أشياء رمزية في الأصل لكنها تحيل دائما على ما وراءها. وفي السياسة لا شيء مجانيا، كل حركة بحسابها وكل كلمة بأهدافها. السياسي يسمح لنفسه بالمناورة في كل الاتجاهات، ولأجل هدف معيّن لا بد أن يبتكر صورة ما للفت نظر الناس. هذا ما فعله راشد الغنوشي رئيس حركة النهضة الإسلامية في تونس. الرجل الذي لم يظهر قبل 2017 بـ"كرافات"، بدأ يخرج بشكل جديد عليه وعلى التونسيين وكأن في الأمر سرا لا يعرفه إلا هو دون غيره.

الزعماء الإيرانيون إبان الثورة، والإخوان الأولون، ومؤسسو التنظيمات الجهادية وكل من سار في دربهم، جميعهم اتخذوا موقفا رافضا للبس ربطة العنق الأوروبية التي لبسها النبلاء الأوروبيون للتميّز على بقية الناس. لكن التفسير الإسلامي كان مخالفا فكل شيء يتم الهروب به إلى ما هو ديني، ولا بأس أن تؤلّف حوله خرافات لأجل تبرير الموقف من رفضه وهذا ما حصل مع "الكرافات" منذ أكثر من قرن.

بالتأكيد ليست المرة الأولى التي يلبس فيها زعماء إسلاميون ربطة العنق، لكن ميزة أغلبهم أنهم يتجنبون لبسها خاصة مع بدايات التأسيس الأولى. الكرافات عندهم تشبّه بالكفار ورمز يحيل إلى الصليب لهذا كان موقفهم منها كموقفهم من أهلها قديما (يعبرونهم أهل كفر)، لكن سنوات التهجير والنعيم الأوروبي الذي احتضنهم قد فعلا فعلهما حتى في أشد المعارضين لهذا الرمز.

ظهر رئيس حركة النهضة التونسية في احتفال للسفارة المغربية صيف العام 2017، وظهرت الكرافات لأول مرة. لا أحد يعرف لماذا، لكن المهم أن الرجل لفت إليه الانتباه وصنع "البوز" الإعلامي رغم أن في البلاد مشاكل أخرى أهم وأعمق. كان الغنوشي وقتها مبتسما أكثر من العادة وببدلة راقية مختلفة عن شكله القديم. نفس الشيء كرره أمس الأحد في اختتام ندوة حركته السنويّة هذه الأيام؛ الفرق أن هذا الخروج ربّما قد يكون مختلفا عن كل ما سبق في مستوايا الحركة و"الشيخ".

القريبون من راشد الغنوشي يحاولون تبسيط المسألة، ويعتبرون ما يقوم به الغنوشي تغييرا عاديا في الشكل وهو خيار الرجل نفسه دون أهداف مخفية، لكن تحليلات أخرى اعتبرت الأمر مقصودا. ليس راشد الغنوشي من يفعل شيئا اعتباطيا، الرجل أخبث من أن يقوم بشيء على غير العادة.

الرسالة قد تكون للخارج، الموقف من الإخوان المسلمين وتجربة الحكم في تونس لم يكونا إيجابييْن، تحفظات غربية كبيرة على أداء النهضة بين 2011 والآن؛ اغتيالات، وركود اقتصادي، واحتقان اجتماعي، وعدم رضى سياسي من الخصوم، وقطيعة شبه تامة مع المعارضين، وتحالف لم يثمر نتائج ملموسة، كلها عوامل تقلق الأوروبيين باعتبار النهضة كانت في كل ذلك شريكا في الحكم. أيضا تصريحات ترامب قبل عامين عند لقائه بالشاهد فيها إشارات بعدم الرضى عن حركات الإسلام السياسي وإمكانية وضع النهضة في القائمة الأمريكية السوداء قبل أن تخفت الضجّة، كلها ردّ عليها الغنوشي في وقتها بربطة عنق، ربطة العنق هي رسالة من الغنوشي لكل الغاضبين من الحركات الإسلامية بأننا لسنا منهم، نحن نموذج آخر جديد.

الأمر دعمه تصريحه في قناة نسمة المحليّة الخاصّة في أغسطس 2017، عندما قال إن النهضة لم تعد من حركات الإسلام السياسي، قال إن النهضة ديمقراطية وجزء من المجتمع التونسي، بما يعني أنها منسجمة مع العقلية المنفتحة، يتدعّم ذلك بموافقتها في البرلمان على قوانين حماية المرأة وحريتها.

"كرافات" الغنوشي منذ 2017 لم تعد مجرّد تغيير في الذوق ربما رسالة مختلفة وتغيير في التكتيك. قد يكون كرسي قرطاج هذه المرة هو هدفها، الموعد إليه اقترب وكل صاحب هدف سيبدأ معركة الوصول إليه من الآن، وتصريحات قيادات الحركة في آخر اجتماع لمجلس شوراها ألمحت إلى ذلك. الغنوشي تدرّب على الدولة، فهم دواليبها وطريقة تسييرها، تصرّف كلاعب الكرة الطموح. لاعب الكرة الصغير لا يكبر إلا بالخبرة. قد يشعر بالاحتقار أحيانا وقد يغضب أحيانا لكن نجوميته تكبر باقتناص الفرص وباختراق المواقع. الغفلة هي التي تصنع نجومية اللاعب وهكذا حال السياسي. راشد الغنوشي بدأ لاعبا صغيرا وقعت عليه المراحل المذكورة لكنه عرف كيف يقتنص الفرصة خاصة عندما يكون الفريق ضعيفا، يعرف أن أداءه هو أيضا كان ضعيفا عندما منح الفرصة الأولى لكن النجومية التي تصنعها المظلومية أحيانا ويصنعها ضعف الفريق الخصم أحيانا أخرى قد تجعله العنصر الأبرز في ميدان السياسة التونسية. عرف الرجل أن الخصوم ضعفاء ويعرف أنه اخترق كل المواقع التي تحميه في الدولة لهذا بانت الحقيقة الأولى في أن السلطة هي الهدف مهما رفعت شعارات الزهد فيها. الكرسي الذي جلس عليه الزعيم الخصم (الحبيب بورقيبة) يجب أن يجلس عليه الشيخ الخصم ولا شيء بعيدا هذه المرة بسبب خلافات الخصوم وتماسط التنظيم. حتى الجالس في قرطاج الآن قد يكون عاجزا عن التصرّف وربّما حتى بتفاهمات إذا فهم الباجي أن دوره انتهى. فالسياسة قد تخضع لشعار انفعني أنفعك لأن الرئيس في مرحلة من المراحل كان أقرب للنهضة حتى من حلفائه وكانت سندا لكل زلاّته.

رئيس حركة النهضة في حواره مع نسمة في أغسطس 2017 طلب من رئيس الحكومة أن يتعهّد بعدم الترشح في انتخابات 2019، ظاهريا لكي يتفرّغ الشاهد للمشاغل الحينية الكثيرة للتونسيين التي أكدها الغنوشي في علاقة بالوضع الاقتصادي الصعب. لكن تخمينات الشيخ تذهب في أن رئيس الحكومة الشاب قد يكون المرشح القادم للرئاسة ولا شيء يمنعه من ذلك؛ التعود على السلطة، استطلاعات الرأي التي تصنفه في أعلى المراتب، الكاريزما التي يحاول صناعتها لنفسه، الرد الذي كتبه على صفحته في فيسبوك قبل عامين ردّا على الغنوشي، بأن هناك فرقا بين من يفكر في الحزب ومن يفكر في السلطة، كلها عوامل تجعل الشاهد مرشحا نحو قرطاج. الرسالة وصلت الغنوشي، لهذا طلب منه التعهد بعدم الترشح، فالرجل سيكون خصمه القوي. يعرف رئيس النهضة أنه قادر على أن يكون نجما في اللعبة إذا حيّد الشاهد جانبا، البقية قد يكونون مجرّد أرقام في سجل الانتخابات مهما علت أصواتهم.

العلاقات التي ربطها رئيس النهضة في الإقليم ومحاولة الظهور في موقع المحايد مع أغلب قضايا المنطقة، والدعم القوي الذي سيجده من دول حليفة له مثل قطر أو تركيا وبدرجة أقل الجزائر، ربما ممهدات له ليطمع في كرسي الرئاسة، مسيرة الرجل السياسية كانت طويلة بسجنها وهجرتها بمظلوميتها وبراغماتيتها، لم يعد يرى في نفسه زعيما سياسيا لحركة النهضة فقط، هو يرى أنه زعيم التيارات الإسلامية في المنطقة كلها لهذا يتصور أن مسيرته يجب أن تنتهي في موقع كبير في الدولة. يعرف أن الانتخابات القادمة ستكون الأمل الأخير له لتقدّم سنّه ونهاية عهدته على رأس حزبه، والظروف الموجودة الآن بضعف المشهد السياسي قد تجعل الغنوشي يطمع أكثر في العبور إلى قرطاج لهذا كانت الـ"الكرافات" منذ 2017 رسالة فاتحتها "ها قد رشحت لكم نفسي".



(مقال محيّن منشور سابقا بتاريخ 8 أغسطس 2017)