تعيش ليبيا على وقع انفلات أمني وفوضى كرستها الإنقسامات،التي أدخلت البلاد فى دائرة مفرغة من   الصراعات والحروب المتواصلة،وفتحت الباب لإنتشار الميليشيات المسلحة والتنظيمات الإرهابية.ويحدث كل ذلك وسط أوضاع معيشية مزرية في مختلف أنحاء البلاد بسبب توالي أزمات التي تثقل كاهل المواطن.

وتزايدت معاناة المواطنين الليبيين مؤخرا بسبب صعوبة الحصول على السيولة النقدية، نظرا إلى عجز المصارف عن توفير الأموال التي يطلبونها،وبات الوقوف في طوابير أمام المصارف لسحب بضع عشرات من الدنانير امرا روتينيا لدى معظم الليبيين، حيث يترافق انتشار الفوضى في هذا البلد المضطرب مع نقص مستمر في السيولة.


** طوابير 

تلقي أزمة شحّ السيولة النقدية التي تعيشها ليبيا منذ أشهر طويلة، بظلالها على كامل مناحي الحياة في البلاد،حيث يتدافع المئات من الزبائن أمام البنوك في عدة مناطق ليبية،والذين ينتظرون لساعات طويلة بهدف سحب الأموال في دلالة واضحة على النقص الحاد في السيولة.وأصبح الانتظار يوميا لساعات طويلة أمام المصارف، أمرا روتينيا بالنسبة إلى عدد كبير من المواطنين المحتاجين لسحب جزء من أموالهم.

وتعتبر الطوابير أمام المصارف مظهرا آخر من مظاهر معاناة المواطن الليبي،حيث يتعرض لشتى أنواع الإنتهاكات.وتناقلت وسائل إعلامية مقتل شاب ليبي في العشرين من عمره بطلق ناري،الأربعاء ، وهو ينتظر دوره في طابور أمام أحد المصارف في منطقة وادي الربيع، شرق العاصمة طرابلس

والثلاثاء الماضي،أعلن مستشفى الشهيد أمحمد المقريف أجدابيا استقبال جثمان المواطن محمد مختار الشريفي والذي قام أحد المواطنين بإسعافه بعد إصابته بجلطة أثناء انتظاره في طابور أمام مصرف الوحدة فرع أجدابيا لاستلام راتبه.

وتعاني البنوك الليبية من نقص حاد في السيولة،وهو ما يلقي بأعباء إضافية على السكان المحليين،ويتهم البعض البنوك بزيادة آلام المواطن.كما يشتكي البعض وخاصة النساء من سوء المعاملة التي يقولون إن حراس المصرف يقومون بها تجاههن أثناء وقوفهن فى الطوابير.

الكاتب الصحفي "جمعة الترهوني" وثق عبر صفحته الشخصية بـ"فيسبوك"، بالصورة أحد مشاهد القسوة التي تتعرض لها الليبيات أمام المصارف، فيقول "مواطنة من ضمن النساء اللائي بتن الليل أمام مصرف الوحدة بجنزور في انتظار المبلغ المفروج عنه سألت أحد مليشيا مصرف الجمهورية، بعد إعطائه الرقم فأخبرها بأنه ليس لها شيئا وأن من أخذ نصيبه في في عيد الفطر لا يحق له أن يأخذ الآن إلا بعد عيد الأضحى، وصاح فيها:"والله ما دمت أنا هنا سأقرر هذا وما فيش راجل هنا يتحداني وأنا حُر".

وفي سياق متصل،تناقل ناشطون مقاطع فيديو لسيدات يفترشن الأرض انتظاراً لدورهن في صرف الرواتب والمعاشات، وسط زحام ومشادات كلامية وصلت إلى التدافع الشديد.وبات المشهد،بحسب الكثيرين علامة صارخة على عدم قدرة الحكومة على إحراز تقدم صوب إنهاء أعوام من الاضطرابات السياسية والصراعات المسلحة.


** حملة أهلية

وأمام تواصل الأزمة وعجز المسؤولين،تتصاعد حدة الإحتجاجات الشعبية المنددة بهذه الأوضاع المتردية.وفي هذا السياق،أطلق أكثر من 1650 مواطنًا ليبيًّا، حملة تحت مسمى "قاضيهم كرامتك وفلوسك من حقك" لرفع دعاوى ضد المصارف التجارية لعدم التزامها بتوفير السيولة لهم وفق ما حدده القانون.

وقالت منسقة الحملة، خديجة العمامي،الأحد 19 أغسطس/آب، أنه تم اطلاق نموذجًا إلكترونيًّا يسجل فيه كل من يرغب في رفع دعوى قضائية على المصارف الليبية ومصرف ليبيا المركزي كونه الضامن لهذه المصارف ووصل عدد الراغبين في رفع الدعاوى إلي أكثر 1650 مواطن.

وتابعت:"لا يزال العدد في تزايد، وبعد أن جرى فرز القوائم من قبل الزملاء في الحملة، كل حسب مدينته ومصرفه، تبين أن أكثر المواطنين الذين تقدموا بالشكاوى من زبائن مصرف التجارة والتنمية ومصرف الجمهورية".

وأضافت أن المصارف أصبحت تساهم بشكل كبير في إفقار المواطن الليبي والتحكم في أمواله التي هي وديعة لديها ومن حق المواطن أن يسترجعها متى يشاء، مشيرة إلى أن كل الحلول التي قدمتها المصارف ما هي إلا حلول زادت من عمر الأزمة وسرقة تحت عين القانون وتحت عباءة المسؤول الذي لم ولن يتأثر من هذا الوضع.

ولفتت خديجة العمامي إلى أن "المحامي عمر الساحلي هو المحامي الوحيد الذي انضم للحملة، وهو مَن يتابع الإجراءات القضائية"، كما استغربت العمامي"عدم تقدم المحامين للمساعدة، خصوصًا الذين يرفعون شعار الدفاع عن حقوق الإنسان باستثناء المحامي عمر الساحلي".

وليست هذه الحملة الأولى من نوعها،ففي يونيو الماضي،دعا نشطاء في مدينة بنغازي إلى مقاضاة المصارف الليبية، على خلفية ما وصف بإذلال الليبيين أمام أبوابها، بحجة عدم وجود سيولة.وطلب النشطاء من كل راغب في الانضمام للحملة اطلاق هاشتاق (قاضيهم_كرامتك_وفلوسك_من_حقك). 

وناشد النشطاء المواطنين بالقول " "أيها السيدات والسادة المواطنين، فأموالكم هي حقكم وما المصارف إلا مؤسسات مؤتمنة عليها وهي لأجل راحتكم وخدمتكم لا لإذلالكم والكسب اللامشروع من وراء خدمات تحتال عليكم، وعليه بدل الإذلال في طوابير مهينة أمام المصارف لإستلام فتات من ماهو حق لكم، أو البحث عن وساطة مدفوعة الثمن أو تعريض شرف نسائكم للإستغلال والمساومة من الموظفين".


** إحتجاجات

على صعيد آخر،أغلق مواطنون محتجون،الأحد 19 أغسطس/آب،الطريق أمام مصرف الجمهورية في مدينة المرج لعدم تحصلهم على سيولة نقدية.ورفع المحتجون الذين معظمهم موظفون المركز الوطني شعارات تطالب بفتح المصارف وتوفير السيولة وقاموا أيضًا بحرق إطارات السيارات.

وتعاني مدينة المرج منذ أشهر أزمة خانقة في السيولة النقدية، الأمر الذي اُضطر معه المواطنون في المدينة إلى اللجوء للتعامل بالصكوك المصدقة والتحويلات المصرفية.وفي أبريل الماضي شكا مدير مصرف "الجمهورية"، فرع المرج مراجع القوي، من أن الأموال التي يرسلها المصرف المركزي قليلة جدًّا، ولا توجد في المصرف إيداعات للاعتماد عليها في توفير السيولة.

كما أقفل عشرات من النسوة الطريق الساحلي بمنطقة جنزور أمام فرع مصرف الجمهورية (مصنع النسيج) إحتجاجاً ورفضا لتعليق إدارة المصرف التي وعدت بمنحهن 500 دينار ثم أصبحت 300 دينار.

وأغلقت سيدات ليبيات،الأربعاء الماضي، طريقًا رئيسًا يربط العاصمة الليبية طرابلس بمدينة الزاوية والحدود التونسية احتجاجًا على سوء معاملة المصارف وعدم قدرتهن على تحصيل السيولة النقدية.وتجمهرت النساء المحتجات في مدينة جنزور أمام مصرف الجمهورية فرع النسيج وشرعن في الهتاف ضد إدارة المصرف ورئيس المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق بسبب سوء الأوضاع المعيشية والمعاملة غير الإنسانية من المصرف، قبل ان يقدِمْنَ على إغلاق الطريق الساحلي بالإطارت المشتعلة.

وتداول ناشطون عبر مواقع التواصل الاجتماعي صورًا من تلك الاحتجاجات؛ إذ ظهرت إطارات السيارات مشتعلة في حين تجمهرت المحتجات الغاضبات على الطرقات.

ونقلت "إرم نيوز"، من مصادر محلية في جنزور، أن النساء تواجدن أمام المصرف منذ ساعات الفجر، دون أن يتمكنّ من الحصول على السيولة التي أعلنت الحكومة عن صرفها، مشيرة إلى أن موظفي المصرف أخبروا النساء بعدم وجود سيولة ما أدّى إلى استفزازهنَّ.ورصد ناشطون بعض الليبيات وهن مستلقيات على الأرض فيما وقفت أخريات بجانبهن.

ومطلع الشهر الجاري،أكد مدير مكتب الإعلام بمجلس غريان البلدي حامد النويصري، خروج عدد من سكان المدينة في مظاهرة؛ احتجاجا على شح السيولة النقدية في مصارف المدينة، مشيرا إلى أن السيولة النقدية لم تتوفر في المدينة منذ عيد الفطر، وأن المظاهرة تسببت في حدوث ازدحام شديد وارتباك في حركة المرور داخل المدينة.

وكان كل من مجلسي الدولة و الرئاسي ومصرف ليبيا المركزي قد أعلنوا عن برنامج للاصلاحات الاقتصادية تُحل بموجبه أزمة السيولة وتنخفض الاسعار وتعديل سعر صرف الدولار الا ان شيء من هذه الوعود لم يتم تنفيذها. ويحمّل الكثيرون المجلس الرئاسي وحكومته المسؤولية الكاملة عن إستفحال أزمة نقص السيولة وإنتظار المواطنين لساعات طويلة أمام المصارف للحصول على مبالغ زهيدة في ظل المصاريف العالية التي تحتاجها العائلات الليبية لعيد الأضحى المبارك. 

ويذكر أن رئيس المجلس الرئاسي فائز السرّاج كان قد وعد لدى تسلمه لرئاسة المجلس قد وعد بحل كل المشاكل اليومية التي تعترض حياة المواطنين ومن بينها نقص السيولة النقدية في غضون 100 يوم من إستلامه لمهامه ، ومع مرور أكثر من عامين على إستلام المجلس لمهامه لايبدو في الأفق أي حل قريب في ظل جدل واسع يدور حول إمكانية تطبيق برنامج الإصلاح الإقتصادي مع المصرف المركزي من عدمه.

ويرى مراقبون، إن غياب سلطة موحدة للدولة، والانقسام والانسداد السياسي، أدى إلى تدهور الوضع الأمني والإقتصادي في هذا البلد الغني بالنفط.ويبقى طريق المصالحة وإرساء تسوية شاملة الحل الأمثل لإنهاء الفوضى وتحقيق الإستقرار في البلاد،أملا في إنهاء الأوضاع المأساوية للمواطن الليبي.