لم تكن دعوة وزير الداخلية بحكومة الوحدة الليبية الجديدة العميد خالد مازن،  جميع أطياف الشعب الى “مساندة الوزارة في أداء مهامها على الوجه الأمثل بتجاوز صفحة الماضي أولا ونبذ خطاب الكراهية وتحييده من كل المنابر الإعلامية”، سوى إشارة تصدر عن قيادي أمني قادر على تحديد الأولويات في مرحلة إعادة بناء الدولة ورتق النسيج المجتمعي المترهل بفعل الحروب والصراعات ،و تخفي الكثير من الدلالات حول ما يمثله الخطاب الإعلامي السائد منذ سنوات من خطر حقيقي على خارطة الطريق المتعلقة بالحل السياسي وتجاوز أزمة السنوات العشر، وتدعو من وراء بروتوكولات المسؤولية السياسية والإدارية، الى فض الاشتباكات الإعلامية والانطلاق نحو توحيد الخطاب في اتجاه لملمة الجراح وتجاوز مخلفات الماضي الأليم.

في هذا السياق، تبدو هناك بعض المؤشرات الإيجابية، ففي 21 مارس الجاري، أعلن في طرابلس عن قرار حكومي بإعادة دمج وتوحيد وكالتي الأنباء اللتين كانتا تعملان تحت سلطة الحكومتين السابقتين المتنافسين في طرابلس وبنغازي امتدادا لحالة الانقسام السياسي الذي عرفته ليبيا منذ صيف 2014.

يعتبر ذلك القرار خطوة أولى في طريق ألألف ميل نحو توحيد الخطاب الإعلامي بعد أن كان واحدا من الأسباب الأساسية للدمار والخراب والفوضى والاقتتال الأهلي بين الليبيين خلال السنوات العشر الماضية، ومن الأدوات التي تم الاعتماد عليه في معركة إنهاك الدولة ونشر ثقافة الكراهية والانقسام بدل ثقافة المحبة والسلام ورص الصفوف.

ونصّ قرار صادر عن رئيس المؤسسة الليبية للإعلام التابعة لحكومة الوحدة الوطنية محمد بعيو على توحيد ودمج وكالتي الأنباء بالمنطقتين الشرقية والغربية في وكالة واحدة على مستوى الدولة، كما كان عليه الحال قبل وقوع الانقسام السياسي، ونصَّت المادة الثانية منه على تحمل المؤسسة، المسؤولية عن تسوية كافة الالتزامات القانونية والإدارية والمالية المترتبة على وكالة الأنباء الليبية أثناء فترة الانقسام، فيما شددت المادة الثالثة على إدارة الوكالة عبر لجنة إدارية مؤقتة إلى حين تكليف مجلس إدارة دائم.

وجاء في المادة الرابعة أن يتم العمل بهذا القرار من تاريخ صدوره، وعلى المعنيين بأحكامه تنفيذه كل في نطاق اختصاصه، مع إلغاء كل حكم يخالفه. فيما أوضح البيان الصحفي المرفق بالقرار أنه يأتي لمعالجة مشكلة وجود وكالتين للأنباء، واحدة تابعة للحكومة المؤقتة والأخرى لحكومة الوفاق.

وأشاد بعيّو بالروح الوطنية الطيبة التي تجسدت لدى إدارتي الوكالة ومسؤوليها والعاملين فيها ، والتي تأتي انعكاسًا للمناخ الإيجابي السائد الآن بعد تشكيل السلطة التنفيذية الجديدة.

وكان رئيس المؤسسة الليبية للإعلام أطلق مبادرة هادفة لإنجاز وتحقيق المصالحة الإعلامية الوطنية الشاملة على أساس أن ليبيا فوق وقبل كل الانتماءات والولاءات والأجندات، وغايتها إعلاء شأن البلاد وقيمتها ومكانتها ووسيلتها صدق النية وصلاح العمل.

وقال بعيو أنه،  واستجابة صادقة لنداءات جموع الليبيين ومجاميعهم المطالبة بدعم وترسيخ إعلام السلام وتحريم وتجريم خطاب الكراهية والتحريض والفتنة، وسعيا إلى جمع الليبيين سواسية على كلمة سواء وجمع شتات الإعلام الليبي جميعه بلا استثناء على محبة الوطن ،  وجعل الإعـلام وسيلة خير وأداة بناء، يتم إعلان المبادرة ،مؤكدا أن هذه المصالحة لا تهدف إطلاقًا إلى فرض الرؤية الواحدة والخطاب الواحد والصوت الواحد أو إلغاء الخصوصية التي تميز،  والتمايز الذي يثري ، أو الحد من الحريات الشخصية والتعبيرية و لكنها تهدف إلى جعل سلام وسلامة الوطن واستقراره وازدهاره سقفًا مرفوعًا لا يمكن تجاوزه أو القفز عليه ،مشيرا الى أن المصالحة تسعى أيضًا إلى جعل التنابز والتنابذ والتحريض وبث خطاب الكراهية والفتنة حضيضا مرفوضا من الجميع لا يجوز للإعلام الليبي والإعلاميين الانحدار إليه، داعيا إعلاميي ليبيا كلها شخوصا ومؤسسات إلى تلبية نداء التصالح والتصافي والالتقاء لصياغة وتطبيق ميثاق الوحدة الوطنية الإعلامي، وأن يتركوا خلف ظهورهم كل خلافات وصراعات الأمس، وبدء مسيرة مصالحة إعلامية وطنية هي الرافد والأساس للمصالحة الوطنية الشاملة.

ويجمع أغلب الفاعلين السياسيين في ليبيا، على ضرورة توحيد الخطاب الإعلامي في البلاد ، كأحد أهم شروط تحقيق المصالحة الوطنية ، وإعادة بناء جسور الثقة ،ورتق النسيج الاجتماعي بعد عشر سنوات من الصراعات الدامية على مختلف الصعد ،معتبرين أن الأبواق الإعلامية غير المندمجة في برنامج المصالحة والتي تنطلق من مرجعيات سياسية وإيديولوجية وحزبية وسياسية في الإصرار على بث روح الكراهية والحقد سواء بين جهات البلاد أو فئات المجتمع أو مؤسسات الدولة ، يمكن أن تؤثر سلبا على خارطة الطريق السياسية التي أنطلق تنفيذ بنودها منذ فبراير الماضي بانتخاب السلطات الجديدة والتوافق على جدول زمني للخطوات المحددة وصولا الى انتخابات الرابع والعشرين من ديسمبر القادم.

وفي حين لم تتضمن حكومة عبد الحميد الدبيبة وزارة للإعلام تشرف على توحيد المؤسسات الناشطة في غرب وشرق البلاد، وفي بعض الدول الأخرى، أكد رئيس المؤسسة الليبية للإعلام، إن المؤسسة بدأت تنفيذ خطة إعلامية موحدة، هدفها العمل على المصالحة الوطنية والسلام، وقال : “بدأنا اتصالات مع مختلف وسائل الإعلام الليبية، لتوحيد الخطاب الإعلامي الليبي العام والخاص موقفا وخطابا، وتوجيه الإعلام نحو مسار السلام والمصالحة والوحدة والتنمية والاستقرار”.

كما أصدرت المؤسسة قرارا بحظر استخدام اسم ليبيا كاسم رسمي لكافة الجهات والشركات الإعلامية الخاصة غير المملوكة للدولة إلاّ بعد الحصول منها على موافقة كتابية.

ونص القرار، على إلزام عموم القنوات التليفزيونية والإذاعية التي تحتوي اسم «ليبيا» أو«الليبية» بإعادة التسمية خلال مدة لا تتجاوز ثلاثة أشهر من القرار، وإلزام تلك التي تبث من ليبيا، أو تتخذ مقرات لها في أي مدينة ليبية، بتقديم مستنداتها القانونية والحصول على الموافقة على البث والعمل من المؤسسة الليبية للإعلام وفق الضوابط والرسوم المحددة.

وتوجد عشرات المحطات الإذاعية والتلفزيونية التي تبث من داخل ليبيا، وخاصة من العاصمة طرابلس ومدينتي بنغازي ومصراتة، مع اختلاف تبعياتها، سواء لحكومة الوفاق أو الحكومة المؤقتة السابقتين، أو للمؤسسة العسكرية، أو لجماعات الإسلامية السياسي، أو لمستثمرين خواص، إضافة الى القنوات التي تبث من خارج البلاد، وخاصة من تركيا والأردن ومصر وتونس وبريطانيا، ومنها قنوات تابعة للنظام السابق

ويشير المراقبون الى تعدد الولاءات والتبعيات الإيديولوجية والحزبية والجهوية والمناطقية والثقافية لتلك القنوات ، لكن أخطرها على الإطلاق هي أبواق الإسلام السياسي التي عرفت بنشرها خطاب الكراهية وتقسيم الليبيين واعتماد الفتاوى الغريبة والشاذة لتجييش الأنصار ضد قيم الديمقراطية والمدنية ومبدأ الاختلاف ، لافتين الى أن جانبا مهما من وسائل الإعلام مرتبط بالميلشيات وانتشار السلاح وبظاهرة الفساد المالي والإداري ، وهو ما يزيد من صعوبة غلقها أو تغيير خطابها ، طالما أنه لم يتم حل الجماعات المسلحة المهيمنة على غرب البلاد

وكانت المدعية العامة لمحكمة الجنايات الدولية فاتو بنسودا، أكدت في مايو 2020 ومن خلال تقرير عرضته على مجلس الأمن،  إن مكتبها لاحظ ارتفاعا في خطاب الكراهية في ليبيا المنتشر في الإعلام التقليدي أو على وسائل التواصل الاجتماعي الموجه ضد أشخاص بعينهم أو ضد جماعات معينة ، وقالت  أن “كل من يحث على ارتكاب جرائم تدخل في اختصاص المحكمة، بالتحريض العلني أو بغيره من الوسائل عرضة للمقاضاة أمام المحكمة، وأن المحكمة مصممة على التحقيق في هذه الجرائم ومقاضاة المتهمين بارتكابها عند استيفاء الشروط اللازمة، على النحو المحدد في نظام روما الأساسي”، حسب تقرير المنظمة الذي نشر على موقعها الرسمي ،مشددة  على أن القادة وأفراد المجتمع البارزين في ليبيا عليهم مسؤولية خاصة في القيادة بالقدوة والامتناع عن الكلام الذي يحض على الكراهية، مؤكدة أن كل من يحرض على الخوف والكراهية والانقسام في المجتمع لا يلحق الأذى بالأشخاص المستهدفين فحسب، بل يلحق الضرر بالمجتمع ككل. ويبعث على القلق ويولّد الكراهية والخوف في المجتمع ويعمّق الانشقاق، وينثر بذور الجريمة ضد المجموعات المستهدفة ويخلق ظروفا مواتية لانتهاكات واسعة،

ودعت “المنظمة الليبية للإعلام المستقل” السلطات الى إصدار أوامر للقبض على مرتكبي جرائم خطاب الكراهية “المنتشرين عبر وسائل الإعلام التقليدي أو على وسائل التواصل الاجتماعي سواء داخل ليبيا أو خارجها”، حيث تحولت إلى ظاهرة تهدد المجتمع الليبي. وشددت، على ضرورة أن تقوم السلطات الليبية بمكافحة خطاب الكراهية والتعاون الكامل مع المحكمة الجنائية الدولية، سواء بتقديم الأدلة ضد المتهمين في ارتكاب هذه الجرائم أو بتنفيذ أيّ أوامر قبض تصدر عن المحكمة في خصوص جرائم التحريض على الكراهية والحرب.

وفي نوفمبر 2019 أوصى عدد من كبار الصحفيين والمدونين والمؤثرين على وسائل التواصل الاجتماعي في ليبيا في ندوة عُقدت في القاهرة حول "محاربة خطاب الكراهية وأخلاقيات الصحافة بعدم نشر معلومات أو أخبار تتعلق بخطاب الكراهية أو الترويج لها على مواقع التواصل الاجتماعي، واحترام خصوصية الآخرين، وتقبل الاختلاف والتنوع واحترام اراء الأخرين، والتوعية بأهمية سن التشريعات والقوانين حول جرائم النشر على وسائل الإعلام ومنصات التواصل الاجتماعي والأنترنت، مع تفعيل وانفاذ القوانين التي تجرم خطاب الكراهية.

احترام القيم والمبادئ الإنسانية في كل ما ينشر على وسائل التواصل الاجتماعي ، وحث وسائل الاعلام الليبية من أجل تعزيز الخطاب الوطني الجامع ، والتشبيك مع البعثة والمنظمات المحلية والدولية المعتمدة لدى الدولة الليبية من أجل مواجهة خطاب الكراهية ، والالتزام بالمعايير المهنية وفي مقدمتها الموضوعية والدقة والمصداقية والحياد، وتحديد آلية رصد ومتابعة لما ينشر من خطاب الكراهية على وسائل الإعلام ومنصات الاجتماعي، وحث منظمات المجتمع المدني والمكونات الاجتماعية للإسهام في الحد من خطاب الكراهية ، وحث المنظمات المحلية والدولية المختصة على تقديم الدعم النفسي والاجتماعي لضحايا خطاب الكراهية ، وتوفير الدعم للإعلاميين من الدولة الليبية ، لكن كل التوصيات ذهبت أدراج الرياح ، نظرا لاعتماد وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي كأدوات في الصراع القائم سواء على السلطة أو الثروة أو من أجل المغالبة العقائدية والجهوية والحزبية.

والأسبوع الماضي، أطلق عضو هيئة التدريس بكلية الإعلام في جامعة بنغازي الدكتور جاب الله موسى العبيدي، مقترحا يهدف إلى إعداد مشروع وطني لتوحيد الخطاب الإعلامي الليبي “لكي يخرج من الفوضى التي تسيطر عليه الآن، ومن فقدانه للمهنية، ما أدى إلى حالة من الانفلات الإعلامي » مشيرا الى ضرورة « توحيد الخطاب الإعلامي، وذلك من خلال تأطيره، وفق ميثاق الشرف الإعلامي – الصحفي، رُغم صعوبة هذه المهمة لكنها ليست بالمستحيلة”، كما يصفها.

وأكد العبيدي أن هذه الخطوة من شأنها تقويض خطاب الكراهية، وبالتالي تهيئة الشعب الليبي، ومن ثم وضعه في حالة نفس اجتماعية لتقبل الآخر، مؤكدًا أن هذا ما يجب العمل عليه في هذه المرحلة المفصلية من تاريخ ليبيا، معتبر إن توحيد الخطاب الإعلامي وتأطيره قانونيًا، هو الخطوة الأساسية لبناء دولة المؤسسات، مشيرًا إلى أن ليبيا لا تخلو من مهنيين وإعلاميين يستشرفون الأمن والاستقرار والتنمية لوطنهم.

واقترح العبيدي عددا من الأسماء الأكاديمية المشهود لها بالكفاءة، والتي تحمل مسؤولية هذا المشروع الوطني، لتشكل النواة الأولى لتطوير شبكة الاتصال والتواصل مع الجامعات الليبية، في طرابلس وبنغازي وسبها وطبرق ومصراتة والزاوية، مشددًا في الوقت ذاته على إن هذا مشروع وطني، آملا في أن يجد هذا الاهتمام الكامل، من قبل حكومة عبد الحميد الدبيبة، وذلك قبل الشروع في برنامج المصالحة الوطنية.

ويرى المهتمون بالشأن الليبي أن أخطر المنابر على سيادة الدولة ووحدة المجتمع وخارطة الطريق المتعلقة بالحل السياسي ، هي تلك المرتبطة بالميلشيات وبقوى الإسلام السياسي ، وخاصة تلك التي تبث من تركيا ، وتعتمد على تمويلات أجنبية ، وفق التقسيم المحاوري ، والتي تسعى الى تبرير الإرهاب وتبرئة مرتكبيه وشيطنه محاربيه، والى تصنيف القوى الداخلية والمواقف والرؤى وفق نظرة أحادية للدين ، والى بث الفتاوى الشاذة  لخدمة أجندات بعينها تتجاوز في كثير من الأحيان الوضع الداخلي الليبي الى حسابات جيوسياسية في المنطقة ككل.