الرجوع إلى التاريخ فضيلة، إنه يستخرج لنا العبر مما اختزنت من صور وأحداث ومعلومات ودروس... ذلك أنّ المطامع الاستعمارية الغربية في ليبيا لم تنته، فقد ظلت ليبيا منذ استقلاها بقرار من الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1951 مسرحاً للتدخل الغربي السلبي، وبقيت عنواناً مهماً في استراتيجيات الدول الغربية نظراً لموقعها القريب من الدول الأوروبية التي لا يفصلها عنها سوى عرض البحر الأبيض المتوسط. وفي هذا السياق لابد من التذكير والتذكر بأنّ جهاز "السي أي إيه" الأمريكي كان هو اللاعب الاستخباراتي الأول بامتياز في تقويض ليبيا والإطاحة بنظام العقيد معمر القذافي. والمقال الآتي يوضح، التطبيق العملي لمخطط أعدته وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية "سي آي إيه" في عام 1981 في عهد الرئيس ريغان (والرامي إلى تنصيب حكومة موالية للولايات المتحدة في ليبيا... وينطوي المخطط على برنامج للتشويه الإعلامي مخصص لإحراج القذافي وحكومته... إضافة إلى إيجاد حكومة مضادة للوقوف في وجه طموحه في الزعامة الوطنية والأفريقية... وشنّ حملة تدريجية شبه عسكرية مهمتها القيام بعمليات عسكرية محدودة. 

في الواقع، بدأ بتنفيذ الشقين الأخيرين من المخطط المشار إليه في 27 شباط 2011 وقد سبقهما التشويه الإعلامي لصورة العقيد القذافي وحكومته، فتمّ تشكيل المجلس الوطني الانتقالي (وهو كيان لم يتم انتخابه من الشعب الليبي)، وقد تم الاعتراف به سلطة شرعية لليبيا، وسرعان ما اعترف المجتمع الدولي وعلى رأسه أمريكا وحلفاؤها بقادة ليبيا الجدد (بعد سقوط القذافي) القادة الذين يعيشون خارج ليبيا، أي أولئك الموجودين في بريطانيا وأمريكا ودول حلف شمال الأطلسي، ومن البديهي أنّ المجلس الوطني الانتقالي في ليبيا آنذاك كان يمثل الحكومة المضادة المشار إليها في خطة "سي آي إيه".

وللتذكير فقط، فالحالة الليبية في عهد المجلس الوطني الانتقالي، قد فاقت الخيال، بعد انضمام أعضاء من القاعدة إلى "الثوار" وحلف شمال الأطلسي الذي ادعى النضال ضد تنظيم القاعدة في أفغانستان، فحلف الناتو قام بحماية الجماعات الإرهابية على اختلاف تسمياتها وجنسياتها... وقد أكد قائد الحلف في أوروبا آنذاك، وجود الإرهابيين في صفوف من أطلق عليهم إسم "الثوار"، فهذا المجلس اللاوطني ركب في دوائر الغرب الاستعماري، دعا إلى التدخل الخارجي، وأذرعه الإرهابية سرقت واغتصبت وقتلت في زمن الإفساد الغربي، كبيرها ممول، وصغيرها مضلل وتنطبق عليه مقولة: لا يبلغ الأعداء من جاهل ما يبلغ الجاهل من نفسه، وما بينهما من ارتضى أن يكون مضللا لهوى في نفسه ومزمعاً على الرضا عما كانت تبثه قنوات الأكاذيب الإعلامية... 

أما وسائل الإعلام المسيطرة على الساحة فقد امتنعت وتحاشت الإشارة إلى هذا الأمر. وهنا لابد من التأكيد أنّ وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية "سي آي إي"، استخدمت وسائل الإعلام ولكن على نحو سري، حيث فبركت قصصاً وأخباراً تناقلتها وكالات الأنباء العالمية وكان "جون ستوكويل" وهو (عميل سابق للسي آي إيه وهو متوفى الآن)، قد اعترف بأنه كتب وألف ريبورتاجات غير صحيحة في ليبيا. كما قدّم الصحفي في "واشنطن بوست" كارل بيرنستين، توضيحاً عن استخدام الوكالة آلية التضليل والكذب والتلفيق والفبركة والتشويه في العمل الصحفي، حيث كانت الوكالة تستغل مهنة الصحافة من خلال إرسال عملائها إلى الخارج وادعائهم العمل في الصحافة ليتسنى لهم التنصت والتجسس، ما يقضي للقول: إنه وأمام أهمية وسائل الإعلام في الترويج للحملات الدعائية وتثبيت المقولات غير الصحيحة، لابد من الجزم بأنّ هذه الآلية ما زالت مستخدمة وإلى حدّ كبير.

فالولايات المتحدة لم ترسم هدفاً يتعلق باستقرار ليبيا أو قيام دولة ذات خصائص معينة، بقدر ما وضعت مجموعة من المحاذير تتعلق أساساً بثلاثة ملفات رئيسة هي : أولاً: ضمان تدفق النفط وفق مسارات السوق الدولية، بما لا يمكّن من تسربه إلى كيانات تصنفها واشنطن "معادية" مثل كوريا الديمقراطية، ثانياً: عدم تحول ليبيا إلى مركز جذب وتسليح وتمويل للتنظيمات التي تضعها واشنطن على قوائم الإرهاب. ثالثاً: مساعدة حلفاء واشنطن الأوروبيين وبخاصة إيطاليا بشأن المخاوف من تدفق المهاجرين.
 
فالتدخل العسكري في ليبيا والذي تمّ التسويق له انطلاقاً من مقولة: الدواعي الإنسانية ومسؤولية الحماية، كان يهدف وفي الدرجة الأولى، إلى تحاشي ظهور الانتقادات، وقد اجتهدت وسائل الإعلام آنذاك، في الترويج للخيار العسكري على أنه الحلّ الأمثل لهذه المهمة الإنسانية، وحفلت الصحف والمجلات والقنوات الفضائية بعناوين ومانشيتات عريضة تمجد هذا التدخل مثل: مسؤولية حماية ليبيا وحماية الليبيين، لذلك وجدنا في كل مقالة صدرت عن الأحداث في ليبيا الحجج نفسها "لابد من إزالة النظام القمعي لإحلال الديمقراطية" في الوقت الذي تناست فيه وسائل الإعلام الغربية الخوض في الأسباب الحقيقية الكامنة وراء هذا التدخل.

وهذا يعني أنّ الخوف على مصالحها المهددة قد دفعها للقيام بهذه الخطوة، كما لجأت وسائل الإعلام التي غلب عليها طابع التناقض إلى إطلاق تسميات بعيدة عن الواقع والحقيقة على المسلحين والإرهابيين... بأنهم "مناضلون سلميون" في حين أنهم قد حصلوا على السلاح والتمويل من أجهزة الاستخبارات الغربية، فحلف الناتو لم يتخذ إجراءات فعالة بشأن الجرائم العديدة من جانب "الثوار" ! وقد سجلتها في حينها منظمات الدفاع عن حقوق الإنسان الدولية غير الحكومية، بما فيها جرائم القتل والعنف والجرائم على أساس إثني، وفي ظل موافقة الحلف الناتوي الصامتة، فقد نكل بممثلي نظام القذافي دون تحقيق أو محاكمة، ويوجد ما يؤكد هذه الجرائم اللاإنسانية، ومن المستحيل اليوم التنصل مما وقع... وقد صدق تقرير الخارجية الروسية الأول، حول   حقوق الإنسان الذي نشر بتاريخ 28 ديسمبر/كانون الأول آنذاك، صدق التقرير حين قال بشكل لا لبس فيه: اغتيال القذافي كان هدف الناتو الرئيسي في ليبيا. فقيادة الناتو حددت مهمتها الرئيسية بتصفية الزعيم الليبي معمر القذافي، فرجال الناتو استهدفوا بصورة رئيسية من حيث الجوهر، لدى تنفيذ فكرة "الأمن الجماعي" الإطاحة بالعقيد وقتله (إذ يستشف من بعض المصادر أنّ أمر تصفية القذافي، وجه إلى الوحدات العسكرية الأمريكية والفرنسية والبريطانية). والسؤال الذي يتبادر للذهن: لماذا قرار القتل بدل المحاكمة الدولية؟ 

الجواب ببساطة، لأنهم كانوا يخشونه متهماً أمام محكمة الجزاء الدولية. فالقذافي يعرف أسراراً، إذا لم تطل الرؤساء مباشرة، فإنها تطاول دولهم، وهو لن يتوانى عن كشف الصفقات التي عقدها مع أمريكا بخصوص لوكربي والتخلي عن السلاح النووي، ولا عن تلك التي أوصلت ساركوزي إلى الرئاسة الفرنسية مقابل تسوية إسقاط الطائرة الفرنسية فوق النيجر في العام 1989 وغير ذلك ثمة صفقات سياسية ومالية كثيرة وضعت فيها بريطانيا قيمها في مساومات مخجلة، ومن الطبيعي أن لا يستثني القذافي إيطاليا وزعيمها برلسكوني من أثمان اعتذاره للشعب الليبي عن فترة الاحتلال الإيطالي لليبيا. لهذا ولأسباب لا يعرفها غير القذافي قرر الغرب أن يدفن أسراره في مجاهل الصحراء الليبية الكبرى...



كاتب صحفي من المغرب