المثل العربي القديم يقول "أول الغيث قطرة.. وآخر الغيث سيل"، هكذا ربما بدأ المشهد في مدينة غات جنوب غربي ليبيا، بدأ بغيث استبشار ثم انتهى بصورة امتزجت فيها مشاعر الحزن والآلام، عاكسة واقعا جاء آخره مغايرا لأوله... فلعنة الفيضان والسيول اجتاحت المدينة دون أن تطلق صافرة الإنذار فتحولت النعمة إلى نقمة حل شبحها على كامل المدينة. 

سيول عارمة جرفت الأخضر واليابس، ففي الوقت الذي يفكر العالم كله عن سبل الاستفادة من مياه الأمطار، وتنشغل دول أخرى بالبحث في تكنولوجيا الأمطار الصناعية والتحكم في حركة السحاب وأماكن سقوط الأمطار، انشغلت الحكومات الليبية عن هذه المدينة البسيطة في مطالبها الشرعية المتمثلة في صيانة غرف تصريف المياه وتطوير بنيتها التحتية. 

تفاصيل علمية ومناخية  

المستشار وخبير المناخ والتغيرات المناخية بالمركز الوطني للأرصاد الجوية خالد إبراهيم الفاضلي، نشر ورقة تحليلية لنتائج الفيضانات والسيول في غات ضمن الدراسة المناخية التحليلية المرتقب نشرها قريبا، والتي سيوجهها الفاضلي إلى صانعي السياسات ومتخذي القرارات وجميع المؤسسات العلمية والخدمية والتخطيط وباقي المهتمين في هذا المجال، كشف خلالها أن المرجعية الخاصة بالأمطار الفيضانية التي اجتاحت منطقة غات الكبرى نتيجة لسيطرة أوضاع مناخية شاذة خلال الفترة 1-6 يونيو2019 وذلك بعد تمكن المركز ولأول مرة من بناء نموذج مناخي يحاكي المناخ الخاص بتهاطل الأمطار والفيضانات بمناطق غات الكبرى منذ سنة 1891 (130 سنة ماضية) بعد استخدام والاستعانة بالبيانات والتقنيات والامكانيات المتاحة بمراكز (GPCC) و(IRI) و(LNMC) وكذلك مخرجات النماذج المناخية العالمية منها والإقليمية (GCM,RCM) وأيضا بيانات وتقنيات الاستشعار عن بعد لرصد ومراقبة تساقط الأمطار على افريقيا.

فإن مناطق غات الكبرى والتي يتبع مناخها الانماط المناخية الخاصة بالنصف الشمالي للكرة الأرضية (NH) قد تعرضت إلى حوالي 26 فيضاناً مناخياً بمختلف الأشهر، 62% منها صنفت بأنها فيضانات معتدلة الشدة والقوة و19% منها عنيفة و15% منها اعتبرت متطرفة، اما فيضانات يونيو 2019 فهي الأعنف منذ نهاية القرن قبل الماضي، وصنفت بأنها استثنائية تاريخياً وتسببت في أضرار اقتصادية واجتماعية بليغة وأدت إلى كوارث بيئية واسعة النطاق، ثم يليه فيضان نوفمبر 1958 وفيضان سبتمبر 1951 وفيضان يناير 1933 وفيضان مايو 1966.

لماذا حدث الفيضان؟

السؤال الرئيسي الذي هو لسان حال جميع الشعب الليبي هو.. لماذا حدث الفيضان بهذا الشكل والقوة؟ 

الدكتور يحيى الفستاوي أجاب على هذا التساؤل خلال تقرير تفصيلي أعده لتدشين مشروع وطني علمي وتقني لدراسة الجوانب المختلفة لمنطقة غات وإنشاء مركز معلومات للمدينة موضحا أن مدينة غات والقرى المجاورة لها تقع في منطقة منخفضة على مسار وادي تنزفت بين سلسلتي جبال أكاكوس في الجانب الشرقي وجبال الأليزي في الجانب الجزائري وهي جزء من مرتفعات الهوقار التي تغطي معظم جنوب شرق الجزائر.

وادي تنزفت والذي يمتد شمال جنوب وميلانه في اتجاه الجنوب (اتجاه مدينة غات) يتكون في معظمه من تربة طينية وبالتالي فإن سقوط الأمطار سينتج عنه بقاء معظم المياه على سطح الأرض لفترة وعدم تسربها لباطن الأرض لتغذية الخزان الجوفي للمياه حيث أن الطبقة الطينية تعمل كحاجز يمنع ذلك.

من حيث التضاريس وقوع الوادي بين سلسلتي جبال أكاكوس والأليزي والتي تُعتبر جبالا مرتفعة وميلانها عالٍ في اتجاه الوادي، جعل هذه الجبال تصب معظم مياهها في اتجاه الوادي بسرعة عالية وبكميات كبيرة وبالتالي تحدث الفيضانات. 

وادي تنزفت والأودية المشابهة له تُسمى (الأودية النائمة) حيث أنها تكون جافة ولا تجري فيها المياه ولكن مع سقوط كميات كبير من الأمطار فإنها تُصبح خطرة ويكون منسوب المياه فيها عاليا مما يسبب في غمر وتدمير المباني التي في طريقها.

المشكلة في أن الكثير من مدن وقُرى مناطق ليبيا تكمن في البناء فوق الوديان، وفي أماكن مجرى المياه أي الأودية. وكما هو معروف فإن الأودية تحافظ عبر الزمن على مجراها مهما تغيرت التضاريس الطبيعية. والسبب الرئيسي للكوارث الناتجة عن تساقط الأمطار الغزيرة هو بناء مساكن ومنشآت في مجرى الأودية.

على الرغم من أن التقارير المناخية تُشير إلى أن احتمالية تكرار مثل هذه الفيضانات عادة ما تكون خلال عقود إلا أن التغيرات المناخية الحادثة يمكن أن يزيد من احتمالية تكرارها خلال سنوات وليس عقود.

جولة في غات المنسية

62326742_1113101642223187_3939842091248517120_n.jpg

وفي محاولة لتسليط الضوء والاقتراب أكثر من الصورة في مدينة غات، كان لـ"بوابة أفريقيا الإخبارية"، حوار موسع مع عضو اللجنة الإعلامية بمخيم مهجري تاورغاء بقرارة القطف، أحمد شرتيل، فور عودته من مدينة غات عقب زيارة أجراها وفق جسر التواصل بين المدن الليبية بعد كارثة السيول لتقديم المساعدة والدعم للأهالي. 

وقال شرتيل، إن الزيارة جاءت عرفاناً منا بالجميل ورداً للمعروف لما قام به أهالي مدينة غات بعد منع أهالي تاورغاء من العودة في بداية فبراير ٢٠١٨ وإقامة مخيم قرارة القطف، مشيرا إلى أن لجنة الأزمة التابعة للمجلس المحلي تاورغاء التي تم تشكيلها بعد الأحداث الجارية في طرابلس قامت بتقديم المساعدة لبلدية غات تتمثل في مضخة رش وتعقيم سعة ٢٠٠ لتر ومبيدات متنوعة لحماية البيئة.

وأضاف شرتيل، أنه خلال زيارته لمدينة غات شاهد بعينه حجم الكارثة التي حلت بها، لافتا إلى نسبة الضرر تزيد عن 75% من إجمالي المدينة. 

وبحسب رواية أهالي المدينة لـشرتيل، فهناك تقاعس في تقديم المساعدات من قبل مسؤولي البلدية، قائلا "حسب ما قيل لي بعد زيارتي للمدينة بأن السيول تأتي ما بين ٦٠-١٠٠سنة، ولكن للأسف قبل ذلك كانت هيئة الأرصاد الجوية قائمة بدورها وتقوم تبليغ الأهالي قبل حدوث الحدث ولكن في ظل الانقسام الذي تعيشه البلاد، وتقييم المدينة كونها موالية للنظام لم يتم تبليغ الأهالي و"العهدة على الراوي" ولضعف الإمكانيات أيضاً تفاجئ أهالي مدينة غات بالفيضانات إثر سيول الأودية القادمة من الجزائر بحكم غات المدينة الحدودية، والتي يبلغ عدد سكانها ٢٠ ألف نسمة تقريباً وتتكون مدينة غات من مركزين للسكان، هما غات المركز وبركت الأكبر من حيث عدد النسمة، اما المركب الاجتماعي جل سكان مدينة غات من التوارق وجزء بسيط جداً من القبائل العربية".

62114702_1260464624115493_7645710320014458880_n.jpg

وتابع، "المياه اجتاحت المدينة من فتحة ليست بكبيرة بين الجبال معروفة كمجرى للوادي، ووصل ارتفاع المياه في بعض الأحياء ٢متر تقريباً الأمر الذي أدى إلى تساقط البيوت وتهاوت العشش حضائر الحيوانات التي جرفتها السيول ايضاً، توقفت كل مرافق المدينة في الأيام الأولى ولكن في زيارتي كلها كانت تشتغل بشكل طبيعي ولكن هناك عجز في تقديم المساعدات للأهالي لافتقارها من الأساس، فمثلا العملية الدراسية متوقفة تماماً لقيام مسؤولو البلدية بتحويل ثلاث مدارس لملاجئ لنازحي الفيضانات والآخر معهد المهن الشاملة الذي استغل ايضاً". 

كما كشف شرتيل، "عن وجود كارثة بيئية لاختلاط مياه السيول مع مياه الآبار السوداء وتكدس الجيف وهناك من خمّن وجود جثث للبشر الذين يتخذون نفس المسلك للهجرة، ونتج عن ذلك كثرة الذباب والبعوض والناموس وبعض الحشرات التي لم يتعرف عليها الأهالي، حيث انتشرت بعض الأمراض مثل النزلات المعوية وغيرها لسوء الأوضاع"، مضيفا "هناك مخيم لأهالي المناطق الغارقة في الصحراء، المخيم معروف بمخيم جامع الرملة الذي يقطنه ٢٥٠ أسرة، متوسط الأسر من ٧-٩ فرد تقريباً وأغلبهم من الطوارق القادمين مؤخراً للمدينة، ويعانون ظروف قاسية بحكم طبيعة الصحراء وعدم توفر مياه الصالحة للاستعمال مما أدى لاستخدامهم مياه الفيضانات". 

ما الحل؟ 

وبعد هذا الاستعراض لأوضاع مدينة غات المنسية، يبقى السؤال..... ما هو الحل؟ الدكتور يحي فستاوي أيضا أجاب على هذا التساؤل الذي حير الجميع، مشيرا إلى أن منطقة غات تقع ضمن مشروع مخططات الجيل الثالث للمخططات العمرانية (الإقليم التخطيطي فزان) والذي تقوم مصلحة التخطيط العمراني بتنفيذه، وبالتالي فأن إعادة التفكير في الأماكن الأمنة لمواقع المباني داخل المنطقة والتوسع العمراني يجب أن يُعطى له الأولوية في دراسة وتحديد أماكن التوسع العمراني.

كما أكد فستاوي، على ضرورة الدراسة التفصيلية للمعلومات المناخية لكامل المنطقة ووضع مكتب أو محطة أرصاد متقدمة تقنياً مربوطة بالمنظومات العالمية لتحسس مدى إمكانية حدوث عواصف وأمطار بشكل مُسبق والتعامل معه بشكل علمي، حيث أنه مع تكرار حالات الفيضانات ومشاكلها وجب أن يكون هناك سجل توثق فيه جميع الأمطار، وزمن العودة المتوقع، بحيث تسجل فيه الأمطار لمدة (50) سنة ماضية، ويتم وضع احتمالات وتوقعات بهطول الأمطار، ومدى غزارتها، وتحديد زمن عودتها، بما يمكن من رصد الأمطار المتوقعة، وتحديد مكان غزارتها، وبالتالي تحذير السكان وسرعة إنقاذهم، إضافة إلى ضرورة منع البناء في المناطق المنخفضة في الوادي، وإجراء دراسة تفصيلية للمناطق الصالحة للبناء والتي تكون بمأمن من غمرها بالمياه في حالة حدوث فيضانات. 

وأكد فستاوي، على أهمية عقد مؤتمر أو ورشة عمل وطنية يُدعى لها ويحضرها المتخصصون في المجالات ذات العلاقة (علوم أرض -استشعار عن بعد -مناخ -تربة -مياه -تخطيط عمراني -البيئة -علم اجتماع) وغيرها من التخصصات التي من خلالهم ومن خلال تواجدهم في مكان وزمان واحد يتم دراسة الحالة والتخطيط العلمي لها بشكل مناسب.