يُقال في كل مصيبة فتش عن أميركا ''الشيطان الأكبر''... والواقع الحالي يقول في كل مصيبة أو أزمة أو توتر يصيب هذه المنطقة أو تلك فتش عن اليد الأردوغانية، حيث أنه لم يعد في القاموس الأردوغاني أي شي مخفي، فأعماله الإجرامية باتت في الصدارة، وعلى قائمة العلانيات.‏ 

في الواقع، هذه ليست شتائمَ أبداً، بل هي الحقيقة التي لم، ولن يعد هناك من يستطيع نكرانها، فالرجل فيروس خطير على الأمن القومي العربي. هذا هو الواقع للحقيقة والتاريخ، وليس تسييساً، ولا تحزّباً، ولا إيديولوجيا، إنها العثمانية الجديدة، صنو العثمانية البغيضة اللتان استهدفتا ولا تزالان تستهدفان الحياة الوطنية والقومية للعرب شرّ استهداف ليس في ليبيا وحدها أبداً، إنه الخطر المستدام على العروبة، والإسلام أيضاً. والتدخل التركي في ليبيا يعد سابقة خطيرة على الأمن القومي العربي، فهذا التدخل الذي انتهجته تركيا العثمانية ينمّ عن جوهر المسألة الحقيقي، من أن أردوغان رجل مهووس، يريد من تركيا أن تمتد غرباً وشرقاً لإعادة أمجاد الدولة العثمانية، ومدّ النفوذ التركي العثماني لإيجاد موقع قدم في غرب الوطن العربي لتحقيق ما يصبو له أردوغان من أطماع اقتصادية وعسكرية وسياسية لتغيير خريطة الوطن العربي.

وحتى لا يتهمنا أحد بتزييف القول، أو المبالغة، فقد أفصح الرئيس التركي ورئيس حزب العدالة والتنمية رجب طيب أردوغان عن أطماعه في ليبيا، وقال ''إنها ليست دولة أجنبية بالنسبة للأتراك وإنما هي جزء من الدولة العثمانية، وهناك علاقات تاريخية وإنسانية وروابط اجتماعية بين الشعبين التركي والليبي... فوظيفتنا في ليبيا أيضا هي حماية أحفاد أجدادنا''.

فكل الوقائع والتدخل العسكري التركي المباشر الذي يقوم به أردوغان في ليبيا، يدل على رغبته باحتلال ليبيا، بدعم من قطر… وتتطلع ليبيا إلى حرب تركيا وقطر عليها، فترى أن تركيا شكلت خلال سنوات حكم الأخوان بليبيا، من تلك الحرب، العدو الذي صدر الإرهاب ودعمه وأباح لمسلحيه ما يحتاجونه من سلاح وذخيرة ومؤن وخلافه، بل إن تركيا وظفت نفسها أمينة على الوجود الإرهابي لكنها أيضا وضعت نفسها في مقام السلطة على ليبيا ورئيس حكومة ميليشيات الوفاق، تفرض عليه ما تشاء، وتنادي بما تشاء، وتحشد معه ما تشاء من عناوين الإرهاب وأشكاله مستفيدة في ذلك من الدعم السخي المادي والسياسي والإعلامي الذي تجود به قطر للتنظيمات الإرهابية التي تعيث فسادا في الأراضي الليبية، قطر... التي تدعي زورا وكذبا أنها ضد التدخل في الشؤون الداخلية للدول!

السؤال: لماذا التحالف القوي بين تركيا وقطر؟ الإجابة واضحة وبسيطة: الدوحة هي عاصمة الإخوان المسلمين، وأنقرة هي الفرع القوي عسكرياً واقتصادياً، وعليها تقع مسؤولية حماية التنظيم، واستخدام العنف في وجه أي خطر يهدد هذا التنظيم. وهذا حصل في كل التجارب الإخوانية السابقة، إذْ لجأ الإخوان إلى العنف ضد السلطة الشرعية في أكثر من دولة عربية وإسلامية، وبالتالي فإن الخيار العسكري الذي اختارته أنقرة، هو جزء من المنطق الأخواني الذي يقوم على افتعال الأزمات وتأجيجها لإنهاك الدول. والشواهد والأمثلة كثيرة على أن تركيا كانت تقف دائماً ضد المصالح العربية، ومغذية للصراعات والأزمات، مخالفة المنطق الديني الذي يقوم على تقريب ذات البين.

وبما أنّ الشيء بالشيء يُذكر، فقد ظهرت جلية أطماع أردوغان التوسعية في ليبيا، وقال الرئيس التركي، في كلمة متلفزة الاثنين 27/04/2020 عقب ترؤسه اجتماعا للحكومة، إنه سترد قريبا ''أنباء سارة من ليبيا''، مشيرا أن تركيا تواصل دعمها لحكومة الوفاق في طرابلس في مواجهة قوات الجيش الليبي بقيادة الجنرال خليفة حفتر. 

و من باب تأكيد المؤكد، فبعد سيطرته على العاصمة طرابلس، يسعى النظام التركي للسيطرة على القرار السياسي بزعم أن حكومة السراج (هي الطرف المعترف به دولياً)، والسيطرة على القرار السياسي تقوده إلى السيطرة ـ أو على الأقل - أن تكون له كلمة في ثروات ليبيا، ليس النفط فقط، بل في غاز البحر المتوسط قبالتها، وهذا الغاز هو الأهم للنظام التركي ولمعظم الأطراف، ولنورد هنا اتفاقية الغاز التي وقعها النظام التركي مع (حكومة) السراج، مطالباً الجميع بالاعتراف بها والتصرف على أساسها، وفق الذريعة نفسها، أي (الشرعية الدولية) (لحكومة) السراج والتي تسمح لها بعقد اتفاقيات إقليمية ودولية، علماً أن الأطراف الليبية الأخرى تؤكد أن مدة شرعية حكومة السراج انتهت، وكل قراراتها واتفاقاتها غير ملزمة... 

وما يدعو للقرف، ما تناقلته بعض وكالات الأنباء العالمية وبعض الفضائيات الأخوانية المأجورة لتصريحات أردوغان، بعد انسحاب الجيش الوطني الليبي من قاعدة الوطية ! هذه التصريحات الطوباوية، تتعلق بشرعية قائد الجيش الوطني الليبي المشير خليفة حفتر، زاعمين بتبجح لا يخلو من غطرسة استعمارية كريهة أن المشير حفتر، فقد شرعيته...! هذه التصريحات تذكرنا بصكوك الغفران التي كانت تمنحها الكنيسة الكاثوليكية بروما لرعاياها في العصور الوسطى المعروفة بظلاميتها وتخلفها الشديد، وهي مضرب المثل على الجهل والوحشية. 

إن نزع الشرعية أو منحها عن أي نظام أو قيادة ليس من اختصاص تركيا أردوغان أو غيره... سواء تعلق الأمر بليبيا أم بغيرها من البلدان، وتصريحات كهذه تفتقد أبسط معايير النزاهة والشرعية القانونية، وهي تذكرنا بتلك الصكوك الدالة على الجهل والتخلف والقمع. إن من يمنح الشرعية في أي بلد هو شعب هذا البلد وجماهيره الحرة، وهي التي تخلع هذه الشرعية وليس هذا الرئيس التركي أو الوزير الأوروبي أو ذاك المسؤول الأميركي، وإن سيادة الدول خط أحمر يجب ألا يتجاوزه هؤلاء تحت أي عنوان.

 لقد قاست ليبيا من تدخلات تركيا، والذي قاست منه ليبيا بعد هذا كله، أن الرئيس التركي وصل به الأمر إلى إعطاء الأوامر لقائد الجيش الوطني الليبي خليفة حفتر، ووصل به جنون العظمة إلى الإصرار على تهديده بقوة السلاح والعسكرة التركية المتواجدة بليبيا، لتنحيه وكل ذلك بمثابة أمر ! 

لقد نسي أردوغان أو تناسى، أن المشير خليفة حفتر، ليس موظفا أو قائم مقام، يمكن تهديده وعزله ساعة يشاء البيت العالي، بل هو قائد الجيش الوطني الليبي، والمكافح من أجل الشعب الليبي، والمناضل بلا هوادة كي تظل ليبيا عربية مرفوعة الرأس واثقة الخطى، متراصة في الداخل، متعايشة مع أمل لن يخبو أبدا، وليس ليبيا الولاية العثمانية الذليلة الخانعة.

ورغم صمود ليبيا وقائد جيشها، إلا أن الرئيس أردوغان لا يزال مندفعا للمزيد من التمادي والتطاول عليهما، اعتقادا منه أن المشير حفتر، مرحلة عابرة وأن مصر مرحلة قادمة، وبعدها المرحلة الذهبية التي ستسجل له حكم ليبيا بالوكالة عن أمريكا، إلا أن ذاك الحالم نسي أن نهاية سلطنة أجداده كانت إلى زوال، وبأن الجيش الليبي الذي حرر الغالبية العظمى من تراب ليبيا من رجس الإرهاب والإرهابيين، قادر على إسقاط مشاريع تآمر ''العثمانية الجديدة''.

والثابت لدينا، أنّ المشهد السياسي وديناميته المتطورة تجاه كل أشكال التدخل التركي العسكري نجد أن دول المغرب العربي ومصر والسعودية والإمارات والبحرين وغيرها، يرفضون هذا التدخل، ويعتبرونه عدواناً صارخاً على سيادة ليبيا، وانتهاكاً صريحاً لمواثيق الأمم المتحدة وقانون سيادة الدول، وهذا يعني أن أهم دول المنطقة أصبحت موحدة في مواقفها السياسية ضد التدخل التركي، وهذا يعني أيضاً أن أغلبية داخل الجامعة العربية ضد هذا التدخل، ولا تستطيع قطر وحدها مصادرة قرار ينذر أنقرة بالانسحاب الفوري من الأراضي الليبية، فقد آن الأوان لمثل هذا التحرك خصوصاً أن مصر تتعرض هي نفسها لتدخل تركي سافر في دعم الإخوان المسلمين في مصر ضد القيادة المصرية، بل إن أردوغان يدعم جميع حركات الإخوان المسلمين في المغرب والإمارات والسودان وهذا ما يجعل عدداً من الدول في الجامعة العربية تشكل أغلبية ضد مواقف قطر…

وعليه، وإذا كان أردوغان يتوقع النصر لـ''حكومة الوفاق'' فإنه يكون بذلك يخدع نفسه بنفسه. فمن يدعون أنفسهم رؤوس السلطة في ليبيا كالسراج وغيره، فالحقائق على الأرض تكذّبهم، وتثبت أنهم لا يملكون من أمر ليبيا لا حكماً ولا سلطة ولا يملكون حتى أمر أنفسهم، وأن الكلمة الأولى والأخيرة للمسلحين الذين يسيطرون على الأرض، وإذا ما أراد هؤلاء فإنهم يستطيعون طرد السراج وحكومته ومسؤوليه ورميهم خارج البلاد. أما الرهان الحقيقي في ليبيا، فعلى الجيش الوطني، المجهز تجهيزا جيدا يحظى بدعم كل من مصر والإمارات والسعودية وفرنسا وروسيا...، مما يعطي المشير خليفة حفتر، الكثير من التفاؤل بشكل يفوق ما يشعر به ''فايز السراج'' الذي يتلقى الدعم والمؤازرة من تركيا وقطر فضلا عن ورقة التوت المتمثلة باعتراف الأمم المتحدة، لكن كل ذلك لن يرجح كفة الميزان العسكري لصالحه.

وقد يُقال إن ما لا تستطيع هذه القوى كسبه في الميدان العسكري تكسبه بالميدان السياسي، باعتباره حقلاً خصباً لكل أنواع الضغوط والمساومات والابتزاز. هذا صحيح تماماً، ولكن عندما يكون في الميدان السياسي طرف خبير محنك كما هو حال المشير حفتر الذي خَبِر في السنتين الماضيتين الكثير من معارك الميدان السياسي وخرج منها رابحاً... فهذا يعني أنه الطرف الأقوى، وأنه القادر على الحسم ولو طال الأمر.

خلاصة الكلام: لتركيا أن تحلم، ولقطر أن تتوهم وتتورم...  في المقابل، على الشعب الليبي، أن يصمد ويحول الحلم كابوساً، وبثباته سيجعل الوهم والتورم يقتل أصحابه... فالشعب الليبي يقبل التحدّي، كرامته وسيادته فوق كل اعتبار... وإن مرتسمات خرائط المواجهة على الأرض وموائد السياسة تُقدم الدليل بعد الآخر على صوابية الخيار وحتمية المآل، وعلى الآخرين أن يستعدوا لهضم النهايات، فالعبرة في الخواتيم.‏