بعد توقف العمليات العسكرية المباشرة بين الجيش الليبي ومن يدعمه من جهة، وقوات الوفاق المدعومة من تركيا من جهة أخرى، واستمرار حالة الترقب وما يدور الآن في دوائر منظومات المجتمع الدولي من مشاورات لضمان استمرار توقف القتال وإحلال حلول سلمية بديلة لمنع عودة المواجهات العسكرية من جديد، بدأت تتجلى بعض نتائج هذه المشاورات على هئية مبادرات ولقاءات منها ما هو علني، ومنها ما اكتنفته السرية، إلا أن عدة مؤشرات وتسريبات من عدة مصادر تكشف من الحين للآخر بعض ما يدور ويتم الترتيب له بين عدة أطراف محلية وخارجية للوصول إلى اتفاق يبلور في طياته التوافق للخروج بصيغة تضمن دمج مطالب كل الأطراف أو التقريب بينها، وقد كشف مصدر دبلوماسي قريب من بعض دوائر المشاورات بشأن التسويات المنتظرة، أن أطراف تمثل الولايات المتحدة تمارس ضغوطات كبيرة على حكومة الوفاق، وقادة المجموعات المسلحة التابعة لها من أجل تفكيك عدد كبير من "المليشيات" والمجموعات المسلحة خاصة التي تضم بين قادتها وفي صفوفها عناصر "إرهابية" 

والتي تنشط في المنطقة الغربية والتي شاركت في عمليات القتال ضد الجيش الليبي خلال الفترة الماضية، وغيرها من المجموعات بما في ذلك عصابات التهريب والقوى التي تسيطر على العاصمة طرابلس، وإن كان المصدر لم يذكر أسماء محددة من هذه المليشيات إلا أن المؤشرات تؤكد أن ما يقوم به قادة حكومة الوفاق هذه الأيام من مساعي لمحاولة دمج بعض المجموعات وحل أخرى وإنهاء تواجد ونشاط بعض قادتها سيجعلها في صدام بيني قد يتحول إلى معارك وحروب مثل تلك التي اندلعت سنة 2014 والتي عرفت بعمليات "فجر ليبيا" لاسيما أن أحد عرابيها حينها هو وزير داخلية الوفاق الحالي فتحي باشاغا والذي يدير الآن المشاورات ويحاول القيام بالدور الأبرز ليؤكد أهليته لأي مهمة منتظرة، وليكون شريك في جني ثمار أي اتفاق يتبلور نتيجة لما يدور اليوم من مشاورات وضغوط في آن واحد.

إعادة تدوير الإرهاب وتغيير وجوه الإرهابيين

وتعتمد الخطة التي تشرف عليها الإدارة الأمريكية وبعض شركائها على التخلص من بعض الأسماء البارزة خاصة التي تم استهلاكها وأصبح الارتباط بها مثار شبهة تواطئ مع الإرهاب، والبحث عن بدائل مقبولة، ومن أبرز الاسماء التي يؤكد المصدر أنها ستكون ضمن المطلوبين للتخلص منهم القيادي السابق في الجماعة الليبية المقاتلة عبدالحكيم بلحاج، والمهدي الحاراتي مسؤول ترحيل الإرهابيين من ليبيا إلى سوريا والعكس، وبعض القادة الآخرين من أبرزهم صلاح بادي آمر لواء الصمود أبرز قادة عملية فجر ليبيا، وقوات درع ليبيا سيئة السمعة، ومجموعات أخرى تمتهن التهريب والابتزاز والتي تنتشر في عدة مدن من الغرب الليبي وتسيطر على معظم المراكز الحيوية والمنشآت البارزة بما في ذلك النفطية والمالية والسياسية.

وتتعاون امريكا مع بعض الشركاء من بينهم دول بالاتحاد الأوروبي، في تنفيذ خطة تفكيك المليشيات بالضغط المباشر على حكومة الوفاق، وبالتلويح بفرض عقوبات على كل من لايتعاون بعقوبات دولية على شخصيات ضالعة في تهريب الأسلحة إلى ليبيا ومتهمة بارتكاب جرائم حرب، وذلك بتجميد ارصدتها بالخارج، ووضعها على قوائم المطلوبين دوليا ضمن قوائم الإرهاب.

حكومة الوفاق والمهمة المستحيلة

ووضعت هذه المشاورات التي يبدو أنها جادة في إحداث تغيير وإن كان بمثابة إعادة إنتاج لهذه المجموعات المسلحة بثوب جديد يخفي الوجه القبيح ظاهريا لا جوهريا، فقد وضعت حكومة الوفاق في موقف لاتحسد عليه فهي المطالبة بتنفيذ المهمة "المستحيلة" باعتبارها صوريا هي المسؤولة عن هذه المليشيات وفي الحقيقة أن هذه المجموعات هي المتحكمة في قرارت الحكومة، وهذا ما جعلها تطلب مهلة شهر ونصف لوضع ما اسمته خطة لدمج المليشيات في قوة "نظامية" مهمتها حماية العاصمة طرابلس، فيما يتم ضم البقية ضمن عناصر الشرطة، وهذا ما يعني باختصار إعادة انتاج المليشيات من جديد وبشكل آخر وبشرعية  لتعود بذلك البلاد إلى المربع صفر الذي كانت عليه عقب إسقاط الدولة سنة 2012، عندما تمكن أمراء الحرب وزعماء التنظيمات الإرهابية من السيطرة على مفاصل الدولة عن طريق قوات الدروع ومجالس الشورى وغيرها، ويبقى التحدي الأبرز أمام حكومة الوفاق، هو بمن ستضحي من قادة المجموعات الملسحة؟ وهل ستستطيع القيام بذلك بالفعل؟ وكيف ستتعامل مع ردة فعل من ستضحي بهم؟

وبالتزامن مع المفاوضات والمشاورات التي تقوم بها الأطراف الدولية مع طرفي النزاع في ليبيا تسابق تركيا الزمن لمحاولة جني ثمار اتفاقها مع حومة الوفاق وضمان تواجد من يحمي مصالحها ويمثلها ضمن الخلطة الجديدة التي ينتظر أن تنتج عقب حالة المخاض العسير التي تدور الآن في الكواليس وعلى طاولات الحوار، وباعتبار أنقرة الراعي الرسمي والمستثمر الأكبر في صناعة المليشيات ونقل وتوظيف العناصر المتطرفة واستغلالا منها لقبول امريكا لها كوكيل راعي لمصالحها في ليبيا، فأنها تقوم بعدة خطوات متسارعة بتواطؤ غير مسبوق من حكومة الوفاق في تمكين عدد من القيادات "الإرهابية" التي تراجعت واضطرت للخروج من المعادلة في العاصمة طرابلس، والذين كانت تحتضنهم خلال فترة الفرار في مدنها وتعمل على إعادة تدويرها لتكون بديل مقبول خلال عملية الحلحلة المنتظرة، ومن أبرز هذه القيادات يطفو على السطح اسم القيادي السابق في الجماعة الليبية المقاتلة "فرع تنظيم القاعدة في ليبيا" خالد الشريف ومسؤول جناحها العسكري، والذي استفاد من انهيار الأجهزة الأمنية عقب أحداث فبراير 2011 ليتولى في أواخر 2012 رئاسة "الحرس الوطني" ووكيل وزارة الدفاع ليمكن زملائه السابقين في نشاطهم الإرهابي، من الأجهزة الأمنية والمؤسسة العسكرية التي أستبدلت بجهاز الحرس الوطني وقوات الدروع ومجالس الشورى التي تلقت خلال فترة توليه مهام وكيل وزارة الدفاع دعما غير مسبوق قدر بمليارات الدينارات، قبل أن يقال من منصبه سنة 2014 وينتقل إلى تركيا، التي عاد منها مؤخرا مع القوات التركية التي شاركت في معركة طرابلس الأخيرة، 

وتسعى الخطة التركية الحالية لتمكين الشريف من رئاسة المخابرات الليبية، وقد بدأ "الشريف" بالفعل اتصالاته بعدد من قادة المليشيات الذين يبحثون عن قشة للتعلق بها خشية التضحية بهم من قبل حكومة الوفاق، والذين اتفق معهم على تشكيل هيئة اشبه ما تكون بهيئة أركان مسلحة تجمع المليشيات وتتمحور مهامها حول قيادة وتوزيع الميلشيات المسلحة وتحريكها وتعيين قادتها، لتكون جسم جديد لدمج عناصر المجموعات المسلحة الحالية.

تركيا والتسابق مع الزمن

وإلى جانب محاولتها زراعة عناصرها وممثليها في أي قيادات عسكرية أو أمنية مستقبلية في ليبيا، تقوم تركيا وبشكل عاجل في توطين قواتها مباشرة في الغرب الليبي واستغلال عدة منشآت ومؤسسات عسكرية لتحويلها إلى قواعد جوية وبحرية لضمان استمرار تواجدها في ليبيا، بدعوى دعم حكومة الوفاق، والمساهمة في إعادة تأهيل الجيش الليبي، وتتركز الأعمال التركية بشكل بارز في إرسال أكبر عدد من المقاتلين الأجانب "مرتزقة" الموالين لها إلى ليبيا، إضافة للضباط والخبراء والعسكريين الأتراك، واستغلال قاعدة عقبة بن نافع "الوطية" ذات الأمكانات الكبيرة والموقع الاستراتيجي، لتصبح قاعدة تركية تتموضع في نقطة مفصلية بين ليبيا وتونس والجزائر وهي المكسب الذي لم تكن انقرة تحلم به، وقد بدأت بالفعل في تجهيز القاعدة بالمعدات العسكرية والفنية المختلفة، إلا انها تلقت ضربة قاصمة بعد قيام طيران حربي بتنفيذ عدة ضربات جوية دمرت أهم هذه المعدات في الوقت الذي كان وزير دفاع تركيا خلوصي أكار،  يؤدي زيارة إلى ليبيا على رأس وفد عسكري أمني كبير، بل أن بعض المصادر رجحت تواجده في القاعدة وقت استهدافها.

وخلال هذه الزيارة طرحت تركيا عدة شروط لاتمام مراحل تعاونها العسكري والأمني مع حكومة الوفاق من بينها منح الضباط والعسكريين الأتراك حصانة قضائية لضمان عدم ملاحقتهم قضائيا في ليبيا في حال ارتكابهم أي جرائم، كما يطالب الطرف التركي بفرض منطقة عازلة لقواتها في أماكن تواجدها لتوفير أكبر قدر من الحماية، إضافة للتأمين على الضباط الاتراك بحيث تتعهد حكومة الوفاق بدفع تعويض مالي للضحايا الاتراك في ليبيا، والمصابين من الضباط والجنود، بحيث يتم إحالة قيم التعويضات إلى البنوك التركية مباشرة، عن طريق شركة تأمين تركية يترأسها مسؤول عسكري تركي سابق، كما يتضمن الاتفاق قيام حكومة الوفاق بدفع وتغطية المبالغ المالية الخاصة بأعمال الصيانة والعمرة للمعدات والآليات العسكرية التركية.

الوفاق تضع تركيا مصدر ووسيط تسليحها 

كما كشف المصدر المطلع، عن تفويض حكومة الوفاق للطرف التركي ليكون بمثابة الوسيط المسؤول عّن شراء الأسلحة لها وتم انشاء شركة تركية - ليبية مهمتها شراء الأسلحة والمعدات العسكرية لليبيا، ويترأس هذه الشركة صهر الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، ويساعده مندوب عن حكومة الوفاق، إلى جانب تمكين ثلاث شركات تركية تعمل في مجال الملاحة البحرية وإنشاء الموانئ، ينتظر أن يصل ممثليها إلى طرابلس لمناقشة افاصيل الأعمال التي ستقوم بها والتي من بينها إنشاء ميناء بحري كبير، إضافة لأعمال أخرى.

أن ما كشفه هذا المصدر، في ظل حالة الترقب وانتظار ما ستتوصل إليه أطراف التشاور حول مستقبل العملية الأمنية والسياسية في ليبيا، والتي ينتظر منها أن تكون بديل مناسب للعمليات العسكرية التي تهدف بشكل أساسي إلى تفكيك المجموعات المسلحة وإنهاء حالة فوضى انتشار السلاح خارج إطار المؤسسة العسكرية الرسمية، فإنها تنبئ بخطورة هذا المخطط الذي تنفذه تركيا أمام مرأى ومسمع من المجتمع الدولي، وبرعاية أمريكية غير معلنة، إذ أنه إذا ما تحقق فأنه سيعيد إنتاج المجموعات المسلحة، وتدوير العناصر الإرهابية وإعادتها للواجهة من جديد وبغطاء يحمل من المشروعية مثل ما تحمل حكومة الوفاق التي ولدت نتيجة اتفاق دولي جعلها تفرض نفسها على الرغم من الرفض المحلي لها، وعلى الرغم من فشلها الذريع وعدم اعتمادها من قبل مجلس النواب، ويبقى الدور في رفض هذا المخطط منصب على القوى الوطنية الليبية الحقيقية، والجيش الليبي من جهة، وعلى الأطراف الأقليمية والدولية الرافضة للمخطط من جهة أخرى، لأنه حتى يفشل هذا المخطط يجب توفر البديل المناسب الذي يلبي مطالب الشعب الليبي، ويقنع اللاعبين الدوليين بجدارته.