصّائيين الاجتماعيين .. وبين هذا الشقّ وذاك هنّ يمثّلن خصما لدودا ومنافسا شرسا لبائعات الهوى اللّواتي يشتغلن بشكل قانوني ومنظّم في بيوت الدعارة الرّسميةالمتواجدة في 20 ولايات من ولايات الجمهورية التونسيةمن اصل 24 ولاية .