لا يختلف اثنان على أنّ الفن التشكيلي لم يعد مؤثرا في المجتمعات المغاربية، وأنّه ـ أسوة بباقي الأجناس التعبيرية في الفن والأدب ـ أصبح يفتقد الحضور الفاعل الذي كان مأمولا منه، خصوصاً وأنّ هناك من ذهب بهذا الفن بعيداً، وإلى أماكن قصية، تحت دعاوى التجريب التي تشير إلى إيغال في الرمزية، وسوء فهم للفن ورسالته الجمالية والاجتماعية... ما جعل المعارض تتحول إلى ملتقيات يلتقي فيها التشكيليون لتبادل المجاملات، والتنظير الذي لا يخلو من الإنشاء، بهدف بيع هذه اللّوحة أو تلك. إنّ الطابع الاستهلاكي للّوحة يمثل مشكلة عالمية لا تنحصر في دولة، ولا تقتصر على ساحة دون أخرى، ويخضع هذا الطابع لعدة عوامل، أبرزها طبيعة النخبة الثقافية والفنية (الإنتلجنسيا) التي تعد الفئة الأقرب إلى اللوحة غير الاستهلاكية،حيث يؤثر حجم هذه الفئة في كيفية النظر إلى اللوحة، والتعامل معها بمنظور واع، أو ببعد استهلاكي.

ويتفاوت تأثير هذه النخبة، وهذا مرتبط بالثقافة أو الأميّة البصرية، ففي دولنا المغاربية لا يتم تدريب عين المتلقي لاستلهام قيمة اللوحة، لا في المدارس ولا في المعاهد ولا في الجامعات، الأمر الذي يقود إلى تكريس اللّوحة الاستهلاكيّة والتعامل مع الفن كسلعة. ومادام الحديث عن أزمة في الفن التشكيلي، فلا بد من التوقف عند البرجوازية الجديدة، التي يقبل أفرادها على اقتناء اللّوحات، ولكن على اعتبار أنّها اكسسوارات تزين جدران (الفيلا)، فهي ليست أكثر من قطعة أثاث بالنسبة لمقتنيها...! ويرتبط العمل الفني الاستهلاكي بدور المؤسسة التي ترعى الفن أو تسوقه، وقد أثبتت التجارب أنّ هذه المؤسسات عندما تكون غير ربحية، فإنّ نسبة النظرة إلى اللّوحة ببعد استهلاكي تكاد تنعدم، على خلاف ما نجده في ''الغاليريهات'' الصغيرة المتفرقة، التي لا يمكن أن تنجح في المحافظة على بقائها واستمراريتها من دون أن تلجأ إلى التسويق بأسلوب سلعي بحت.

ويسهم في هذه الأزمة غياب النقد الفني الجاد، وأقصد النقد الذي يفرز الأعمال الاستهلاكية ويقوّمها، فنحن نعيش في قوقعة بسبب انفلات النقد الفني الذي يكرس أدواته في التهويل والتهريج لظواهر فنية تحكمها العلاقات والعاطفة والمصالح الاقتصادية، ونعلم ما لهذا الأمر من تأثير في مستوى المعرض التشكيلي، الذي يصبح مجرد بروتوكول تعريفي لمنتج اللّوحة، من دون النظر للوحة ذاتها فضلاً عن غياب التوثيق الفني، وعدم الالتفات إلى التقسيمات الفنية للتفريق بين الهاوي والرسام والفنان المحترف. فلا نعجب إذا كان الانطباع السائد في أذهان المواطن المغاربي العادي، عن أن الفنان هو من يرقص أو يغني أو يمثل أو يدق الطبول... ومن المتعذر أن يقفز إلى ذهنه أن الفنان التشكيلي هو الفنان الذي يستحق هذا اللقب قبل غيره، وليس هذا تغالياً أو تحيزاً أو انفعالاً ولكنها الحقيقة المعروفة في العالم أجمع وفي كل لغاته الحية ومصطلحاته! والسبب في ذلك يعود في المقام الأول إلى قصور أجهزة الإعلام المغاربية وافتقارها على المحلل أو الناقد للفنون الجميلة، وعدم اهتمامها الاهتمام الواجب بهذا النوع من الإبداع.

وإذا تناولنا الصحف كمجال للكلمة والصورة، فإننا نجد ـ باستثناء بعض الكتابات الجادة النادرة ـ أن أغلب ما ينشر عن الفنون التشكيلية عبارة عن كتابات أكثر تعقيداً من الأعمال الفنية نفسها، أو مجرد حصر وصفي للمعروضات يكتب بسلبية غريبة، أو على أحسن الفروض تسجيل لانطباعات عابرة... وفي جانب آخر نرى أن ما يكتب لا يخرج عن تقولات من الهجومات أو إطراء من المجاملات دون منطق يحكمها أو فهم يؤيدها... والأهم في الأمر أن الجمهور يتصفح هذه الكتابات غير عابىء بها، فهي لا تعنيه في شيء... بنفس السلبية التي يشاهد بها الإنتاج الفني ذاته !. أي أننا نفتقد إلى عملية النقد الفني كعلم له أصوله وأهدافه. ومن الأمور العادية في صحافتنا وأجهزة إعلامنا المغاربية المتعددة، أن نرى أي إنسان يكتب أو يقول أي كلام عن الفن التشكيلي! فبعد أن كاد يفقد هذا الفن تأثيره وخطورته على الحركة الثقافية والفكرية عامة، لم يعد لما يقال عنه بالتالي أي تأثير أو خطورة، وهذه المشكلة متأتية من عدم وجود الوعي الأفقي الواسع لمفهوم النّص البصري، وهذا يقودنا إلى الحديث عن الخلل في التربية الجمالية للطفل منذ الصغر، والذي يجعله مصاباً بالأميّة البصرية، لأنّ الفن التشكيلي لا يشكّل أولوية من أولويات بلداننا أو توجهاتها السياسية، مثلما هو الحال في الدول الغربية التي يشكل فيها النص الجمالي حافزاً جديراً بالقراءة والاكتشاف والمتابعة. ففي إيطاليا، مثلاً، تجد نفسك محاصراً بالتماثيل التي تتوزع في الساحات العامة، والتي تجعلك على اتصال دائم بالتاريخ والأسطورة، وكأنّما أنت في رحلة بصرية تتوازى مع رحلة التسوق مثلاً في ذلك البلد.

وعلى المستوى المغاربي، نحن بحاجة إلى إعادة النظر في المنهاج المدرسي، وتوسيع قاعدة التربية الجمالية، ورفع سويّة الذوقية البصرية حتى تصبح اللوحة الفنية أكثر تأثيراً وتفاعلاً مع عين المواطن، الذي لا يضع في أولوياته زيارة متحف أو التفرج على معرض برفقة عائلته، ولكنه يتحمس مثلاً للتسوق، أضف إلى هذا أنّ هناك قطيعة بين المبدعين في مختلف الأجناس الإبداعية وبين اللّوحة الفنية، فمن النادر أن تجد شاعراً أو ممثلاً أو مسرحياً يتجول في أروقة معرض تشكيلي، علما أن الفن التشكيلي يدخل في القصيدة والدراما والنص السينمائي، وخشبة المسرح، على حد سواء، كما أنّنا نفتقد إلى أكاديميات فنون وإلى متاحف عريضة في المدن الصغرى أو الكبرى، وكل هذا لا يتأتى إلا عبر استراتيجية واضحة من قبل دولنا لتثوير هذه الساحة الثقافية التي يتم تجاهلها، علما أنّ العالم يتجه حاليا نحو منطق الصورة. 

والحقيقة المرّة، أنّ الفن التشكيلي ببلداننا المغاربية، لا يزال كياناً غريباً وطارئاً على الساحة، لأنّ الثقافة بمجملها ثقافة لغويّة صوتية، تهتم بإيقاع الكلمات، والجرس الذي تحدثه هذه اللغة في الأذن، من دون أن تتمكن من الاستقرار عميقاً في الوجدان والذهن، الفن التشكيلي لدينا صار ساحة رخوة يستسهلها الكثير من الأدعياء ومحبي الاستعراض، بينما يكاد الفنان الحقيقي يتوارى خجلا خلف الستارة، أمّا عن المعارض فحدث ولا حرج، فقد صارت أشبه ما تكون بالمواسم الفلكلورية، التي يحضرها الكثير من محدثي النعمة الذين ظهروا في الفترة ذاتها التي شهدت هذا الحشد من المعارض الفنية...! وأكثر ما يثير سخريتي وحزني في آن هو مشهد افتتاح معرض ما: المسؤول الذي يضفي على المكان بعض الأبهة ـ لزوم التغطية الإعلامية ـ وتصوير الفنان بجانب المسؤول لكي يتكرم حضرته (المسؤول) بشراء لوحة، قبل أن يخرج مصطحباً معه الأضواء التي رافقته، ثمّ تنهمر على وجنتي الفنان قبلات لزجة من أصدقائه الفنانين والإعلاميين، بينما هو منشغل بمراقبة شخص ما يبدو ثرياً يتأمل اللوحة من أعلى محاولاً الاقتراب منه بحذر. وفي زاوية أخرى هناك سيدة، ولنفترض أنّها ثرية أيضاً، تبحث عن لوحة تناسب الديكور الجديد لشقتها... تحدث أشياء أخرى كهذه في الافتتاح، وأي معرض هو يوم الافتتاح فقط، ثمّ ينكفئ الفنان إلى وحدته في الأيام التالية، يرهف السمع إلى أقدام أي قادم يبدد الصمت ووحشة الصالة...! ويتبين لنا فيما بعد أن الفنان المطالب بتطوير الذائقة الجمالية، ما هو إلا إنسان عادي، له همومه الاقتصادية المعيشية، وفي الأغلب يشكو مثل غيره من الكادحين ضيق الحال، ولديه أطفال بحاجة إلى الطعام والعلاج، وزوجة صارت تخجل من الخروج من البيت بالملابس نفسها التي تجاوزت الموضة بعدة سنين.

إنّ لغة الفنان التشكيلي لغة يصعب على عامة الناس فهمها، فهي تعتمد اللون والخط، من خلالهما يتم بناء اللوحة، واكتمالها، وفق أسس متعارف عليها، وبالتالي فإنّ فهم المتلقي لهذه الأسس يساعده على فهم اللّوحة وإدراك نواحي الجمال فيها وتقييمها، إضافة بالطبع إلى الإحساس الفطري الذي يتمتع به بعض متذوقي الفنون الجميلة، والذي يظهر عندهم بوضوح أكثر من الآخرين. ولتضييق الفجوة بين الفنان والمتلقي علينا الإسهام في رفع مستوى الثقافة البصرية عند العامّة، حيث نلاحظ أنّ الأغلبية تعاني من عدم فهم أبجديات اللوحة الناجحة، ومن صعوبة التوصل إلى طريقة بسيطة للتفاعل معها بتلقائية والإحساس بجمالها، في الوقت الذي لا يعاني فيه الشعر، مثلا، من مثل هذه الصعوبات، حيث إنّ جذور ثقافتنا السمعيّة تمتد إلى تاريخنا القديم، وحل هذه المشكلة ليس سهلاً، ويستغرق زمناً طويلاً حتى يؤتي ثماره، لكن هناك خطوات معينة باتجاه الحل، ولو جزئياً، مثلاً: التشجيع على ارتياد المعارض الفنية حتى تعتاد العين المشاهدة والمقارنة فيصبح لدى المتلقي مخزون يساعده في اختيار الأفضل فنياً، وكذلك الإهتمام بالبرامج التثقيفية في مجال الفنون التشكيلية، ورفع مستواها، ومتابعة النتاج الفني العالمي، وملاحقة تطوره، ودراسته وتحليله. وقد تكون العودة إلى الأصل هي الوسيلة الأجدى، وذلك لبحث جذور المشكلة المتمثلة في نظرة المجتمع إلى الفنون الجميلة على أنّها من كماليات الحياة، وأنا أرى أنّ البداية الصحيحة تتم بتوعية الأطفال والناشئة، وزرع الاهتمام بالفنون الجميلة منذ الطفولة المبكرة في المدرسة والمنزل.