منذ التحولات التي عاشتها المنطقة العربيّة العام 2011، صعدت إلى الواجهة بعض القوى الإقليمية التي اختارت أن تكون جزءا من تلك التحوّلات خدمة لمشاريعها الخاصّة عبر أطرافا ترى أنها الأقرب لتنفيذ مشروعها، وعلى رأس تلك القوى نجد قطر وتركيا اللتين كانتا الأكثر تورّطا في الأحداث اللاحقة عبر دعمهما للتنظيمات الإسلامية وعلى رأسها الإخوان المسلمين، دون نسيان الدور الإيراني العائد بقوة في الفترة الأخيرة التي عرفت استعادة الود بين طرفي الإسلام السياسي السني والشيعي بعد سنوات البرود على خلفيّة الأزمة السوريّة.

بالعودة إلى أحداث فبراير 2011 في ليبيا، تسهل معرفة الدور القطري الكبير في كل ما وقع، سواء في التورّط الذّاتي أو في تحشيد القوى الدولية للحرب التي أطاحت بنظام العقيد معمّر القذافي، وخاصة في توجيه الرأي العام نحو وجهة رأي واحدة للأحداث عبر وسائل الإعلام التابعة لها وخاصة قناتها "الجزيرة" التي كانت في ذلك الوقت ذات متابعة كبيرة في المنطقة العربية، لأسباب مختلفة يتداخل فيها الحقوقي والسياسي، دون معرفة النوايا الحقيقية للقناة وقتها.




قطر التي كانت خلال سنوات التسعينات تصوّر نفسها الدولة الناهضة اقتصاديّا، المنفتحة على الخيارات الغربية في أغلب القضايا المعقدة في المنطقة من بينها ربط التواصل دبلوماسيا مع الاحتلال الإسرائيلي، أفصحت رسميّا بداية من تحولات المنطقة العربيّة في 2011، عن وجهها المقنّع في علاقة بتيارات الإسلام السياسي وعلى رأسها الإخوان المسلمون من خلال دعمهم بكل قوة في الدول التي تمركزوا فيها، سواء ماليا عبر مليارات الدولارات، سواء سياسيا عبر ارتباطاتها مع الغرب، وليبيا من بين الدول التي وجّهت سهامها نحوها. فمنذ الإطاحة بالنظام، كانت الدّويْلة الخليجية ممولا أساسيا للإخوان بهدف تقوية نفوذهم في البلاد باعتبارهم واجهتها في المنطقة.

لم يتوقف الدعم القطري للإخوان في ليبيا خلال كامل سنوات الأزمة، مرة بالسلاح مرّة بالمال، ومرّة بالدعم السياسي، حيث لا تتوقف قطر عن التصريح بمواقفها الداعمة للجماعة واستغلال علاقاتها بالغرب لكسب مواقف لفائدتها وفائدة حلفائها. وآخر المواقف القطرية كانت خلال العملية العسكرية التي يقودها الجيش الليبي في طرابلس. بالنسبة إلى المراقبين للحالة الليبيّة يعرفون أن المواقف القطريّة طبيعيّة باعتبارها تدافع عن آخر "قلاعها" التي لم تعد محصّنة، وبالنظر إلى أن سقوط طرابلس يعني آليا سقوط المشروع القطري في ليبيا وربّما في المنطقة ككل، وهذا ما يفسّر تصريحات مسؤوليها المتشنّجة منذ بداية الحرب.

فمنذ بداية المعركة خرج وزير الخارجية القطري محمد بن عبد الرحمان آل ثان، في تدوينة له على تويتر منددا ومعتبرا أن "تصرفات المليشيات العسكرية بقيادة حفتر في ليبيا تعرقل في المقام الأول الجهود الدولية لتحقيق الحوار الليبي الوطني. يجب أن تعِ الأيادي العابثة خطورة هذا التصعيد العسكري و أن تضع مصلحة الشعب الليبي فوق كل اعتبار". لكن موقفه قوبل بردود قويّة من متابعيه الذين اعتبروا أن قطر دولة داعمة للإرهاب ومواقفها واضحة في دعم جماعات الإسلام السياسي والسجلات موجودة أمام الجميع في توفير السلاح أمام المليشيات المسلحة.

الدور القطري في معركة طرابلس لخصّه الكاتب الصحفي إميل أمين في تقرير له على موقع "العربيّة نت" بعنوان "قطر الوجه الآخر لميليشيات التطرف في ليبيا" قائلا إن "قطر شكلت في الأسبوعين الأخيرين (بعد بدء معركة طرابلس بأسبوعين) وبشكل طارئ غرفة عمليات عسكرية حربية في الدوحة، تباشر من خلالها وتنسق الجهود لدعم الإرهابيين في ليبيا لاستهداف المدنيين، وقوات الجيش، في الوقت الذي تقصف فيه طائرات تابعة لنظامي تركيا وقطر وبذخيرة فرنسية تركية مواقع الجيش الوطني الليبي والأطفال والنساء في سوق الخميس وغريان".

تركيا أيضا ليست بعيدة عمّا تقوم به قطر. فالدولة المحمّلة بتاريخ كبير من الارتباطات المتشعّبة شرقا وغربا، بدورها اليوم لاعب أساسي في أزمات المنطقة، ومساند مكشوف للإخوان المسلمين، بل الحاضن لهم والمدافع عنهم والمساهم في فتح علاقات لهم مع مراكز النفوذ العالميّة. الدعم التركي للإخوان تُرجم في أبريل 2018، باحتفال الذكرى التسعين لتأسيسهم بحضور العشرات من قياداتهم في مختلف دول العالم.

في ليبيا كانت تركيا من أوّل المساهمين أيضا في طلب التدخل الأجنبي بهدف إسقاط النظام وهو ما نجحت فيه عبر قرارين أمميين، ومن أول الدول المعترفة بالمجلس الانتقالي المُشكّل وقتها تحت طلب دولي. وعلى الرغم من إدراكها لخطورة الخلافات على الوضع الأمني إلا أن تركيا كانت جزءا منها عبر انحيازها لتنظيم الإخوان المسلمين الذي يعتقد أنه سيجد الساحة مفتوحة لتنفيذ مشروعه بمجرّد النجاح في إسقاط النظام، لكن أول انتخابات تم تنظيمها جعلتهم على الهامش الأمر الذي جعلهم ينتقلون لخطة الفوضى وفرض الأمر الواقع.

الدعم التركي للإخوان يظهر أيضا عبر الانحياز المكشوف لحكومة طرابلس منذ اتفاق الصخيرات الذي كان مساهما بشكل كبير في تقوية الإسلاميين في طرابلس عبر المساهمة في حصولهم على شرعية دوليّة. كما أن اتخاذ موقف العداء من الجيش الليبي باعتباره يحارب أقرب حلفائها في البلاد يقدّم أيضا صورة عن قوة العلاقة بين الطرفين.

لكن من يعرف الأتراك، يدرك جيدا أن الطمع الاقتصادي يسير جنبا إلى جنب مع القرب الفكري من الجماعة. فليبيا الخارجة من مرحلة سياسية معروفة بصدّها لمشاريع الطمع الخارجيّة، أصبحت بعد 2011، ساحة للأطماع الخارجية ومن بينها تركيا التي تنافس من أجل ضمان استثمارات من المؤكّد أنها مربحة لو نجحت في الحصول عليها وهو ما نجحت فيه في المناطق المهيمن عليه من الإخوان المسلمين وأساسا في غرب البلاد.

وإذا كان الاسلام السياسي السني متمظهر أساسا في تركيا وقطر، فإن الإسلام السياسي الشيعي بدوره يحاول اللعب على أكثر من واجهة. فإيران التي وضعت ثقلها في العراق بعد احتلال 2003، وفي سوريا بعد أزمة 2011، تريد أن تلقي شباكها أيضا في مناطق أخرى ومن بينها ليبيا، حيث كشفت معركة طرابلس أن الخلافات مع "الإسلام السياسي السنّي" ليس إلا مرحلة سرعان ما تُطوى في أول التقاء.

في مقال سابق لبوابة إفريقيا الإخبارية حول الدور الإيراني في ليبيا، تم الاستناد إلى تصريح للدبلوماسي السابق عبدالرحمان شلقم الذي قال إن "إن الدولة الإيرانية لها أطماع كبيرة في دول شمال إفريقيا وخاصة الدولة الليبية، لدوافع عدة أولها توافر السيولة الأمنية وغياب سيطرة الدولة القوية على مفاصل البلاد، وثانيها بعدها عن المشرق العربي الذي يثمل مركز الصراعات والتداخلات السياسية والعسكرية بين القوى الإقليمية والدولية". المقال عاد إلى علاقات طهران مع إخوان المنطقة، الذين "كانوا يرون، وفق الكتاب الذي ألفه الباحث السوري محمد سيد رصاص، أن سيد قطب وحسن البنا والخميني توحدوا وراء فكرة أن الإسلام هو الحل لمشكلة الحضارة الحديثة".

في معركة طرابلس الأخيرة، كانت إيران أيضا حاضرة سواء عبر التصريحات السياسية لقادتها الذين يرون في حكومة الوفاق واجهة لحواراتهم التي ترجمها لقاء بين محمد سيالة وظريف في أغسطس الماضي أين قدم الوزير الليبي لنظيره الإيراني موقف طرابلس الذي لم يبدُ بعيدا عن هوى طهران التي مازالت تحافظ على حبل الود مع الإخوان المسلمين العنصر الفاعل الرئيسي في حكومة السراج.

وقبل لقاء ظريف بسيالة حصل تطوّر لافت حول الدعم الإقليمي للوفاق في معركة طرابلس، ذكرته تقارير مختلفة حول وصول سفينة إيرانية إلى ميناء مصراتة محمّلة بالأسلحة. السفينة قالت الوفاق وقتها أنها احتجزتها باعتبارها مدرجة على لائحة العقوبات الأمريكية والأوروبيّة، لكن أطرافا أخرى اعتبرت أن العمليّة تمت بعلم من مسؤولي طرابلس وأن السفينة كانت محملة بالأسلحة لاستخدامها في معركة طرابلس ضذ الجيش الليبي، وهذا ما ذهبت إليها بعض التحليلات حول صواريخ يرجّح أنها إيرانية الصنع تستعمل في معارك طرابلس.