عندما تحلّ الفوضى في المجتمع، وتغيب سلطة القانون، يتمدد الفساد وتتفاقم الإنتهاكات بأشكالها وتتعاظم الجريمة، مع تنامي ظاهرة الإفلات من العقاب.

طيلة عقد من الزمن، غابت في ليبيا،مؤسسات قوية، قادرة على تطبيق القانون،وسلطة قضائية مستقلة، لمعاقبة الجناة ومرتكبي الإنتهاكاتمشهد تنطبق عليه مقولة "من أمن العقوبة أساء الأدب"، بل إنّ الأمر يصل حدّ أن يتحوّل المتهم إلى مسؤول في الدولة. 

منذ أسابيع قليلة، قرّر رئيس حكومة الوحدة الوطنية الليبية، عبد الحميد الدبيبة،تعيين قائد كتيبة "الأمن المركزي"، عماد الطرابلسي، وزيراً للداخلية، وذلك بعد نحو شهر ونصف،من تعيينه،في منصب وكيل وزير الداخلية.

هذه الخطوة خلفت جدلاً واسعاً في البلاد،لكون الطرابلسي،يعتبر قيادياً في المجموعات المسلحة التي إنتشرت في ليبيا خلال السنوات الماضية، ويتهمه البعض بأن له "تاريخاً أسود وسيرة سيئة"،بسبب تورطه في العديد من الجرائم.

ووفق بيان للجنة الوطنية لحقوق الإنسان بليبيا، فإن الطرابلسي، متهم بإرتكاب "انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني في ليبيا، حيث يُشتبه في ارتكابه لعديد من انتهاكات حقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني خلال سنوات 2014 و2019 و 2022م والمشاركة في أعمال العُنف والاشتباكات المسلحة طوال السنوات الماضية، قد ترقي إلى جرائم حرب".

تعيينات في خدمة التحالفات

هذا التعيين، بالرغم من غرابته، من جهة أن الطرابلسي، لا يملك أي تاريخ مهني، لمسك زمام أمور جهاز حساس كوزارة الداخلية، ناهيك عن الشبهات التي تدور حوله، فإنه يبدو منطقيا، في ظل سياسة التحالفات التي تحكم المشهد الليبي منذ سنوات بصفة عامة، وخلال الأشهر الأخيرة بصفة خاصة.

فالطرابلسي المنحدر من مدينة الزنتان، إحدى أبرز القوى الفاعلة في الغرب الليبي، بات يمثل حليفا مهما لرئيس حكومة الوحدة الوطنية، عبدالحميد الدبيبة،في مواجهة منافسه، فتحي باشاغا، رئيس الحكومة المكلف من البرلمان، والذي نجح في التحالف مع اللواء أسامة الجويلي، قائد المنطقة الغربية المتحدر من الزنتان الذي أقاله الدبيبة.

ويبدو جليا، أن تعيين الطرابلسي،هو بمثابة المكافأة على الدور الذي لعبته قواته في صدّ هجمات القوات الموالية لحكومة باشاغا، أثناء محاولاتها دخول العاصمة لتسليمه السلطةكما يعتبر محاولة من الدبيبة، لإحداث إنقسام في قوات مدينة الزنتان، بقيادة اللواء أسامة الجويلي، الذي أقاله الدبيبة قبل أن يتحالف الأوّل مع باشاغا.

ويتأكد الأمر، من خلال متابعة تاريخ عماد الطرابلسي، الذي عرف بتغيير التحالفات العسكرية، فبعد أن عمل تحت إمرة قائد الجيش خليفة حفتر،تنصّل منه، وتوجه إلى العمل مع رئيس المجلس الرئاسي، لحكومة الوفاق الوطني، فائز السراج، الذي كلفه رئيسا لجهاز الأمن العام، التابع لوزارة الدفاع.

وشارك في القتال في صفوف قوات حكومة الوفاق الوطني، عام 2019 بالعاصمة طرابلس، ثم كلفه السراج رئيسا لجهاز المخابرات الليبية، قبل أن يكلف المجلس الرئاسي الجديد، برئاسة محمد المنفي رئيسا آخر للجهاز.

ويسعى الدبيبة، إلى تدعيم تحالفاته وإنشاء جبهة عسكرية لصالحه في العاصمة طرابلس، لتوفير الدعم العسكري له للبقاء في منصبه، في ظل مطالبة منافسه بتسليم السلطةففي مطلع تشرين الثاني/نوفمبر الجاري، ظهر عبد الرحمن ميلاد، الشهير بـ"البيدجا"،خلال إشرافه، على امتحانات طلبة الأكاديمية البحرية بمنطقة جنزور في العاصمة طرابلس، وذلك بصفته "آمر معسكر الأكاديمية".

وكانت حكومة عبد الحميد الدبيبة،أطلقت سراح "البيدجا"، وقامت بترقيته إلى رتبة رائد بجهاز خفر السواحل،بعد إعتقلته ،حكومة الوفاق ،في أكتوبر 2020،بناء على أوامر قبض صادرة ،عن مكتب النائب العام،لضلوعه بالاتجار بالبشر، وتهريب المهاجرين والوقود.

ويعد "البيدجاأو إمبراطور التهريب،كما يطلق عليه،واحدا من أشهر وأخطر المهربين في البلاد المطلوبين دولياً، في جرائم الاتجار بالبشركما ارتكب العديد من الانتهاكات، بحق المهاجرين، وتورط في إغراق مراكبهم، في عرض البحر، فضلاً عن قيامه بعمليات تهريب النفط.

ولا تخلو المناصب الأمنية الكبرى،من نفوذ قيادات المجموعات المسلحة،والمتهمين في جرائم وإنتهاكات وشبهات متعددة، على غرار إدارة مكافحة الهجرة غير النظامية بوزارة الداخلية التابعة لحكومة الوحدة الوطنية،التي عيّن على رأسها،محمد الخوجة، الذي يتهم بالتورط في انتهاكات ضد المهاجرين،في تاجوراء ومخيم طريق السكة.

حسابات داخلية وخارجية 

تعيين شخصية مثيرة للجدل، ومتهمة بإرتكاب جرائم،في مناصب حكومية رفيعة، تكرر في ليبيا خلال السنوات الماضية،لعل أشهرها تلك التي رافقت تعيين، علي العيساوي،في منصب نائب رئيس الوزراء في المجلس الانتقالي عام 2011،ثم تعيينه وزيرا للاقتصاد والصناعة، بحكومة الوفاق،في أكتوبر من العام 2018.

وفي شهر نوفمبر من عام 2011، حدد المدعي العام العسكري، في المجلس الإنتقالي يوسف الأصيفر، العيساوي، المشتبه الرئيسي، في قتل اللواء عبدالفتاح يونس، ووجه الإتهام إلى العيساوي بإساءة إستخدام السلطة.وفي أغسطس 2022،عقدت جلسة مصالحة، بين قبيلتي العيساوي والعبيدات،حاول خلالها العيساوي تبرئة نفسه من جريمة الإغتيال وهو ما رفضته عائلة عبدالفتاح يونس.

تلقي هذه التعيينات المشبوهة الضوء على أزمة السلطة القضائية في ليبيا،التي تواجه منذ سنوات تحديات جمة.فالنظام القضائي، بالكاد قادر على تسيير أعماله،في ظل التدخل المستمر من جانب المجموعات المسلحة التي تفرض رؤيتها وتمنع تطبيق القانون

يقول عضو لجنة خارطة الطريق، بمجلس النواب، مفتاح الكرتيحي،لبوابة افريقيا الاخبارية،أن السلطة التنفيذية،تقدم على تعيين أصحاب السوابق أو المتهمين في قضايا،وهذا دليل على غياب هيبة الدولة وأيضاً التغييب القصري للقانون

ويعزّى الكرتيحي،السبب إلى انتشار المليشيات المسلحة المنظمة ،والتى لا تخضع إلى السلطات المحلية في أغلبها وتتحكم فيها بعض القوى الخارجية لتنفيذ أجنداتها.

ويضيف المتحدّث،أن وراء كل متهم أو صاحب سوابق، مليشيا مسلحة،تكون صاحبة السلطة العليا،والتى تأتمر بأوامرها حتى الحكومات، وتفرض ما تريد على الحكومة، تعيينات خارج القانون.

لكن سياسة التعيينات المشبوهة،لم تكن حكرا على الأطراف الليبية،بل إنتهجتها أيضا الأطراف الخارجية،فوفق الكرتيحي،إنخرط مجلس الأمن والبعثة الأممية،في سياسة التعيينات المشبوهة، من خلال التعامل مع بعض الشخصيات، التى صدرت فيها بطاقات جلب من مجلس الأمن.

ويقدم البرلماني الليبي،مثال إختيار لجنة الحوار 75، حيث كان من بين هؤلاء الأعضاء شخص مطلوب لدى مجلس الأمن ،في تهمة الإتجار بالبشر والتهريب.وأيضاً ما شاب عملية إنتخاب المجلس والحكومة في جنيف، من تهم شبه مثبتة بعمليات فساد ورشاوي،وتم تدليس هذه القضية، وإسدال الستار عليها،وفق تعبيره. 

نفوذ وإفلات من العقاب

منذ سنوات،عجزت السلطات الليبية، عن ملاحقة المطلوبين في العشرات من القضايا المرفوعة ضدهم داخل ليبيا وخارجها،على الرغم من أن غالبهم صدرت في حقهم أحكام وطالبت أوامر قضائية بملاحقتهم أينما كانوا.وتعتبر ظاهرة الإفلات من العقاب،أبرز مظاهر الفوضى في ليبيا خلال السنوات الماضية،ودليل جدّي على غياب قوة القانون وتفعيله أمام قانون القوة الذي يسود البلاد.

وبإمتلاكها لقوة السلاح،تتمكن قيادات المجموعات المسلحة والمتهمين بجرائم،من الإفلات من يد القانون،عبر فرض تحالفات جديدة،أو عمليات إبتزاز بالقوة.ويؤكد المحامي والناشط الحقوقي الليبي،عصام التاجوري،أن هناك أشخاصا، يحضون بفرص الإفلات من العقاب، ولا يزالون بعيدا عن يد العدالة، سواء أولئك الذين لم تستطع السلطة القضائية، إستصدار أوامر ضدهم، أو أولئك الذين صدرت ضدهم أحكام، ولم تستطع وزارة الداخلية أوالدفاع جلبهم للعدالة ومساءلتهم.

ويقول التاجوري، لبوابة افريقيا الاخبارية،أن هناك قائمة طويلة، بأشخاص أجرموا في حق الليبين، وحتي بحق دول الجوار،التي كان لهم فيها دور سيئ.مشيرا إلى أن هؤلاء الأشخاص لديهم نفوذ ولا زالوا يتمترسون بالسلطة،فمنهم من وصل إلى مناصب، في السلطة التشريعية والتنفيذية.

وفي بلد يتصاعد فيه التنافس الجغرافي والقبلي، على المناصب السيادية والقيادية ،تبدو جهود التسوية الشاملة التي تقودها الأمم المتحدة بلا فائدة،حيث تمثل الفوضى بيئة مناسبة للهاربين من العدالة،الذين يرى التاجوري أنهم يسعون لعرقلة أيّ حلّ في البلاد،نظرا لأنّ قيام دولة القانون سيمكّن من ملاحقتهم قضائيا،ومحاكمتهم وسجنهم على الجرائم التي إرتكبوها.

تبدو أوراق المشهد الليبى، مختلطة بشكل يصعب معه،بناء تصور متفائل حول المشهد القادم في البلاد.فتقاطع المصالح بين الأطراف الفاعلة،ينتج عنه تحالفات مشبوهة، تقوم على تدعيم القوة بعيدا عن قوّة القانون،وهو ما يجرّ البلاد نحو مزيد من العنف والإنتهاكات.كما أن تدخلات الأطراف الخارجية،التي تقوم على مطلب واحد وهو إجراء الإنتخابات، تبدو صعبة كون كل طرف لديه أجندة سياسية مختلفة ومصالح يريد تحقيقها.