بعد ثمان سنوات من علامة "17 فبراير 2011" الفارقة في تاريخ ليبيا المعاصر، لازالت البلاد تعيش على إيقاعات الحرب والمعارك والفوضى وعدم الإستقرار، فقد كان العام 2011 في ليبيا عام الحرب الأهليّة الدّامية والثقيلة التي خلّفت (ولا زالت إلى اليوم) مئات الآلاف من الضحايا ومئات الآلاف من المهجرين والنازحين، ونزيفا حادا في الإقتصاد وجروحا غائرة في البنية الإجتماعيّة الليبية، فبعد ثمان سنوات تبدو التحولات التي عاشتها البلاد باهضة الكلفة مقارنة بالحصاد.

أحداث العام 2011 في ليبيا لم تكن معزولة عن سياق إقليمي كامل سُمّي بـ"الربيع العربي" والذي أحدث تغيرات كبيرة في المنطقة، وقاد إلى تحولات سياسية كبيرة في معظم الدّول العربية وخاصة في تونس ومصر الجارتين لليبيا، سياق كامل بدا أنه قد تميّز أساسًا بصعود صاروخي لتيار الإسلام السياسي ثمّ بداية أفوله تدريجيا حتى وصل إلى حد العزل النهائي في مصر التي تعتبر الوطن الأم لمختلف هذه التيارات، وهو ما أثّر على جميع 

هذه التحولات الإقليمية كانت لها تأثيراتها في الداخل الليبي، إضافة -بالتأكيد- إلى تقلبات الوضع محليا، فكان الإسلام السياسي وجماعة الإخوان المسلمين تحديدا في قلب تأثيرات هذه التحولات، بداية من نشوة "الإنتصار" وصول إلى "الإنحسار" ثمّ تحت إكراهات الضغوط الإقليمية والمحليّة، بحيث تبدو تحولات هذه الجماعات عينة نموذجيّة لفهم التحولات التي شهدتها البلاد خلال ثمان سنوات من عمر "17 فبراير". 

قبل العام 2011 كان الإخوان في ليبيا ممنوعين من العمل السياسي، حيث كان النظام السياسي القائم في ليبيا يمنع التحزّب بشكل عام، ولكنه كان بشكل خاص جذريا في مواجهة التيارات الإسلاميّة، سنوات طويلة من المواجهة مع مختلف هذه التيارات السياسيّة منها والجهاديّة، ولكن في نهاية العشريّة الأولى من الألفيّة الثالثة، دخل النظام في موجة واسعة من الإنفتاح السياسي والإقتصادي، وبدأت حركة إصلاحيّة كبيرة تظهر للعيان على مختلف الأصعدة، يقودها نجل الزعيم الليبي الراحل سيف الإسلام القذّافي، وعبر تلك الموجة الجديدة بدأ النظام في إعادة ترتيب علاقته بهذه الجماعات تحت غطاء مشروع "المراجعات" التي كان يستهدف بالأساس الجماعة الليبية المقاتلة وعناصرها القابعة في السجون، ولكن كان كلّ ذلك يحدث بمشاركة شخصيات محسوبة على التيار الإخواني، فكان ذلك بمثابة التطبيع الأوّل بين هذه الجماعات وبين النظام الليبي السابق، وكان نقطة البداية في تحولات جديدة لتيار الإسلام السياسي في ليبيا والذي بدأ رموزه في العودة إلى البلاد والخروج من السجون وحتى دخول بعض عناصره إلى الدّولة.

2.jpg


لكن مع بداية العام 2011 وبداية أحداث "17 فبراير" عادت العلاقة إلى شكلها "العدائي" القديم، فقد إختار الإسلاميون (كلهم) الوقوف في صف المواجهة مع النظام والسير في الصفوف الأولى لهذه المواجهة. إعلاميًا كانت قناة الجزيرة القطريّة، الواجهة الإعلاميّة لهذه الجماعات في مواجهة النظام خلال حرب العام 2011 المدعومة من قبل حلف الناتو، بينما كان الجهاديون الحركيون في خطوط المواجهة العسكريّة مع الجيش الليبي، وعلى الجبهة السياسيّة كان عناصر هذه التيارات في صدارة المشهد السياسي، وكان الخطاب مثقلا بالمصطلحات الدينيّة والجهاديّة، وكان الصوت الأقوى داخل معسكر "17 فبراير" هو صوت الإسلاميين، وكان حضور غيرهم من التيارات المدنيّة والحقوقيّة باهتا وضعيفًا إلاّ ما كان يخدم المواجهة بشكل عام أو للتسويق في الإعلام الغربي والأجنبي.

كانت 17 فبراير نقطة فاصلة في تمكّن هذه التيارات من جميع مفاصل البلاد، فمدينة بنغازي ثاني كبرى المدن الليبية والمدينة التي انطلقت منها شرارة الأحداث، كانت قد تحوّلات مع سقوط نظام العقيد معمّر القذّافي إلى كثكنة كبيرة للجماعات الجهاديّة، وساحة دامية لتصفية العسكريين والصحافيين والناشطين الحقوقيين، بينما انتشرت الميلشيات المحسوبة على الإسلاميين في مختلف مدن البلاد تحت مسميات الدروع بغطاء رسمي من المؤتمر الوطني العام الذي تمكّن التيار الإسلامي من السيطرة عليه بفعل قانون العزل السياسي الذي أقرّ تحت قوّة السلاح وحصار الميليشيات لمقر المؤتمر.

خلال انتخابات المؤتمر الوطني العام، لم يتحصّل الإسلاميون على نتائج كبيرة، لكنهم تمكنوا من السيطرة على الغرفة التشريعية العليا في البلاد بفضل قانون العفو العام، هذا القانون الذي أقصى من الساحة مئات الآلاف من الليبيين وحرمهم من حقوقهم المدنيّة وحجّر عليهم الاضطلاع بأدوار سياسيّة، رغم أنّ نسبة ممن شملهم القانون كانوا من كبار قادة "17 فبراير"، وبالتالي تمكّن الإسلاميون من السيطرة على مختلف المفاصل السياسية والأمنيّة والعسكريّة في البلاد، وسيطروا على جل المؤسسات الإقتصاديّة والهيئات الرقابيّة وأحكموا سيطرتهم على المؤسسات الدينيّة والأوقاف ومؤسسات الإفتاء، فكان المؤتمر الوطني العام بوّابتهم الأولى والكبيرة نحو "التمكين".

501.jpg

ثمّ ومع بداية العام 2014، واقتراب نهاية هذا المؤتمر، وهو السلطة التشريعيّة العليا في البلاد، أراد الإسلاميون التمديد لأعمال المؤتمر وتأجيل الإنتخابات التي كانت مبرمجة في نفس العام، لكن هذا المخطّط فشل تحت ضربات قوى عسكريّة من العاصمة وخارجها، ثمّ مع انطلاق عمليّة الكرامة في بنغازي، وأيضًا داخل سياق إقليمي عام تميّز بانكسار شوكة الإسلاميين في مصر، البلد الأهم في المنطقة ومسقط رأس معظم الجماعات الإسلاميّة في العالم العربي سياسيًا وحركيًا، وبعد مناورات طويلة وداميّة تم إجراء الانتخابات منتصف العام والتي مني فيها الإسلاميون بهزيمة كبيرة، ما كان يعني عمليًا خساراتهم لمختلف الإمتيازات السياسية والاقتصاديّة التي كانوا يتمتعون بها، وخسارة الحلف الدّولي الذي كان يقف ورائهم لنفوذه في البلاد، فتم الارتكاز على نقطة في الاعلان الدستوري حول إشكالية انعقاد الجلسة الأولى للبرلمان في مدينة طبرق بسبب المواجهات في مدينة بنغازي لإستصدار قرار من المحكمة الدستوريّة في طرابلس الخارجة لتوها من حرب شرسة بين "فجر ليبيا" (تحالفت لجماعات عسكرية إسلاميّة) ومجموعات مسلحة من مدينة الزنتان التي تتمركز في العاصمة طرابلس (أعلنت لعمليّة الكرامة بقيادة حفتر في بنغازي)، وكان القرار يقضي بعدم شرعيّة الجلسة الإفتتاحية للبرلمان وما تبع ذلك من تأويلات قسريّة حول عدم شرعيّة البرلمان نفسه وبالتالي إعادة المؤتمر العام السابق إلى العمل في العاصمة طرابلس التي أصبحت كل مؤسساتها (وبالتالي كل المؤسسات الرئيسية في البلاد) تحت سيطرة هذه الجماعات، وتم الإعلان عن حكومة جديدة سميت الإنقاذ الوطني، وبالتالي دخلت البلاد في دائرة أخرى من الصراع والإنقسام في وقت كان من المفروض أن يكون البرلمان الجديدة هو المرحلة الأخيرة من مراحل "الإنتقال الديمقراطي" في البلاد والتأسيس لمؤسسات حقيقية ودائمة تخرج بليبيا من سنوات اربعى من الفوضى والاحتراب والانقسام، قد لا يكون الإسلاميون وحدهم المسؤولين عن هذه الأزمة لكنهم كانوا فعليًا أحد أهم مكوناتها والفاعلون الرئيسيون فيها .

4.jpg


مع دخول البلاد في موجة جديدة من الانقسامات التي طالت لأكثر من عامين، جاء اتفاق الصخيرات الذي مثّل مرحلة أخرى مصحوبة بتطورات كبيرة صلب الجماعات الإسلاميّة، فبقدر ما وفّر لهم مساحة للمناورة وجزءا من المشاركة في المشهد بقدر ما فرض عليهم اكراهات أخرى لعل أبرزها تثبيت البرلمان كجسم تشريعي شرعي وتثبيته ولو بشكل غير مباشر للجيش الليبي وقائده خليفة حفتر كجزء هام وربّما رئيسي في المعادلة الليبية وهو ما سيزيد الوضع تعقيدا بالنسية لهم مع انتصارات الجيش في بنغازي ودرنة وسيطرته على الهلال النفطي ثمّ تقدّمه في الجنوب نحو آبار النفط الكبرى في البلاد، وبالتالي إحكام سيطرته التامة على العصب الإقتصادي العام.

كل هذه التحولات في المشهد السياسي في ليبيا تحمل في طياتها كل مرّة تحولات عميقة تمس هذه الجماعات، فمع سيطرة كتائب ثوار طرابلس والدعم المركزي بوسليم وقوّة الرّدع على سجن الهضبة وقاعدة معيتيقة في طرابلس بعد دخول المجلس الرئاسي الى العاصمة طرابلس، خسرت هذه الجماعات جزءا كبيرا من نفوذها في العاصمة رغم تمثيلها السياسي في المجلس الرئاسي ذاته، تضاف الى خسارتها المستمرة للكثير من مواقع نفوذها في مختلف مناطق البلاد تحت ضغط ضربات الجيش الليبي، أو تحت ضغط التحولات الإقليميّة المتسارعة في العالم العربي.

libye_3.jpg

هذه التحولات الإقليميّة الطاحنة والمتداخلة مع الأجندات الأجنية في البلاد، مثّلت الجماعة قلب رحاها، فالمخور القطري-التركي الذي يقف بكل قوّة خلف هذه الجماعات بمختلف توجهاتها، بدأ نفوذه في الإنحسار بشكل كبير، مرفودا بهزيمة الإخوان في مصر وتراجع نفوذهم في تونس، وكذلك بالحصار العربي/الخليجي على قطر، وما تبعه من تصنيفات إرهابية لمختلف رموز وكيانات هذه الجماعات في ليبيا. 

كلّ هذه العوامل والتقلبات المحليّة والإقليميّة، يضاف إليها صعود ترامب في أمريكا وخسارة كلينتون لإنتخابات الرئاسة، إضافة إلى عودة روسيا إلى الساحة الليبيّة، ومع توسّع نفوذ الجيش الليبي وانحسار القاعدة الشعبيّة الداعمة لهذه الجماعات وتجفيف منابعها الماليّة وحتى فتور الحماس الشعبي تحت تأثيرات الحصيلة الدامية بعد ثمان سنوات من "17 فبراير" وتحت تأثيرات الوضع الصعب على جميع المستويات في البلاد إقتصاديا وأمنيا ومعاناة المواطن، ووسط توسّع دوائر الحنين الشعبوي لما قبل العام 2011، ما أدّى في المجمل إلى تراجع كبير لهذه الجماعات على جميع المستويات.

وربّما تبقى موجة الاستقالات الأخيرة من جامعة الإخوان المسلمين وحملات التبرؤ من الجماعة وتغيّر لكنة الخطاب الإعلامي والسياسي لهذه الجماعات ومحاولتها لترميم صورتها، مع خسارتها لمعظم أوراقها الرابحة وتراجع قوّة المحور الدّولي المُراهن عليها، هي آخر الأدلّة على هذا المأزق الذي وصلته هذه الجماعات بعد ثامن سنوات من "17 فبراير" 2011، سنواتٌ ثمانية مرّت خلالها هذه الجماعات من التمكن إلى التراجع، ومن التقدّم والسيطرة إلى التراجع والخسائر الكبيرة، في انتظار تطورات أخرى في المشهد الليبي وكيف ستتفاعل معه هذه الجماعات، وإلى أين مصير تتجه .