كان حضور أفارقة جنوب الصحراء لافتا في هذه القمة، وكان الغياب المغاربي عنها لافتا أيضا، لذلك جاء سؤالي (نهاية المقال) في صيغة "هل غاب المغاربيون؟" بدل: لماذا غاب المغاربيون؟ وفي انتظار قطع الشك باليقين في مسألة حضورهم، فإن القمة التأمت، على أي حال، بحضور ثلاثة آلاف من شباب وشابات أفريقيا وقد أعددنا حول هذا الحدث ملفا في حدود المعطيات المتوفرة.

وقد جاءت هذه القمة في سياق عرف توترا بين فرنسا وبعض الدول الأفريقية من ضمنها الجزائر حيث أوشك الطرفان على قطع شعرة معاوية التي ظلت تربطهما. كما أن القمة الفرنكوفونية التي كان من المزمع تنظيمها في تونس تم تأجيلها فضلا عن القرار الفرنسي حول منح التأشيرة لمواطني البلدان الثلاثة: الجزائر، المغرب وتونس.

ورغم أجواء التوتر بين باريس والجزائر، قام الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون هذا السبت بإدانة "جرائم لا مبرر لها بالنسبة إلى الجمهورية" وذلك خلال مشاركته في مراسم إحياء الذكرى الستين لقتل متظاهرين جزائريين في 17أكتوبر 1961. وهي المرة الأولى التي يتوجه فيها رئيس فرنسي إلى مكان المجزرة التي يقدر المؤرخون عدد ضحاياها بما لا يقل عن العشرات، في حين اكتفت الحصيلة الرسمية بالإشارة إلى ثلاثة قتلى.

ومن المؤكد أن مستقبل العلاقة الفرنسية الأفريقية، ولاسيما الفرنسية الجزائرية لن يتحدد إلا عبر تصفية ملف "الماضي" الذي رفض أن يمضي، وبقي يلقي بكلكله على ذاكرة البلدين.وما حدث مؤخرا بين فرنسا وبعض البلدان الأفريقية ولاسيما الجزائر ومالي يؤشر على تحول أكيد في مستقبل العلاقة، إما في الاتجاه الإيجابي أو نحو القطيعة.

أشيل مبيمبي مهندس القمة

حسب المعطيات البيوغرافية المتوفرة، أشيل مبيمبي المفكر الكاميروني هو أحد أبرز المثقفين الفرانكفونيين في أفريقيا، وأحد منظري ما يسمى بمرحلة "ما بعد الاستعمار" الفرنسي بالقارة. وهو الذي أشرف على تنظيم القمة الفرنسية-الأفريقية 28 بمونبلييه دون حضور رؤساء الدول الأفريقية. فمن هو أشيل مبيمبي؟

وترتبط الطبعة 28 من القمة الفرنسية-الأفريقية ،التي استضافتها الجمعة 8 أكتوبر مدينة مونبلييه، ارتباطا وثيقا بالمفكر الكاميروني أشيل مبيمبي، الذي قدم تقريرا للرئيس إيمانويل ماكرون لأجل "إعادة التأسيس للعلاقات بين فرنسا والقارة" السمراء، كما أنه تشرف باختيار 12 شابا سيتناقشون مع ماكرون.

ووفقغريغوار سوفاج(Grégoire SAUVAGE)، فقد جال هذا المثقف الكاميروني القارة على امتداد سبعة أشهر زار خلالها 12 بلدا، وأشرف على تنظيم ستين جلسة نقاش وحوار مع الفاعلين في المجتمع المدني تحضيرا للقمة الفرنسية-الأفريقية. وقال مبيمبي في مقابلة مع إذاعة فرنسا الدولية (إر إف إي) إن هذه الخطوة كانت "من دون أدنى شك ضرورية لأجل الخوض في أهمية ومحتوى القمة، وهذا يعود بالفائدة لأفريقيا".

هذا المثقف، الذي تجاوز عقده السادس، والذي بنى مسيرة جامعية بارزة بين جنوب أفريقيا وأمريكا امتدت لثلاثين عاما، معروف بتحليله ومواقفه الحيوية والقوية بشأن التاريخ الكولونيالي. وهو صاحب مؤلفات نالت الشهرة عالميا بينها "الوحشية" و"نقد العقل الزنجي". لكن هذا لم يمنع الرئيس الفرنسي من دعوته، "بشكل ذكي ولأسباب إستراتيجية" كما يقول الصحافي أسان ديوب لفرانس24، إلى التقرب من الأفارقة "لتحديد توجيهات جديدة تقوم عليها العلاقات المستقبلية بين فرنسا وأفريقيا".

ويتمتع أشيل مبيمبي، حامل الجنسيتين الكاميرونية والفرنسية، بشخصية قوية وكاريزما استثنائية. وهو أحد أبرز المؤسسين لدراسات ما بعد الاستعمار، فضلا عن نقده الشديد للنيو ليبراليا ساعيا في الوقت ذاته إلى تفكيك آليات السيطرة في العالم المعاصر.

واعتبر دكتور الفلسفة والباحث في العلاقات الدولية أمادو ساجو باري، وهو كندي من أصل غيني، أن "خيار أشيل مبيمبي لهذه القمة خيار صائب إذ إنه أكبر مفكر أفريقي معاصر. وقال الباحث لفراس24 إن مبيبي "يعرف أفريقيا جيدا وهو دائما يسعى لصياغة مستقبل القارة في العالم".

قضى أشيل مبيمبي طفولته في مزرعة والده ضمن عائلة مسيحية قومية. وظلت بعض المشاهد المروعة من عنف الاستعمار مرسخة في ذهنه، لاسيما خلال حرب التحرير الكاميرونية بين 1955 و1962 حيث قتل عمه إلى جانب الزعيم الثوري الوطني روبين أم نيوبي الذي تم سحل جثته عبر القرى بهدف ترهيب السكان.

ومن تلك الفترة الصعبة اشتدت رغبته في التخصص في مادة التاريخ، فانتقل إلى باريس لمواصلة دراسته الجامعية. وفيما تغاضت الرواية التاريخية الرسمية في الكاميرون عن شخصية روبين أم نيوبي، ظل مبيبي ساعيا إلى إحياء ذاكرة الزعيم الثوري. لكن سلطات بلاده رفضت أفاكره وطاردته إلى أن قررت نفيه مدة عشر سنوات لا لشيء سوى أنه نشر في كتابه الأول مشتقات من نصوص كتبها روبين أم نيوبي. وانعكس هذا القرار على حياته الشخصية إذ إن السلطات منعته من حضور جنازة والده، ما دفعه لعدم السفر نهائيا إلى الكاميرون.

وبعد دراسته، اختص أشيل مبيمبي في التعليم بالولايات المتحدة قبل أن ينضم لجامعة داكار حيث أصبح رئيسا لمجلس التنمية والبحث في العلوم الاجتماعية بأفريقيا. وهو اليوم مدير معهد البحوث في العلوم الاقتصادية والاجتماعية بجامعة ويتواترسراند في جوهانسبرغ (جنوب أفريقيا).

وبتلبيته دعوة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لتنظيم القمة الفرنسية-الأفريقية 28، فتح المفكر الكاميروني صفحة جديدة في حياته. وهذا ما أثار بعض التساؤلات والاستياء لدى مثقفين أفارقة آخرين، علما أن مبيبي كان قد تهجم في السابق على ماكرون قائلا إنه "يفتقد لأي رؤية تاريخية". ونشر الكاتب الكاميروني غاستون كيلمان في مجلة "جون أفريك" المتخصصة في شؤون القارة السمراء مقالا شديد اللهجة ضد مواطنه، متهما إياه بأنه "يتقن علم السيد". من جانبه، وصف السنغالي بوبكر برويس ديوب نشاط مبيمبي في القمة بأنها "مزحة سخيفة"، متحدثا عن قمة "صادمة" تثير "الشفقة".

ويرى جزء كبير من الرأي العمومي الأفريقي في خيار أشيل مبيني "مناورة" من قصر الإليزيه لأجل تلميع صورة فرنسا في القارة، وأنه بمثابة "غنيمة حرب" بالنسبة إلى الرئيس ماكرون. ويفسر الدكتور في علم التاريخ المعاصر وأستاذ الأدب بفيلادلفيا جان كلود جيريك هذه "المناورة" بالقول إن "الطبقة السياسية الفرنسية تعلم أن رؤساء الدول الأفريقيين يفتقدون للمصداقية، وبالتالي تلجأ إلى تمرير رسالاتها إلى الشباب الأفريقي من خلال المثقفين". وأضاف جيريك في حديثه لفرانس24: "إنه خطأ لأن الكثير من الناس استاؤوا من أشيل مبيمبي".

وبعد مرور أربع سنوات على خطاب إيمانويل ماكرون في واغادوغو والذي كان يأمل من خلاله برسم قواعد جديدة للعلاقات بين فرنسا وأفريقيا، يشير جان كلود جيريك إلى أن "مشاكل الشباب الأفريقي غير مطروحة، وأبرزها القواعد العسكرية الفرنسية والفرنك والتدخل الصارخ لباريس في الشؤون الداخلية الأفريقية".

من جانبه، يرى أمادو ساجو باري بأنه من غير المنصف الاعتقاد بأن إيمانويل ماكرون لم يساهم ولو بشكل رمزي في إعادة تحديد العلاقات الفرنسية-الأفريقية، مذكرا بالسياق العالمي والإقليمي الذي شهد حضور لاعبين اثنين إلى الساحة القارية وهما الصين وروسيا. وتابع متسائلا: "لكن، هل سيؤدي هذا البعد الرمزي إلى تغير جذري في السياسة الخارجية الفرنسية؟"

أما أشيل مبيمبي، فقد استبعد أي تلاعبات ومساومات، متعهدا بنقاش من دون تابوهات. وقال في تصريح لوكالة الأنباء الفرنسية: "إذا نجحنا (بمدينة) مونبلييه في تجاوز الحديث عن تبادل الاتهامات أو النكران فنكون قد عبدنا الطريق أمام ثورة ثقافية صغيرة".

قمة أفريقيا.. فرنسا: هذا ما قاله الشباب الأفارقة لماكرون

انعقدت مؤخرا (8 أكتوبر 2021)  في مونبيليه هذه القمة في صيغة جديدة وبحضور جهات فاعلة جديدة وقد تتناولت موضوعات وقضايا جديدة بغية إلقاء نظرة جديدة على العلاقة بين أفريقيا وفرنسا.قمة هي الأولى من نوعها التي تستثني الزعماء الأفارقة وتركز على الشباب والمجتمع المدني.

آلاف الشباب من بلدان القارة الأفريقية شاركوا في القمة التي اهتمت بالعديد من القطاعات كالتعليم والاقتصاد والثقافة والصحة، وحسب الحكومة الفرنسية فإن القمة تهدف إلى "إلقاء نظرة جديدة على العلاقة بين أفريقيا وفرنسا سعيًا إلى مساعدة الأجيال الجديدة في توفير إطار مبتكر للتفكّر وللعمل".

بالموازاة، فقد أثارت هذه القمة الكثير من الجدل، وتعرضت إلى الانتقاد سواء في فرنسا أو في البلدان الأفريقية، حيث انعقدت في مونبيلييه، تزامناً مع القمة الرسمية، قمة أخرى مضادة شاركت فيها مجموعة من الجمعيات الفرنسية المعارضة لتوجهات الحدث الرسمي، ونادت بعدد من المطالب منها: إنهاء الوجود العسكري الفرنسي في إفريقيا، وإنهاء الهيمنة الاقتصادية، والتوقف عن دعم الديكتاتوريين والرؤساء الذين بقوا في السلطة بطريقة غير ديمقراطية، وإنهاء التدخل الفرنسي في الشؤون الداخلية للدول الأفريقية.

هذاالحدث جمع حوالي 3000 شخص من المجتمع المدني.وانصب التركيز على الشباب، بحضور الرئيس إيمانويل ماكرون، وكان اللقاء فرصة لرئيس الدولة للتفاعل مع أعضاء الشباب الأفريقي.وانعقدت هذه القمة في ظل النزاع على منطقة نفوذ فرنسا خاصة من جانب روسيا، فضلًا عن الأزمة التي تمر بها باريس في علاقتها مع مالي والجزائر.

ولأول مرة منذ عام 1973 تسمح هذه الصيغة الجديدة، بحسب الرئاسة الفرنسية، بـ"الإصغاء إلى الشباب الأفريقي والخروج من الصيغ والشبكات القديمة والخروج من سياسة فرنسا القديمة حيال أفريقيا، وممارستها الغامضة وشبكات تأثيرها".

تم اختيار هذه اللجنة في نهاية الحوارات التي أجريت لأشهر في جميع أنحاء القارة من قبل المفكر الكاميروني أشيل مبمبي، المسؤول عن التحضير للقمة.

وقال مبيمبي، في تقريرٍ قدمه الثلاثاء إلى ماكرون: إن "فرنسا منفصلة جدًا عن واقع الحركات الجديدة والتجارب السياسية والثقافية التي يقوم بها الشباب الأفريقي، مشيرًا إلى أنه من بين كل الخلافات ليس هناك ضرر أكبر من دعم فرنسا المفترض للاستبداد في القارة".

والتزمت فرنسا بتقديم دعم مالي غير مسبوق للقارة الأفريقية.سيتم تحرير صندوق بقيمة 30 مليون يورو لدعم المجتمع المدني الأفريقي في تحركاته لصالح الديمقراطيا.وسيتم استخدام هذا الصندوق لتعزيز المبادرات المبتكرة من حيث الوصول إلى العدالة، ومكافحة الفساد، وشفافية المؤسسات، والعمل ضد العنف ضد النساء والشباب.

وأكدت بعض التقارير الإعلامية أن فرنسا وفت بوعدها بإجراء نقاش مع ممثلي الشباب الأفريقي، بلا قيود، عرفت فيه جميع الموضوعات نقاشا صريحا، وكان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في مرمى الانتقادات المتعلقة بالاستعمار و"الغطرسة" و"العنصرية" أو حتى "الأبوة" وفقا لما جاء في عدد من المنابر الإعلامية.

الكاتبة بصحيفة لوبوان (Le Point) فيفيان فورسون أكدت في تقريرها أن هؤلاء الشباب الـ 11 والذين من بينهم ماليون وبوركينابيون وكينيون لم يجاملوا ماكرون. الناشطة المالية ديكو، مثلا،  تخاطب ماكرون بأن الأفارقة، وليس فرنسا، هم من قرروا مقاطعة قمة مونبلييه الحالية، وقد رافعت أن "أفريقيا ليست قارة بؤس أو بطالة، بل شابة ومتفائلة ومتحمسة". أما المدون السنغالي الشيخ فال فقد حث فرنسا على "الاعتذار للقارة عن جرائم الاستعمار" مطالبا إياها بالتوقف عن التعاون مع الرؤساء الدكتاتوريين بأفريقيا، وبالانسحاب التدريجي والنهائي من قواعدها العسكرية بأفريقيا.أما الكينية أديل أونيانغو التي دعت ماكرون بصراحة إلى الالتزام بـ "وضع حد لسياسة فرنسا الأفريقية" وممارساتها الغامضة، في إشارة إلى خلية أفريقيا بالخارجية الفرنسية، مشيرة إلى تناقضات باريس "المتعجرفة، المتخبطة في وحل العنصرية" والتي تخول لنفسها "إعطاء دروس في الديمقراطية للأفارقة". وقد قوبلت تصريحاتها بتصفيق حار.

وتساءلت أونيانغو "ما الذي يتوقع من علاقة تقوم على الألم والشك وانعدام الثقة؟" قبل أن تختم بقولها لماكرون "نحن نبحث عن حل، على عكس رؤساء الدول الذين تلتقيهم عادة".

أما رائدة الأعمال البوركينابية فقد تميزت مداخلتها بالبلاغة والصراحة. ولا يبدو، حسب االكاتبة، أن الرئيس كان مستعدا لكلامها الذي قالته بدون رتوش، فقد تساءلت بداية عن فكرة المساعدات الإنمائية رافضة هذا النوع من المساعدة بمظهرها الاستعبادي، داعية الرئيس إلى إعادة بناء العلاقة الفرنسية الأفريقية على أساس التعاون.وقد حاول ماكرون الدفاع عن سياسات فرنسا في أفريقيا، مؤكدا أن وجودها العسكري هناك بطلب من البلدان الأفريقية نفسها، وأن مساعداتها التنموية لم تعد توجه في الغالب للحكومات وإنما للمجتمع المدني.

هل غاب المغاربيون عن القمة؟

في اتصالها ببعض المغاربيين الذين يقيمون بفرنسا، من الوسط الإعلامي والثقافي، اكتشفت صحيفة الأسبوع المغاربي لامبالاة المغاربيين بهذه القمة وغيابهم عنها، ولم يذكر الإعلام أي اسم مغاربي ضمن المتدخلين في هذه القمة، وما يثير الاستغراب أيضا أن كل من اتصلت بهم الأسبوع المغاربي اعترفوا أنهم يجهلون ما دار في القمة، بل قال أحد المثقفين ذائعي الصيت أنه لم يعد يهتم بمثل هذه الملتقيات ولا يعيرها أدنى انتباه.

لم يكشف الإعلام، في حدود اضطلاعي، حجم الحضور المغاربي، وأن كل المتدخلين والمتدخلات من أفريقيا جنوب الصحراء، مع العلم أن المغاربيين يمثلون أكبر جالية بفرنسا.

ما هو مؤكد أن هناك تحولا عميقا تعيشه فرنسا مع مستعمراتها السابقة، ويعيشه الأفارقة داخل بلدانهم وفي علاقتهم بفرنسا، وهو تحول ينسحب على المغاربيين سواء أولئك المقيمين بفرنسا وحاجتهم الملحة إلى ثقافة اندماجية إزاء نزعات الانعزال الهوياتي، أو بلدانهم التي ظلت في علاقة عقيمة مع فرنسا.