نشرت مجلة فورين بوليسي الأمريكية تقريرا حول دوافع الدول المنخرطة في الصراع في ليبيا، وكيف يؤدي سعي هذه الدول لتأمين أكبر قدر من المكاسب إلى إذكاء الصراع المسلح في ليبيا.

وقالت المجلة الأمريكية إنه بعد أربعة أشهر من بدء قائد الجيش الوطني الليبي خليفة حفتر هجومه على طرابلس أصبحت ليبيا أقرب من أي وقت مضى إلى الانهيار. وتلاشت آمال حفتر في الاستيلاء السريع على العاصمة الليبية بسبب المقاومة الشديدة من القوات الموالية لحكومة الوفاق الوطني المعترف بها من قبل الأمم المتحدة. وفي الوقت نفسه فإن مجموعة من أصحاب المصلحة الدوليين -بما في ذلك الصين وروسيا وإيطاليا وفرنسا ودول الخليج -قد شاركوا في النزاع. على الرغم من أن بعض هؤلاء الممثلين يشيرون إلى الحاجة إلى إبطاء تدفق المهاجرين من ليبيا إلى أوروبا أو الأمل في استقرار ليبيا كمبررات للتدخل الأجنبي، إلا أنهم مدفوعون أيضًا باحتمال وجود عقود إعادة بناء مربحة.

إن أكثر العقود التي عليها تنافس حامي هي عقود صناعة النفط الليبية -التي من المتوقع أن تضاعف إنتاجها بحلول عام 2023-وفي مشاريع البنية التحتية التي تعزز موقع ليبيا الاستراتيجي على البحر الأبيض المتوسط. وعلى سبيل المثال تطالب القوى الأجنبية بالسيطرة على حقلي الشرارة والفيل النفطيين اللذين يقعان في الهلال النفطي لجنوب ليبيا؛ والسيطرة على حقول النفط البحرية التي تحتفظ بها حكومة الوفاق الوطني؛ والوصول إلى الموانئ الحيوية مثل بنغازي ورأس لانوف.

يؤثر توازن القوى في ليبيا تأثيرا عميقا على من سيفوز في العقود. وقد دعمت عدة دول عربية وفرنسا الأنشطة العسكرية للجيش الوطني الليبي، ومصالحها الاقتصادية تتوقف على نجاح مهمة حفتر في طرابلس. دعمت كل من إيطاليا وتركيا وقطر حكومة الوفاق الوطني باستمرار وساعدت الحكومة التي تدعمها الأمم المتحدة في مقاومة هجمات حفتر. تخطتت روسيا والصين بحذر في ليبيا وراهنت على عدم حصول أي من الطرفين على ميزة حاسمة.

إذا استمر الوضع الراهن حيث تسيطر حكومة الوفاق على طرابلس وضواحيها ويهيمن الجيش الوطني الليبي على شرق وجنوبي ليبيا فإن روسيا والصين ستستفيدان أكثر من غيرهما. وهذا هو السبب في دعوتهم إلى الحفاظ على هذا الوضع مقابل الجهات الفاعلة الأخرى التي تفضل أن ترى الجيش الوطني الليبي أو حكومة الوفاق تبرز كقوة مهيمنة بشكل كبير.

وهكذا على الرغم من أن روسيا تعرضت لانتقادات بسبب عرقلة قرار الأمم المتحدة الذي يدين هجوم حفتر على طرابلس ومزاعم نشر مقاولين عسكريين خاصين لدعم الأنشطة العسكرية للجيش الوطني الليبي، إلا أنها حافظت على علاقات نشطة مع حكومة الوفاق الوطني. واستراتيجية التوازن هذه لها أسس اقتصادية حيث طبعت روسيا الدينار لتوزيعه من قبل البنك المركزي الليبي الموازي التابع لحفتر، بينما وقعت شركة الطاقة الروسية العملاقة روسنف صفقة لشراء النفط مع المؤسسة الوطنية للنفط الليبي التابعة لحكومة الوفاق في عام 2016.

بالنظر إلى هذه المصالح الاقتصادية فإن السيناريو الأمثل لموسكو هو التوصل إلى تسوية سلمية تنهي حظر الأسلحة الذي تفرضه الأمم المتحدة على ليبيا ويخلق نزاعًا متجمدًا. وقبل الإطاحة بالزعيم الليبي معمر القذافي في عام 2011 كانت لدى روسيا 4 مليارات دولار من عقود الأسلحة مع ليبيا. وحتى اليوم يعتمد سلاح الجو في الجيش الوطني الليبي اعتمادًا كبيرًا على التكنولوجيا العسكرية الروسية، لذلك ستستفيد موسكو بشكل كبير من إزالة حظر الأسلحة.

إن قدرة روسيا على الموازنة بين العلاقات المواتية مع حكومة الوفاق الوطني وحفتر يمكن أن تساعد موسكو أيضًا في الحصول على بعض عقود البنية التحتية المنتظرة. وتهتم الشركات الروسية بشكل خاص ببناء خط سكة حديد يربط بين بنغازي وسرت، الأمر الذي من شأنه أن يعزز النفوذ الاقتصادي والجيوسياسي لروسيا على البحر الأبيض المتوسط، وتأمل موسكو أن تساعد استراتيجيتها الدبلوماسية الفريدة في الفوز على العروض المنافسة والحصول على المشروع الذي تقدر قيمة 2.5 مليار دولار.

وبالنسبة للصين -التي التزمت بسياسة عدم الانحياز الصارمة في ليبيا-فإن الحفاظ على الوضع الراهن يمكن أن يساعد بكين في تأمين عقود إعادة الإعمار الكبرى. وفي السنوات الأخيرة اتخذت الصين خطوات لترسيخ نفسها كقوة رئيسية في قطاع النفط والبناء في ليبيا -سواء تلك يسيطر عليها الجيش الوطني الليبي أوتلك التي تسيطر عليها حكومة الوفاق الوطني-.

وبعد سنوات من الركود تضاعفت صادرات ليبيا من النفط إلى الصين في عام 2017، وأكد رئيس المؤسسة الوطنية للنفط الليبي مصطفى صنع الله على أهمية التعاون في قطاع الطاقة مع بكين. كما تعهد رئيس وزراء حكومة الوفاق فايز السراج بتوسيع وجود الشركات الصينية في المناطق التي تسيطر عليها حكومته لضمان مشاركة ليبيا في مبادرة الحزام والطريق الصينية. وتعتبر منطقة شمال إفريقيا منطقة صغيرة ولكنها سريعة النمو تهم المستثمرين الصينيين، وترى بكين موطئ قدم في ليبيا كعنصر أساسي في استراتيجية إسقاط القوة الاقتصادية الإقليمية.

 مع وجود ميزة واضحة لصالح روسيا والصين، تستخدم القوى الأجنبية التي تتماشى بشكل لا لبس فيه مع الجيش الوطني الليبي أو حكومة الوفاق الوطني القوة العسكرية لتسوية الملعب. وعلى الرغم من أن هدف حفتر المتمثل في الاستيلاء على طرابلس يبدو بعيد المنال، فإن رعاة الجيش الوطني الليبي - بما في ذلك فرنسا- يأملون في أن يحصل على مساحة كافية للمؤسسات الدولية لإضفاء الشرعية على سيطرته على شرق وجنوب ليبيا. وفي هذه الأثناء يسعى الحلفاء الرئيسيون لحكومة الوفاق الوطني -بما في ذلك تركيا وإيطاليا-إلى إحباط هجوم حفتر وإعادة السيطرة على احتياطيات النفط في جنوبي ليبيا إلى الحكومة المعترف بها دوليًا. وأدى فشل أي من الفصائل في الحصول على ميزة حاسمة إلى توقف حل النزاع وتفاقم الصراع بين فرنسا وإيطاليا ومصر وتركيا والصراعات داخل الخليج من أجل الهيمنة في ليبيا.

ومنذ أن استحوذ حفتر على بنغازي في عام 2017 تخوض فرنسا وإيطاليا منافسة على النفوذ على احتياطيات ليبيا النفطية. في البداية كانت إيطاليا هي صاحبة اليد العليا حيث أن شركة إيني الإيطالية كانت لديها وصول واسع إلى احتياطيات النفط في جنوبي ليبيا. وأبرم السفير الإيطالي في ليبيا في ذلك الوقت جوزيبي بيروني اتفاقًا مع حكومة الوفاق لإعادة بناء محطة الركاب بمطار طرابلس الدولي. وألغت سيطرة حفتر على حقول النفط في جنوبي ليبيا على مكانة إيطاليا المميزة، وأصبحت شركة النفط الفرنسية العملاقة توتال الآن أكبر المستفيدين المحتملين من هذه الاحتياطيات. وتعد الاشتباكات الأخيرة في مرزوق نقطة تحول في التنافس بين فرنسا وإيطاليا حيث يرى البلدان أن مصير تلك المدينة يحتمل أن يكون حاسمًا لتوازن القوى في المستقبل في جنوبي ليبيا.

في حين أن الصراع بين مصر وتركيا من أجل النفوذ الجيوسياسي قد ظهر في المجال العسكري، حيث قام كلا البلدين بتسليح فصائل، فأن المنافسة الشديدة بين القاهرة وأنقرة تظهر أيضا على الساحة الاقتصادية. ووصف رئيس الجمعية المصرية الليبية لرجال الأعمال ناصر بيان تركيا بأنها منافس مباشر لجهود مصر لدخول السوق الليبية. وجرى منع أنقرة من الاستثمار في المناطق التي يسيطر عليها الجيش الوطني الليبي منذ عام 2015 على الأقل. مع تطلع تركيا إلى مشاريع إعادة الإعمار في مناطق الصراع باعتبارها فرصة كبيرة لتقوية اقتصادها المتراجع ومع دراسة مصر لمجريات الأمور في ليبيا، يستعد كلا البلدين لمواصلة دعم العمل العسكري لكسر الجمود في ليبيا.

كما ساهمت التوترات المستمرة داخل الخليج في عسكرة المنافسة من أجل عقود إعادة الإعمار. على الرغم من أن قطر كانت حذرة بشأن الاستثمار في ليبيا بسبب عدم الاستقرار في البلاد، إلا أن الرياض وأبو ظبي تخشيان من أن يؤدي حدوث تحول في ميزان القوى لصالح حكومة الوفاق الوطني إلى تدفق الاستثمارات القطرية في ليبيا.

ولتجنب هذا السيناريو تستمر المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة في دعم حفتر. من خلال شراكة مع مجلس الأعمال الليبي انخرطت الإمارات العربية المتحدة مباشرة مع الشركات الليبية وصممت مقترحات لتطوير خط بحري مباشر بين الموانئ في كلا البلدين.

وعلى الرغم من أن المنافسة الخاصة بعقود إعادة الإعمار ظلت خارج العناوين الرئيسية إلا أنها مساهم رئيسي في الحرب المستمرة في ليبيا. حتى في حالة انتهاء حرب الاستنزاف بين الجيش الوطني الليبي وحكومة الوفاق الوطني في نهاية المطاف، فإن المنافسات الجيوسياسية الأخرى في ليبيا يمكن أن تقوض إعادة الإعمار الحقيقية للدولة الليبية محطمة الآمال في تجديد الاستقرار والازدهار في المستقبل.