في ليبيا اليوم، حلّ الاستنتاج المنطقي واستقراء القرائن مكان التنبؤات والتهويمات، سواء أكانت قراءة طوالع في فناجين السياسة أو استنطاقاً للجنّ أو ضرباً للمندل... وما يُكتَب في كل يوم على امتداد مساحة ليبيا العزيزة يملأ بحراً بالحبر الأسود، وكثيره يتهادى ويكرّر بعضه بعضاً، اللهمّ إلا إذا كان هذا التكرار مجرّد إعادة إنتاج لغويّة ليس إلا، فالشفافيّة شحيحة، وتشحّ أكثر فأكثر كلما اقتربت من حرم السياسة وأروقتها ودهاليزها، لأنّ معظم الأجسام السياسية ومنذ إسقاط النظام في ليبيا، يُملَى عليهم ولا يقرّرون بإراداتهم الحرّة، وتلك كوميديا مؤرشفة محفوظة عن ظهر قلبٍ وأسىً من قِبل الشعب الليبي، وإن كانت تستدعي السخرية والبكاء لا الضحك والرّضا لهول مفارقاتها العجيبة وأجنداتها المرعبة! وأكثر مَنْ يثيرون الإشفاق أو الاستنكار هم أولئك اليقينيّون الذين لا يشوب اليقين لديهم غبار الشك، فهم يجزمون ويُفتون لمجرّد أنهم يصدّقون السّراب المخادع، فيمدّون أيديهم إليه لتعود منه أكثر جفافاً وعطشاً!  
أقف اليوم عند الثقافة، وأعتبرها سبباً من أسباب تردي ليبيا! فكل ما يجري سببه الثقافة، وهنا لا أريد الوقوف عند الأشخاص، ولا يعنيني الأشخاص، ولا أتوجه بالنقد إلى شريحة من الذين تولوا أو يتولون الأمر الثقافي، ولكنني أقف عند آلية التفكير، والمنظومة الفكرية التي عملت على تهميش الثقافة في ليبيا، وتحويلها من فاعل إلى منفعل، ومن مؤثر إلى متأثر، هذه الآلية التي جعلت الثقافة والفعل الثقافي في الدرك الأسفل من اهتمامات الليبيين، بل من عنايتهم، والتي لا تبدأ من الجهلة والمعقدين الذين يتندرون في ليبيا على المثقفين، ويقولون: مثقفو المقاهي، العلمانيون، الملاحدة... وما شابه من نعوت سلبية تجعل المثقف في مواجهة المجتمع الليبي! ولا تتوقف عند التندر على المثقف وشعره وصلعته وهيئته وبوهيميته ما يجعل المثقف في المجتمع منبوذاً ومرفوضاً! ولا تكون عند إلصاق الصفات الأيديولوجية السلبية بالمثقف من إلحاد وتحلل وإباحية وما شابه بحيث يتحول المثقف إلى شيطان رجيم في نظر الأغلبية من أبناء المجتمع الذين يهدف المثقف والفعل الثقافي إلى تنويرهم، فيتحول المثقف من تنويري تثويري إلى لوحة من التهكم! ونسأل بهدوء: أليست ليبيا في أزمة ثقافة؟ أليس كل ما يجري على أرض ليبيا اليوم من صراع وتناحر... سببه الثقافة؟  
إنّ "الثقافة" ـ في رأي البعض ـ قد تكون القذيفة ''الأهمّ'' في هذا الصراع السياسي الذي تشهده ليبيا، ـ ومن أسف ـ وضعوها ''أعني الثقافة'' دائماً في آخر فقرة من الخطاب السياسي والثقافي والاجتماعي والإعلامي، وملأوها بقسطٍ غير قليل "من الدّعايات والإعلانات والمناقصات وأخبار الوفيّات" في بعض الصحف والمواقع والشاشات التلفزيونية، وبتعبيرٍ أدقّ "ليبيا تتقدّم إلى الوراء في الجانب الثقافي الأهمّ"، وأيّ مجتمع بلا ثقافة هو مجتمع بلا حياة ولا هوية وطنية ولا روح، فبعض الأفكار والآراء والمفاهيم والرّؤى هي "باتريوت" أو مضادات في صميم الصراع السياسي الليبي، لكن زعماء ليبيا الجدد قلما عبأوا بهذا الجانب الذي يبدو أشبه ما يكون بـ ''الفانتازيا'' أو البَطَر الثقافي أو "البارانويا" السخيفة! واقع الحال يؤكد أنّ السلطات الليبية أصرت وبفعل ممنهج على إبعاد المثقف الحقيقي عن المعادلة، وسعت إلى تكريس التصنيف، فهذا إما مثقف سلطة أو مثقف معارض، والطريف أن المثقف الليبي قد يدري وقد لا يدري أن السلطة تقوم بنفسها بتعرية مثقفها الذي تحول إلى بوق، تعريه لتصنع مثالاً سلبياً عن المثقفين والثقافة، حتى لا يصبح المثقفون رواداً! والسلطات هي التي صنفت المثقفين كما سبق، فهي التي عندما لا يعجبها رأي تروج إلى أنهم مثقفو مقاه للتندر عليهم وإبعادهم عن الفاعل المؤثر!  
وفي هذا الإطار تحولت العملية الثقافية في المجتمع الليبي من عملية إحيائية تنويرية تثقيفية إلى عملية تكميلية لا تؤثر إن غابت وإن حضرت! فوزارة الثقافة الليبية وفي عقود متتالية ليست أكثر من مرتع وظيفي يحوي بطالات مقنعة هنا وهناك، ولا يهم من يتولى أمر الثقافة، إن كان مثقفاً أم لم يكن! إن كان مقنعاً أم لم يكن! إن كان مهماً يمكن تفريغه وتصنيفه مثقف سلطة، وإن لم يكن مهماً فهو مجرد إداري يمكن أن يتعلم، وإن لم يتعلم فهي ثقافة، والثقافة لا تعني شيئاً في نظر السلطات الليبية! والثابت المؤكد لدى كل متابع ومهموم بالشأن الثقافي الليبي، أنّ الوزارة لم تقدم ما عليها، والمتولي لها لم يعطيها أي اهتمام، فهي إرضاء ومرحلة، لذلك لا بأس من تهميشها وحلبها حتى آخر لحظة! بل إن الأمر تجاوز ذلك، فصارت الثقافة في ليبيا بموقعها الوزاري، ومواقعها الإدارية مجال إرضاء للجماعات والأشخاص...، هل نستعرض الأسماء على المستوى الليبي؟! لا داعي لذلك، فالعارف لا يعرّف.
ليبيا اليوم أشبه من بعض النواحي طبيب القرية في زمن الأربعينيات، الذي كان يختنُ الأطفال ويخلع الأضراس بالكمّاشة دونما "بنج" أيضاً، وكان يعالج داء السرطان بالكمّادات، والكوليرا بالإسبرين، والنزيف بالمزيد منه! أليس ما يُقدَّم اليوم أمام عيوننا وفي أسماعنا من وصفات جاهزة للصراع داخل ليبيا، وجود يهدّد الشعب الليبي بالاقتسام والتقسيم. ليبيا اليوم، أشبهَ ما يكون بقرص "إسبرين" لرجل يحتضر وهو يقترب من حتفه والرّحيل! ثم أليس التسطيح السياسي وادّعاء الثقافة واستيراد المعلومات كبديل من الحصول عليها بالجهد والوعي والإبداع والقراءة، هي الطريق السهل المعبّد الذي تتدفّق منه آليّات الأعداء والغزو الثقافي بمعزلٍ عن النّيات والماورائيّات، فدائماً "وراء الأكَمَة ما وراءَها"؟  
وعَوْد على بدء... ليكن الشعب الليبي أبصرَ بمشكلاته وأزماته وأوجاعه الداخلية، مستعيناً ببصيرة لا تغلبها السطوة والغفلة والجهل والتّراخي والتهويمات الكاذبة، ألم يقل الفيلسوف والكاتب اللبناني المرحوم "جبران خليل جبران" ذات يوم: "إنك لا ترى سوى ظلك وأنتَ تديرُ ظهرَك للشمس''.  
ليبيا بحاجة إلى التغيير، فقد بليت الثقافة، واختلّ الإعلام، فلا ضير من تغيير الفكر ومفرداته المنتمية، فالمعرفة تحتاج إلى ثقافة وتشجيع من مختلف جهات الحكومة، وبما أن السياسة طموحة لتحقيق الأفضل وبناء جسور بين أبناء الوطن الواحد المتنوع أولاً، فنجاحها يقيناً مرتبط بعامل الثقافة، وليبيا ستخرج من أزماتها عندما تتوقف عن النظر إلى الثقافة على أنها الجحش الواطي، الذي يمكن أن يركبه من هبّ ودبّ، وهو رخيص الثمن إن مات فهو لا يعني أحداً! تخرج من أزماتها عندما تدرك أن الفعل الثقافي التنويري الوطني هو الذي يبعد ليبيا عن التطرف سياسياً وأيديولوجياً ودينياً، فالتطرف ليس وجهاً واحداً! عندما لا تجد أن أي حل يكون على حساب الثقافة، فلا أحد ينتظرها!
نعم... لا أحد ينتظر الثقافة، لكن ما من أحد تولى الأمر الثقافي وسعى أن يذهب بالثقافة إلى الناس بدل أن يأتوا إليه... يريدون من المثقف والمبدع أن يقصدهم ويتوسل ويتسول بين أيديهم، والأجدى أن يتوسلوا الفعل الثقافي.
كاتب صحفي من المغرب.