امتدت معارك الميلشيات في ليبيا إلى العاصمة طرابلس -بعد أن كانت محصورة بشكل رئيسي في بنغازي- ولا تظهر أي علامات على الانحسار، الأمر الذي بات يشكّل خطرا على مستقبل البلاد وجوارها.

وفقا للموقع الإلكتروني “ضحايا حرب ليبيا" (Libya Body Count) الذي بدأ يتتبع عدد الوفيات الناتجة عن أعمال العنف منذ يناير 2014، شهد شهر يوليو سقوط 469 ضحية على الأقل في جميع أنحاء ليبيا، أي أكثر من تسعة أضعاف عدد الضحايا المسجل في يونيو. كما أفادت “بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا” عن تعرّض المدنيين في طرابلس وبنغازي للاعتداءات و”الجرائم الجماعية”، فيما دعت دولتان مجاورتان تملكان جيشا قويا، هما مصر والجزائر، إلى تدخل القوى الخارجية. في خضم ذلك أعلن السفير البريطاني السابق لدى ليبيا، السير ريتشارد دالتون، أن بريطانيا ودول الاتحاد الأوروبي قد ترسل جنودها إلى ليبيا لو تقدمت السلطات الليبية بمثل هذا الطلب.

هذا الزخم حول الوضع المتدهور في ليبيا كان محور بحث وتحليل أندرو إينجل، باحث في معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى، حيث سلّط من خلال تحليله الضوء على الغموض الذي يلوح في أفق لبيبا التي ثارت في 2011 أملا في وضع أفضل فكانت النتيجة فوضى عارمة وميليشيات مسلحة وانقساما متشظّيا ودماء في كل مكان.

 

عزلة طرابلس وقتال بنغازي

 

ينطلق الباحث الأميركي في دراسته من العاصمة الليبية، راصدا الأحداث في المنطقة المحيطة بمطار طرابلس الدولي وفي جنوب وجنوب غرب طرابلس، حيث تقاتل الميليشيات الإسلامية من مصراتة إلى جانب حلفائها الإقليميين ضد القوات الزنتانية الوطنية وحلفائها. وقد قُتل نتيجة هذه الاشتباكات أكثر من مئة شخص في حين تم قصف مستودعات وقود ضخمة مرتين وإضرام النيران فيها، مما أثار مخاوف من حدوث أزمة إنسانية وبيئية.

في ظلّ الوضع المتدهور في العاصمة، عمّ اليأس جميع أنحاء طرابلس. وفرغت رفوف المتاجر من بضائعها، وشحّت إمدادات الوقود، ناهيك عن انقطاع المياه والكهرباء عن السكان لساعات طويلة. ومن غير المرجح أيضا أن يعود التلاميذ إلى مدارسهم في سبتمبر المقبل، في الوقت الذي يقول فيه بعض الأهالي إنّ القتال بات أسوأ مما كان عليه في عام 2011. وعلاوة على ذلك، أكّدت قوات مصراتة أن المعركة لن تنتهي في طرابلس بل في الزنتان، الأمر الذي يوحي بأن القتال سيستمر على الأرجح.

وقد أدى الانهيار الأمني إلى حدوث موجة نزوح جماعي من ليبيا خلال الشهر الماضي. حيث فرّ نحو 50 ألف مصري فيما هرب أكثر من 25 ألف ليبي إلى تونس، التي تفيد بعض التقارير أنها استقبلت أكثر من مليون لاجئ منذ اندلاع الثورة الليبية عام 2011. لكن هذه المرة، وقعت اشتباكات مميتة وتدافعات عند معبر “رأس جدير” على الحدود الليبية التونسية، مما اضطر سلطات تونس إلى إغلاق حدودها في الأول من أغسطس.

وسابقا كانت تونس قد دعت ما بين 50.000 إلى 60.000 من مواطنيها في ليبيا إلى العودة إلى البلاد، لكن لا يزال من غير الواضح كيف سيتمكنون من القيام بذلك في ظل إغلاق الحدود.

في السياق نفسه سعت عدة دول إلى إخراج رعاياها من ليبيا، من بينها الصين التي أجلت 700 مواطن صيني. وتأمل الفلبين بإجلاء 13 ألف مواطن فلبيني، يشكلون نحو 60 في المئة من عمال المستشفيات في ليبيا، مما ينذر بعبء كبير على نظام العناية الصحية في البلاد. ومن جهة أخرى أعلنت الجزائر أنها سترحّل اللاجئين الليبيين لديها عبر تونس. وترافق ذلك مع قيام بعض الدول الرئيسية، من بينها الولايات المتحدة وفرنسا وألمانيا وإسبانيا وهولندا واليابان وبريطانيا، بإغلاق سفاراتها في العاصمة مما زاد من عزلة طرابلس عن الفاعلين الدوليين. كما أن موظفي الأمم المتحدة غادروا البلاد أيضا.

في بنغازي، مهد ثورة 17 فبراير 2011، يستمر العنف في المدينة التي مزقتها الصراعات -بين القوى الوطنية والإسلامية- بدرجات متفاوتة من التطرف. فقوات اللواء خليفة حفتر الذي يقود “عملية الكرامة”، التي تحظى بدعمٍ من الاتحاديين والعشائر الشرقية الكبيرة، تواجه “أنصار الشريعة -التنظيم المصنف على لائحة الولايات المتحدة للإرهاب- وحلفاءه الإسلاميين. ومؤخرا قال وزير الخارجية الليبي محمد عبدالعزيز إنه يملك أدلةً على أن “المقاتلين الليبيين والأجانب يسافرون إلى بنغازي من ساحات المعارك الأخرى كسوريا والعراق من أجل مساندة “أنصار الشريعة” و"مجلس شورى ثوار بنغازي".

 

عودة للعملية الديمقراطية

 

تحولت العيون حاليا نحو البرلمان الليبي المنتخب حديثا، وهو المعلم المتبقي من آثار الدولة الليبية، وعليه أن يثبت قدرته على تخفيف حدة العنف حتى ولو جزئيا. ففي الثاني من أغسطس، أي قبل يومين من انعقاد جلسته الرسمية، شارك 158عضوا من أصل 188 من أعضاء المجلس في اجتماع طارئ عُقد في طبرق -ثامن أكبر مدينة في ليبيا واقعة إلى أقصى الشرق-. وقد أشار مكان انعقاد الجلسة إلى مدى انتشار عدم الاستقرار في المراكز السكانية الكبرى في البلاد.

في حين كان الهدف من الاجتماع الطارئ هو “توحيد الأمة”، وسرعان ما ظهرت الانقسامات.

فقد استهزأ رئيس المؤتمر الوطني العام المنتهية ولايته نوري أبو سهمين بالجلسة واعتبرها غير شرعية، مصرّا على إقامة مراسم تسليم المسؤولية في طرابلس. علاوة على ذلك، عمد الممثلون الثلاثون الغائبون عن الاجتماع -ومعظمهم إسلاميون متحالفون مع جماعة الإخوان المسلمين في مصراتة- إلى مقاطعة الجلسة أو مجرد التخلّف عن الحضور، إذ اختار بعضهم الاجتماع في مصراتة عوضا عن ذلك.

 

الحاجة إلى المزيد من المساعدات

 

وقد حذّر وزير الخارجية الليبية محمد عبدالعزيز، تفاديا لتفكك الدولة، بأنه سيطلب توسيع “بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا” فضلا عن طلبه تلقّي معونة أكبر من الولايات المتحدة من أجل مواجهة التطرف وبناء مؤسسات الدولة.

وفي 28 يوليو، وإزاء الوضع المتدهور، لفت المتحدث باسم وزارة الخارجية الأميركية إلى أن "التحديات في ليبيا سياسية في جوهرها وتتطلب حلاًّ عبر الحوار".

وفي 4 أغسطس، أصدرت واشنطن ولندن وباريس وروما وبرلين تصريحا مشتركا دعت فيه إلى وقف إطلاق النار على الفور واللجوء إلى الحوار السياسي الســلمي.

وخلال الخطاب الذي ألقاه بحضور رئيس الحكومة الليبية عبدالله الثني، أضاف وزير الخارجية الأميركي جون كيري أنه "لا يمكن حل التحديات في ليبيا إلا من قبل الليبيين أنفسهم".

يخلص أندرو إينجل إلى أنه بوسع الحوار السياسي أن يوقف ظاهريا القتال في شمال غرب ليبيا حيث سبق للفصائل المختلفة أن أيّدت العملية السياسية بالكلام فقط.

كما أن الجهود الدولية المنسقة للتوسط لوقف إطلاق النار من خلال بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا ومجلس النواب قد تسهم في تعزيز فعالية وشرعية هذا الأخير.

ولتحقيق هذه الغاية، جاءت خطوة مشجعة من قبل الأمم المتحدة أكدت فيها أنها لن تعترف بأي طرف يقاطع مجلس النواب.

غير أن الحوار السياسي لن ينجح وحده في حل النزاع القائم في بنغازي ودرنة -التي وقعت منذ وقت طويل في أيدي الجماعات المتطرفة الغامضة- ومناطق أخرى في شمال شرقي ليبيا حيث التحديات أمنية بالدرجة الأولى. فالتنظيمات أمثال “أنصار الشريعة” لا تكتفي برفض الديمقراطية والحوار رفضا قاطعا، بل تشن أيضا حربا غير نظامية ضد العملية الانتقالية التي أعقبت الثورة.

ومع ذلك، يمكن لا بل يجب السعي إلى إقامة حوار سياسي بين قوات اللواء حفتر ومجلس النواب والحكومة الجديدة التي ستنبثق عنه، وفق أندرو إينجل الذي يقول إن استراتيجية الأمن القومي للولايات المتحدة تنص على أن “أميركا مهددة اليوم بالدول المفككة أكثر من الدول الغازية".

ولولا مجلس النواب الليبي المنتخب حديثا لكانت ليبيا أبرز مرشح لتصنّف كدولة منهارة. وعند اعتبار ليبيا دولة على شفير الانهيار، سيدرك المسؤولون بوضوح متزايد الحاجة إلى الحلول السياسية والأمنية على حد سواء.