يبدو أن حالة الوفاق التي طرأت بين مجلسي النواب والدولة، كانت مجرد نزوة عابرة اقتضتها المصلحة المؤقتة.. فها قد عادت العلاقة بينهما إلى طبيعتها الغارقة في الخلافات المتلاحقة والتي لم تكن في يوم من الأيام بحاجة لسبب حقيقي لتغذية تلك الخلافات، ولكنها اليوم قد وجدت في إصدار مجلس النواب قانونا لإنشاء محكمة دستورية على أنقاض الدائرة الدستورية التي كان قرار إعادة فتحها من جديد يمثل خطر داهم على مصير كل الأجسام السياسية التي تأكد للجميع انتهاء آجالها القانونية واقتصار أدوارها على تدوير الأزمة وتعميقها بدل مواجهتها وحلها.

الخلاف الجديد القديم بين المجلسين .. تجدد يوم الثلاثاء الماضي عندما أقر مجلس النواب، قانونا لإنشاء محكمة دستورية باقتراح من رئيسه، اختار مدينة بنغازي مقرا لها،  بدلا عن الدائرة الدستورية بالمحكمة العليا التي قام البرلمان نفسه قبل أيام، بإنهاء وجودها من الأساس بإعادة هيكلة السلطة القضائية بما فيها المحكمة العليا والمجلس الأعلى للقضاء، وهو ما أثار حفيظة المجلس الأعلى للدولة الذي كان رئيسه خالد المشري على وعدٍ بلقاء مع عقيلة صالح رئيس مجلس النواب في إحدى المدن الليبية بعد إفشال لقائهما بالزنتان قبل أيام.

وعقب الإعلان عن إنشاء المحكمة أعلن المجلس الأعلى للدولة في بيان له رفض قانون المحكمة الدستورية، مطالبا باحترام مبدأ الفصل بين السلطات واستقلالية القضاء، معتبرا خطوة البرلمان تمثل مساسا بدستورية السلطة القضائية التي طالبها بالامتناع عن تطبيق قانون المحكمة الدستورية.

وعزز خالد المشري بيان المجلس بإعلان تعليق التواصل مع عقيلة صالح وأعمال اللجان المشتركة بين المجلسين إلى حين إلغاء قانون إنشاء المحكمة الدستورية، وقال في تغريدة على حسابه الشخصي بموقع التواصل الاجتماعي تويتر "نرفض إصدار مجلس النواب قانون استحداث محكمة دستورية... مضيفا هذا الإجراء يحتاج إلى دستور أو قاعدة دستورية حتى يتم إقراره وليس إلى قانون".

وردا على ردات الفعل المختلفة، أصدر رئيس البرلمان عقيلة صالح، بيانا أكد فيه أن قانون إنشاء المحكمة الدستورية هو للتأكيد على حماية الحريات والحقوق وإضافة قضاء متخصص في الشأن الدستوري، مشددا على أن إنشاء محكمة دستورية يحقق العدالة ولا تأثير له على المسار الدستوري، بالإضافة إلى أن هذا يحمي الحقوق والحريات، مستغربا عدم فهم المقصود والهجوم ضد قانون إنشاء محكمة الدستورية.

تدخل في السلطة القضائية ومساس باستقلالها

وبعيدا عن الخلافات بين المجلسين ومناكفاتهما التي دائما ما تندلع بسبب أو بدونه، فقد أثار إجراء مجلس النواب "المنفرد" جدلا واسعا في مختلف الأوساط المسؤولة والمهتمة بالشأن الليبي، ورصدت بوابة افريقيا في هذا السياق جزء من ردود الفعل والتعليقات على إصدار قانون المحمة الدستورية، حيث خص المحلل السياسي إبراهيم بلقاسم، البوابة بتصريح أكد فيه أن الاتفاق السياسي حدد العلاقة بين الأجسام السياسية، وأقر ضرورة التوافق بين مجلسي النواب والدولة في الملفات الأساسية مثل الدستور، والانتخابات والحكومة، وقانون من هذا النوع يدخل في إطار القوانين التي يستوجب إصدارها توافق مجلس النواب مع مجلس الدولة، ولكن مجلس النواب خالف مبدأ وجوهر وفكرة الاتفاق السياسي ومقاصده، وهذا يعني بالضرورة أن البرلمان انفرد بالقرار بشكل غير مشروع، إضافة لمخالفته للائحة الداخلية المنظمة للمجلس نفسه.

ولأن القانون جاء عقب إعادة فتح الدائرة الدستورية قد يعتبره خصوم أو المختلفين مع البرلمان بأنه جاء كردة فعل لأنه يتعارض مع السماح بفتح الدائرة الدستورية، وبالتالي النظر في الطعون الدستورية في كثير من القوانين من بينها القانونيين رقمي 1، 2 لسنة 2021 بشأن الانتخابات البرلمانية والرئاسية، والتعديل الدستوري 12، غيرها من القوانين المشكوك في دستوريتها، ولكن في حال تأسيس المحكمة الدستورية فأنها ستكون موالية للبرلمان ولن يتم قبول طعون ضد قراراته وقوانينه.

وأضاف بلقاسم، أن هذه المرحلة حساسة جدا، وفي غياب وجود دستور فأن ما يقوم به مجلس النواب يعد تدخلا في السلطة القضائية ومساس باستقلالها، وهذه ليست المرة الأولى التي يتجاوز فيها البرلمان اختصاصات السلطة القضائية فقد سبق أن أجرى البرلمان تعديل لائحة المجلس الأعلى للقضاء، وهذه مسألة خطيرة جدا، وكذلك فصل المجلس الأعلى للقضاء عن المحكمة العليا، والآن إنشاء محكمة دستورية دون وجود دستور دائم للبلد.

وبين المحلل السياسي القريب من مجلس الدولة، أن عدد كبير من أعضاء المجلس الاستشاري، يعتبرون ما قام به مجلس النواب اليوم لا يدعم الثقة المطلوية لاستمرار التواصل بين الطرفين، وما يقوم به من تحصين لقوانينه من الطعن الدستوري، وهو ما يلغي كل نقاط التفاوض بين الطرفين.

واشترط رئيس مجلس الدولة تراجع مجلس النواب عن هذا القانون حتى يعود مجلس الدولة للحوار معه من جديد، لاستكمال اللقاءات المباشرة بين عقيلة صالح وخالد المشري وهذا ما يعني الوصول إلى حالة انسداد سياسي حقيقية، قد تصعد الوضع بحيث يكون الخروج منها بعملية سياسية عبر منتدى حوار سياسي جديد.

مزيدا من التشظي والانقسام

أما عضو الهيئة التأسيسية لصياغة الدستور نادية عمران، فقد عبرت عن رفضها لقرار مجلس النواب بشأن إصدار قانون المحكمة الدستورية، مشيرة في تصريحات صحفية إلى أن مجلس النواب بهذا القانون يريد أن يضمن عدم الاعتراض المطلق على ما يقوم به من "عبث تشريعي" على حد وصفها، مضيفة أن إنشاء المحكمة الدستورية ونقل مقرها إلى مدينة بنغازي الهدف منه السيطرة الكاملة على مؤسسة القضاء وإزاحة الدائرة الدستورية بالمحكمة العليا من المشهد حتى يتم التلاعب بالسلطة القضائية ووضع استقلاليتها وحيادها على المحك

ونوهت عمران، إلى أن هذا القانون يمثل زجا بالسلطة القضائية في المماحكات السياسية وتقسيمها، وهو مسعى من البرلمان يضمن أن يكون القانون ضربة استباقية لأحكام الدائرة الدستورية في الطعون المرفوعة بشأن التعديلات الدستورية والقوانين الصادرة عنه.

وأضافت عضو هيئة صياغة الدستور، أن قانون المحكمة الدستورية يمهد لعدم اعتراف النواب بالأحكام الصادرة عن الدائرة الدستورية عبر إصدار قانون لإنشاء المحكمة الدستورية وتغيير مقرها دون وجود تنظيم دستوري وبهذه الخطوة تجعل مجلس النواب خصما وحكما في آن واحد كونه قصر أحقية الطعن أمام المحكمة بعدم دستورية ما تصدره السلطة التشريعية، على 10 أعضاء من المجلس أو رئيسه نفسه، وهذا الإجراء يمثل انحدارًا شديدًا في مخالفة المعايير القانونية والدولية وضمانات حقوق الإنسان وسيدفع بالمشهد الليبي نحو المزيد من التشظي والانقسام.

أما عبدالرحمن السويحلي، الرئيس السابق لمجلس الدولة، فلم يكتفي برفض القانون، بل هاجم عقيلة صالح  وخالد المشري، حيث قال في تدوينة نشرها على حسابه الرسمي بموقع التواصل الاجتماعي فيسبوك: "هذا هو مفتاح القوي الذي نصّبه عقيلة بالتزوير رئيسا لمجلس القضاء واعترف به المشري؛ يرد الجميل ويبارك له إنشاء محكمة دستورية رغم عدم شرعية ذلك. سيستمر عقيلة وزمرته فى تقويض أي محاولة لإنجاز الانتخابات مادام هناك في طرابلس من يتماهى ويتواطأ معه لاقتسام السلطة، والمشري خير مثال على ذلك!".

ومهما تكن مبررات البرلمان لضرورة إنشاء المحكمة الدستورية، وأيٍ تكن مخاوف الرافضين لها، فإن هذه الخطوة قد كشفت العلاقة بين مجلسي النواب والدولة على حقيقتها، وقطعت شهر العسل بينهما قبل إنقضاءه.