منذ أكثر من شهر و المعارك تدور رحاها في محيط مطار طرابلس الدّولي بين ميليشيات مسلّحة قادمة من مدينة مصراتة الساحليّة شمال البلاد مدعومة من عناصر إسلاميّة من داخل العاصمة نفسها ،و بين كتائب ثوّار الزنتان التي تُسيطر على المطار منذ العام 2011 إثر سُقوط نظام العقيد معمّر القذّافي .

هذه المعارك التي أدّت الى تدمير المطار بشكل شبه كامل جرّاء القصف العشوائي و تشريد عشرات العائلات التي تقيم في محيطه و مئات العائلات الأخرى من وسط طرابلس ،إنتهت ليلة البارحة بإنسحاب ثوّار الزنتان و دخول الميلشيات الإسلاميّة المُسلّحة إلى داخل المطار وسط هدوء حذر اليوم رافق عمليات التمشيط التي تقودها ميليشيات مصراطة في محيط مطار طرابلس الدّولي .

فهذه الميلشيات الذي يجعمها قالب جهوي/إيديولوجي موحّد أطلقت منذ أواخر شهر رمضان عمليّةً عسكريّةً لإفتكاك المطار تحت عنوان "عمليّة فجر ليبيا" تلاحمت فيها تقريبًا كل الكتائب العسكريّة التابعة للفصائل الإسلاميّة بمختلف توجّهاتها فمن "الدّروع" المحسوبة على الإخوان المسلمين وصولاً إلى غرفة عمليات ثوّار ليبيا التي يتزّعمها عضو تنظيم القاعدة شعبان هدية الملقب بـ«أبي عبيدة الزاوي» همّشت هذه الميلشيات كل إختلافاتها و خلافاتها "الفكريّة" و التنظيميّة و تمركزت حول هدف واحد هو السيطرة على كامل العاصمة الليبية طرابلس و طرد ثوّار الزنتان منها المحسوبين على اللواء خليفة حفتر قائد "عمليّة الكرامة" في شرق البلاد .

هذه العمليّة "فجر ليبيا" التي أعقبت حلّ المؤتمر الوطني العام الذي يسيطر عليه الإسلاميون ،و إنطلاق "عمليّة الكرامة" بكل التأييد الشعبي الذي حظيت به في كل مناطق الدّاخل الليبي ،بدا جليًا بأنها عمليّة "ثأريّة" مرتبطة بوقف نزيف الخسائر أولا ومن ثمّ  تعويضها ثانيًا .

فأكبر هذه الخسائر هي سقوط المؤتمر الوطني بما كان يوفّره من غطاء "شرعي" لتمدّد الإسلاميين في مفاصل الدّولة الليبية الوليدة و إستنزاف ثرواتها و تأبيد حالة الفوضى التي تمرّ بها البلاد لما تمثّله من مناخ ملائم للفساد و سلطة الميليشيات و نهب الثّروات و غياب سلطة رادعة قويّة تمارس الرقابة و تفرض سلطة القانون .

الخسارة الثانية و الأكبر و الأكثر فداحة هي إنتخابات البرلمان الليبي الجديد الذي مُنيَ فيه الإسلاميون بهزيمة كبيرة عكست حجم الرّفض الشّعبي لنتائج قرابة العامين من الفشل الذّريع الذي رسمه الإخوان عبر المؤتمر الوطني و الذي رغم إنتهاء مدّته القانونيّة و ما رافقها من إحتجاجات شعبيّة ضدّه ،فقد نجح الإخوان في التّمديد لأعمال المؤتمر الذي تمكّن داخله الإسلاميون من فرض سيطرتهم المطلقة من خلال قانون العزل السياسي الذي فُرض بقوّة السّلاح أوّلا و إستمالة الأعضاء المستقلين ثانيًا حتّى تحوّل الإسلاميون داخل المؤتمر من كتلة صغيرة الى تيّار مسيطر داخله بعد تفتّت كتلة تحالف القوى الوطنيّة المنتصرة في الإنتخابات .

داخل هذا السياق بدأت عمليّة "فجر ليبيا" في العاصمة طرابلس،و إستهدفت مباشرة المطار الدّولي الذي يقع تحت سيطرة كتائب ثوّار الزّنتان (القعقاع و الصّواعق و المدني) لما له من أهميّة إستراتيجيّة أوّلا و ما له من رمزيّة ثانيًا بإعتباره أهم موقع تسيطر عليه الزّنتان داخل العاصمة طرابلس و لأنّ إفتكاكه أو تدميره يعني إضافة أخرى لمواقع الإسلاميين في العاصمة الذين يسيطرون على المطار الثاني في امدينة ،أي مطار معيتيقة ،فتدمير مطار طرابلس الدّولي سيحوّل حركة الملاحة الجويّة كلّها الى مطاري مصراتة و معيتيقة لتكون بالتالي أهم المنافذ الجويّة غربي البلاد تحت سيطرة الإسلاميين .

كما بان جليًّا بأنّ الهدف السياسي كذلك لهذه العمليّة هو إلغاء البرلمان المنتخب الجديد و إعادة نشاط المؤتمر الوطني المنحل حيث حدد غداً الاثنين موعداً لاستئناف الجلسات بمقر المؤتمر بالعاصمة و قد تمّ توجيه الدعوة لجميع الأعضاء وقال عمر حميدان الناطق الرّسمي بإسم المؤتمر المنتهية صلاحيته لـ"وكالة أنباء التضامن" إن  المؤتمر الوطني العام سيعقد جلسته في حال اكتمال النصاب القانوني والتي سيناقش خلالها الوضع الأمني والسياسي الراهن في البلاد .

ليتوضّح المشهد بالتالي تماما ،و تخرج الصّورة كاملة على أنّ المعركة في ليبيا هي بين خندقين متقابلين متنافرين :الإسلاميون المحتكمون لشرعيّة منتهية الصلاحيّة مدعومة بعنف السلاح ،مقابل ما يمكن إعتباره جسمًا مدنيًا إحتكم الى صناديق الإقتراع و مرتكز على شرعيّة إنتخابيّة قويّة متمثّلة في البرلمان الجديد مدفوعًا بمشروع بناء دولة تؤسس لنواة جيش قوي و دولة مدنيّة و لعبة سياسيّة قوامها سلطة الشّعب و إرادته لا سلطة السّلاح و صواريخ الجراد و الحرائق المندلعة في خزّانات الوقود.

فجر ليبيا : الكتائب المتحالفة و خارطة المعارك

إنطقلت عمليّة "فجر ليبيا" يوم الأحد ال13 من شهر يوليو/تموز الماضي و قد بدأت العمليّة بمهاجمة مطار طرابلس الدّولي عبر محورين رئيسيين  :

-المحور الشّرقي :و تقدّم منه عضو المؤتمر الوطني صلاح بادي في إطار عمليته التي أطلق عليها إسم "قسورة" على رأس كتائب من "درع الوسطى" التي يعتبرها الكثيرون الذّراع العسكريّة/الحربية لتنظيم الإخوان المسلمين .

-المحور الشّمالي : وتقدم منه عبد الغني الككلي المشهور بـ"غنيوة" و هو رئيس اللجنة الأمنية العليا فرع أبو السليم بالعاصمة طرابلس و متورّط في الكثير من أعمال التعذيب و الخطف و الإعتقال .

بدأ  الهجوم على المطار  مباغتًا في حدود الساعة السادسة صباحًا، وانتهى في حدود الساعة العاشرة من صباح نفس اليوم الأحد ،رغم أن كتيبة أمن المطار لم تكن على الإستعداد الكافي و لا بالحجم الذي يمكنها من صدّ الهجوم حيث لم يتجاوز عدد أفرادها الخمسين مقاتلاً مقابل أكثر من 300 شخص كانوا في صفوف المهاجمين، و لكنّهم تمكّنوا من دحر القوات المتقدّمة وطردها إلى مسافة أكثر من 10 كيلومترات وتكبيدها خسائر فادحة ، حيث وصل عدد القتلى في صفوفهم إلى نحو 25 شخصًا من بينهم آمر إحدى الكتائب المهاجمة و هو سليمان شتوان القيادي في كتيبة القبرا مصراتة.

أمام عملية دحرها لجأت هذه الميليشيات إلى استعمال القصف بالجراد والهاون لتأمين انسحابها ومنع كتيبة حماية المطار من مطاردتهم. وقد تسبَّب القصف العشوائي الذي وقع في أضرار جسيمة بالعديد من وحدات المطار و حتّى الطائرات الرابضة في المدرج .

ومع ازدياد الخسائر في صفوفها ، طلبت الميلشيات المزيد من الدّعم العسكري فتحرّكت قوات تابعة لما يعرف بغرفة "عمليات ثوار ليبيا" التي يقودها عضو تنظيم القاعدة شعبان هدية الملقب بـ«أبي عبيدة الزاوي» وبإسناد من "القوة الوطنية المتحركة" و "كتيبة فرسان جنزور" و "درع الغربية" ، بقوة إجمالية تقدر بنحو من 800 إلى 900 فرد وعدد أكثر من 100 آلية عسكرية متنوعة، للهجوم على معسكر اللواء الأول مشاة أو ما يُعرف بلواء القعقاع التابع لثوار الزنتان .

و رغم عنصر المباغتة و إختلاف موازين القوى فقد دامت  المعركة أكثر من خمس ساعات تمكَّنت خلالها قوات اللواء الأول (القعقاع) من دحر الميلشيات و مطاردتها بعيدًا نظرًا للقوّة القنالية و الحرفيّة العسكريّة التي تتمتّع بها كتائب القعقاع .

على هذا الإيقاع تواصلت المعارك طيلة 47 يومًا من القصف العشوائي والصمود كبير لكتائب الزّنتان و القبائل المتحالفة معها رغم قلّة العتاد الحربي في مواجهة عنف الهجمة و تواصلها خاصة مع ضعف الإمتدادات مقابل السلاح المتدفّق على ميليشيات مصراطة و حلفائهم من الإسلاميين حيث تتمتّع المدينة بميناء بحري يمكن أن يدخل منه السّلاح و الدّعم المالي و حتّى البشري حتّى تمكنت الميليشيات المدعومة بالقصف الصاروخي و قوّة العتاد الحربي من دخول المطار ،بعد إنسحاب ثوّار الزنتان منه حيث أكد أحد عناصر لواء المدني طارق الغناي أن تعليمات كانت قد صدرت لهم بالانسحاب .

و جاءت السيطرة على مطار طرابلس الدّولي بعد السيطرة على معسكر النقلية الإستراتيجي والقريب من مطار العاصمة حيث كانت تتمركز فيه غرفة عمليات الصواعق والقعقاع وحلفائها من بقية القبائل الليبية .

على سبيل الخاتمة

و وسط كلّ هذا يبقى الخراب الذي لحق بالمطار شاهدًا على بربريّة الهجمة و عنفها و تصميمها على تحقيق أهدافها مهما كانت النتائج ،فالإسلاميون كانوا يعرفون أنّهم يخوضون معركة "وجوديّة" في ظل هزيمتهم السياسيّة و الشّعبيّة السّاحقة في إنتخابات البرلمان فلم يبقى لهم غير تعديل الكفّة بلغة الرّصاص و مهما كان حجم الخسائر أو عدد الضحايا .

عمليّة "فجر ليبيا" التي تحالفت فيها عديد التشكيلات الحربيّة التي يجمعها نزوعها "الإسلامي" (السياسي و الحركي و الجهادي) تواجه تهمة خدمة المشروع القطري/التركي في ليبيا حيث وصف نعمان بن عثمان الباحث والمختص في الجماعات الإسلاميّة ورئيس منظمة كوليم للأبحاث بلندن عمليّة "فجر ليبيا" بأنّها من فعل " ميليشيات مصراطة و الإخوان المسلمين بدعم قطري تُركي في طرابلس" و تهدف على حدّ قوله "لتدمير العاصمة و الإستيلاء على السّلطة".

تهمة لا تبدو مجانبة للصواب بل تبدو على أرض الواقع حقيقة ماثلة من خلال الدّعم الإعلامي الكبير الذي تُقدّمه –مثلاً- قناة الجزيرة القطريّة من إنحياز واضح لعمليّة "فجر ليبيا" و قياداتها و ميلشياتها مع ما هو معروفٌ عن الدعم الكبير الذي تسبغه قطر و تركيا على تنظيم الإخوان و مراهنتمها على الإسلاميين في الدّول العربيّة داخل سياق "الربيع العربي" الذي حوّل هذه الدّول الى ساحة صراع بين ما تبقّى من دولٍ هشّة و هذه الجماعات المتطّرفة و الحاملة لمشروع إيديولوجي يُقدّم –بلا أي تردّد و دومًا- مصلحة الجماعة على مصلحة الوطن .

و لعلّ آخر مؤشّر يدلّ على الطبيعة الإيديولوجيّة/الفئويّة (لا الوطنيّة) لهذه العمليّة التي إستهدفت بالتخريب أحد أهم المنشاءات الحيويّة للدّولة الليبية هو قائمة الميليشيات المنضوية تحتها فعندما ترى صلاح بادي الذي أصدر فيه المؤتمر الوطني العام قرارا بعيينه مديرا للاستخبارات العسكرية، بعد أن تمت ترقيته الي رتبة عقيد و عندما ترى أمراء الكتائب التابعة لدرع الوسطى ودرع الغربية والقوة الوطنية المتحرّكة والقوة الرابعة وفرسان جنزور و عندما ترى "غرفة عمليات ثوار ليبيا" التي يقودها عضو تنظيم القاعدة شعبان هدية الملقب بـ«أبي عبيدة الزاوي»، والذي اعتقلته السلطات المصرية في يناير الماضي ما أثار مشكلة دبلوماسية بين البلدين ،فلا يمكن أن تتخيّل أن المشروع المُراد من وراء العمليّة هو مشروع ليبي/وطني/تجميعي/ثوري بل هُو مشروع جهوي/إيديولوجي/فئوي لا يخدم إلا مجموعة صغيرة ذات نزعة "فكريّة" متطرّفة .