مدّد مجلس الأمن الدّولي الأسبوع الماضي عهدة بعثته الأممية إلى ليبيا، برئاسة اللبناني غسان سلامة، مدّة عام آخر حتى الـ15 من سبتمبر 2020. هذا القرار كان متوقعا بحكم ما تمر به ليبيا من أحداث عسكرية وسياسية وسط قلق دولي متزايد من توتر الأوضاع في البلاد وتعطّل لغة الحوار السياسي وتصاعد للمواجهات وحرص كل طرف على حسم الصراع عسكريا.

وفي الحقيقة يأتي هذا القرار، في قلب توترات محليّة ليبية، لم تكن البعثة الأممية ولا رئيسها غسّان سلامة بعيدًا عنها. ففي تصريحات لصحيفة فرنسيّة زاد سلامة من حدّة التوتّر في البلاد من خلال حديثه عن شروط وضعها القائد العام للجيش الليبي خليفة حفتر من أجل انسحاب محتمل من معارك العاصمة طرابلس.

هذه التصريحات التي تلقفتها وسائل الإعلام المقربة من الإسلاميين والمنحازة ضد الجيش الليبي، محليا ودوليا، خاصة التركية والقطرية، ووضعتها عنوانًا نشراتها الإخبارية وصفحاتها الأولى، فجّرت ردود أفعال غاضبة جدًا في ال صّف المقابل وخاصة عند الجيش الليبي والبرلمان والحكومة المؤقتة. هذه الأخيرة التي سارعت بنفي وجود أي نية لانسحاب الجيش من معركة طرابلس بشروط أو بدونها لتتوالى بعدها التصريحات المؤكّدة على نفس الفكرة من القادة عسكريين ونواب ومسؤولين حكوميين.

ولم تجد البعثة وسط التطّور السريع لردود الأفعال الواسعة جدًا، غير التنبيه بداية مما أسمته "التحريف المتكرر الذي يقدم عليه البعض لتصريحات رئيس البعثة والممثل الخاص للأمين العام". حيث أشارت البعثة في تدوينة لها يومها إلى الحوار الذي أجراه غسان سلامة مع صحيفة ليبيراسيون الفرنسية، داعية الى "مزيد من المناقبية المهنية في نقل الوقائع والتصريحات".

لتفدند بعد ذلك فندت مصادر من داخل البعثة الأممية، مساء اليوم نفسه، ما تداول من تصريحات قالت إنها "نسبت" إلى المبعوث الأممي لدى ليبيا غسان سلامة، حول اشتراطات "ضمانات" للقائد العام للجيش الليبي خليفة حفتر للانسحاب من العاصمة طرابلس.

وقالت المصادر الأممية في تصريحات خاصة لـ"بوابة افريقيا الإخبارية" يومها، إن التصريحات التي أدلى بها المبعوث الأممي خلال مقابلة مع صحيفة ليبيراسون الفرنسية، تم اجتزائها وتحريفها من قبل بعض الوسائل الإعلامية، لافتة إلى أن النص الأصلي للمقابلة ليس به أي مشاكل.


** رغم ادعاءات التزييف.. غسان سلامة في دائرة الاتهام بالانحياز: 

وليست هذه المرة الأولى التي يواجه فيها غسان سلامة مثل هذه المواقف المتشنجة كردّة فعل على تصريحات له وصفت بـ"المنحازة"، وليست المرة الأولى التي يجد فيها نفسه كذلك مضطرا لتعديل تصريحاته أو ادعاء التزييف والتحريف لكلامه.

ففي بداية العام الجاري وجد غسان سلامة عرضة لهجوم قوي واتهامات بالفشل في حل الأزمة الليبية وطالب الكثيرون بمغادرته على خلفية احاطة له في مجلس الأمن، حاول تبريرها بعد ذلك بالقول إن بعض تصريحاته أسيء فهمها لكن مع ذلك بقي عرضة للغضب خاصة من جهة الجيش الليبي والبرلمان والحكومة المؤقتة.

ونقلت اذاعة فرنسا الدّولية حينها تعليقا على القضيّة التي أثارت لغطًا كبيرا أن تصريحاته تلك "أثارت موجة من انتقادات واسعة. لكن غسان سلامة يُنتقد في بعض الأحيان بناء على معلومات لا أساس لها، مشوهة أو يساء فهمها. وبالتالي، فإنه ينتقد بسبب عدم دقته والوقوع في أخطاء التقدير حول الوضع الأمني والاقتصادي للبلاد. وهو متهم قبل كل شيء بأنه قاض وخصم في ليبيا وبالدفاع عن الإسلاميين".

وتابعت الاذاعة الفرنسية أن عقيلة صالح، رئيس مجلس النواب، يعتبرأنه منحاز إلى جانب المجلس الرئاسي بقيادة فايز السراج. في حين نقلت عن المتحدث باسم البرلمان قوله أن المبعوث الخاص للأمم المتحدة قد تجاوز صلاحياته. منددا باعتبار سلامة لحكومة المؤقتة من الشرق والمعروف أنها "حكومة موازية" في الأمم المتحدة، في حين أنه وبالنسبة لأكثر من نصف الليبيين، فان حكومة الوفاق الوطنية في طرابلس هي التي ليس قانونية. هذه الحكومة المدعومة من المجتمع الدولي، لم يقر البرلمان أبدا تعيينها.

تواصلت بعد ذلك هذه الحفلة الصاخبة من التصريحات وردود الأفعال والتصحيحات وإعادة شرح النوايا والاتهامات بالانحياز وبالتزوير والتحريف والتزييف. حتى تحولت البعثة الأممية، في بعض عدّة أطراف ليبي، إلى وسيط دوره خلق مناخ مناسب يدفع الأطراف المتناحرة للتوافق والتشاور، إلى جزء رئيسى من الأزمة الليبية وطرفا في الصراع وهو ما كشفه تصاعد الانتقادات الموجهة له.

ففي ربيع العام الجاري، وجه المشير خليفة حفتر القائد العام للجيش الوطني الليبي، انتقادات في مقابلة مع صحيفة "لوجورنال دو ديمانش" الفرنسية، إلى مبعوث الأمم المتحدة الخاص غسان سلامة، متهما إياه بأنه تحوَّل إلى "وسيط منحاز" في النزاع الليبي.

وانتقد حفتر مواصلة سلامة الإدلاء بما وصفه بـ"تصريحات غير مسؤولة"، قائلاً:"لم يكُن هكذا من قبل، لقد تغيّر وأصبح يتحدث بنفس طريقة أولئك الذين يتحدثون عن تقسيم ليبيا أو أن الصراع قبلي". لكنه شدد على أن "هذا التقسيم مستحيل، لأن الليبيين سيظلون موحدين، وستظل ليبيا شعباً واحداً، الباقي مجرد وهم".

وكان المبعوث الأممي إلى ليبيا غسان سلامة،قال حينها  في إحاطة له بمجلس الأمن أن إن ليبيا باتت قاب قوسين أو أدنى من الانزلاق في حرب أهلية بإمكانها أن تؤدي إلى تقسيم دائم للبلاد مضيفا أن رأب الضرر الذي حدث إلى الآن يستغرق سنوات موضحا أن طرابلس كانت تتمتع بقدر من الأمن المتزايد، والأهالي يتمتعون باستقرار ويعيشون تحسناً في الأفق الاقتصادي كما كان المسار السياسي يمضي قدماً على الرغم من العديد من العقبات.

وكشفت احاطة سلامة بحسب مسؤولين ليبيين عن مغالطات كثيرة أبرزها قوله أن "العاصمة الليبية تتمتع بقدر من الأمن المتزايد"، في حين أن نفوذ المليشيات تعاظم وتزايدت الانتهاكات وارتفع معدل الجريمة والسطو والقتل خارج سلطة القانون. كما تجاهل سلامة في احاطته وجود مرتزقة أجانب وعناصر من "القاعدة" و"داعش" بين صفوف الميليشيات التي تقاتل إلى جانب حكومة الوفاق ضد الجيش الليبي،وهو ما يضع تساؤلات عديدة حول نوايا المبعوث، بحسب المصادر ذاتها.

إحاطة سلامة وصفها الجيش الليبي، كذلك، بأنها محاولة من سلامة لحل مشكلة تنظيم "الإخوان" في ليبيا، بدلا من حل مشكلات الليبيين، وعدم تطرقه للعصابات الإجرامية التي نهبت ثروات الشعب الليبى. 

ومع ذلك لم يتوقف سلامة عن تصريحاته المثيرة للجدل، حيث صرّح بعدذلك قائلا إن ليبيا بلد "يقدم على الانتحار" ويبدد الثروة النفطية لتسديد كلفة الحرب. وقال سلامة في مركز أبحاث مقره نيويورك، ربيع العام الجاري، إن هذه الدولة الواقعة في شمال أفريقيا "مثال على التدخل الأجنبي اليوم في نزاعات محلية". وقال إن الليبيين ليسوا بحاجة إلى مساعدة من الخارج لتأجيج النزاع، مضيفا "الحقيقة هي أن ليبيا يمكنها أن تدفع ثمن انتحارها".

وتذهب تحاليل سياسية إلى القول بأنّ هذه "النظرة التشاؤمية" عند المبعوث الأممي في قراءته وتقييمه للوضع في ليبيا وإصراره المتواصل بأن الأمور تسير نحو المجهول، وأن لا حل في الأفق، تثير عدّة تساؤلات حول مدى قدرته على إدارة الملف الليبي وتقديمه لتصورات قادرة على إحداث توافق بين الفرقاء وإخراج هذا البلد الممزق من أزمته المتواصلة منذ العام 2011.

فهل تكون عهدته الجديدة أكثر أملا ممما سبق، لبلد أنهكته الحرب والانقسامات؟