احتفل العالم يوم 30 يوليو/تموز باليوم العالميّ للصّداقة، الذي أقرّته الجمعية العامة للأمم المتحدة في العام 2011، واضعةً في اعتبارها أن الصّداقة بين الشُّعُوب والبُلدان والثقافات والأفراد يمكن أن تصبح عاملاً ملهماً لجهود السلام، وتشكل فرصةً لبناء الجسور بين المُجتمعات، ومُواجهة وتحدّى أي صور نمطيّة مغلُوطة والمُحافظة على الروابط الإنسانِيّة، واِحترام التنوُّع الثقافيّ.

اليوم العالميّ للصّداقة هو يوم  يتمّ الاِحتِفاء فيه بالصّداقة لإدراك جدواها وأهميّتها بوصفها إِحدى المشاعر النّبِيلة والقيمة في حياة البشر في جمِيع أنحاءٌ العالم. وإذا كانت كل علاقة بين اثنين أو أكثر تنتجها ظروف معطاة: عائلية، مهنية، تجارية.... فإن هذه العلاقة تكون خلاقة كلما تأسست على الاحترام والتقاسم والمشاعر الصادقة. ويمكن القول أن علاقة الأخ بأخيه، والزميل بزميله والشريك بشريكه...، وحتى العلاقة الزوجية، إذا لم تتوفر على قسط وافر من الصداقة ستصاب بالجفاف أو تنقلب إلى عداوة. وقد نجد حالات كثيرة انتهى فيها الزواج إلى طلاق، لكن العلاقة بين الطليقين حافظت على الاحترام ومشاعر الصداقة سواء من الطرفين أو من طرف واحد.

الصداقة والحالة هذه أقوى من رابطة الدم أو الدين أو المصلحة الضيقة، من حيث أن الإخوة والأحباب أو الأقارب قد يصبحون أعداء، وأصحاب الدين الواحد، والمذهب الواحد، أو البلد الواحد قد يتقاتلون لأتفه الأسباب. وبالتالي، فإن الصداقة هي جوهر كل العلاقات الخلاقة، وجوهر كل المشاريع الجماعية، فما من مشروع جماعي ناجح إلا وكانت الصداقة هي روح العلاقة التي تجمع أعضاءه.

بخصوص الدولة ككيان ينتمي إليه أفراد تعاقدوا على العيش المشترك، فإن قوتها مشروطة بوحدة جبهتها الداخلية، وإن هذه "الوحدة" لا يمكن أن تتحقق إلا إذا توفرت على قسط من الصداقة بين المواطنين.

إن الصداقة بين المواطنين، وفق أرسطو، هي أحد الشروط الأساسية للرفاه المشترك. ومعنى ذلك، أن التفاوت الطبقي الفاحش واستشراء الفساد والفقر في بلد ما يكشف عن افتقار هذا البلد إلى ثقافة الصداقة، وغياب الصداقة يدل على أن هذا المجتمع يعيش على الكذب والاحتيال والخداع.

لا يعتبر المتن الأفلاطوني الأواصر الأسرية معطيات قطعية في بناء الحياة المشتركة: يرجع الأمر إلى المعنى الذي تنطوي عليه هذه الروابط. والقيمة الأساسية للعلاقات بين الأفراد، كما يشير أرسطو هي الصداقة بالتأكيد، بوصفها عاملا أساسيا لوحدة الدولة. ولكن، ما يسميه أرسطو الصداقة يمثل توسعا في الروابط بين الأفراد، سواء ذات الأصل الأسري، الاقتصادي، السياسي أو مجرد علاقة عاطفية. بالنسبة لأفلاطون- يؤكد أرسطو- فإن الصداقة تخص فقط العلاقات بين روحين، ليس هناك سوى نوع واحد فقط من الصداقة: شقيقان ليسا بالضرورة صديقين. لهذا السبب، في العلاقة التناظرية بين الروح والمدينة (أي الدولة)، لا يمكن أن يكون هناك قوة وسيطة: الروح والمدينة متشابهتان لأنهما مكان التوترات الحادة بين القوى العمياء: النوس، الثيموس والإيبيثوميا (nous, thumos, epithumia). إن المدينة (الدولة) قابلة للفساد قابلية النفس/الروح، بل إن فساد الأولى من فساد الثانية. وكما أن الروح تفسد إذا ما كانت عرضة للأهواء والرغبات الشرهة، كذلك تفسد المدينة (الدولة) إذا ما أصبحت فريسة في يد من تتحكم فيهم أهواؤهم ورغباتهم.

إن أي تنظيم: أسري، مهني، حزبي، أو في أي مجال من المجالات، لا يرتقي بثقافة التضامن بين أعضائه إلى عقيدة روحية يبقى تنظيما منتجا للضحايا وللمحتالين، وبالتالي منتجا للحاقدين والساخطين، وكذلك هو شأن الدولة التي لا تحترم معايير العيش المشترك، ولا تكون راعية لمصالح مواطنيها دون ميز أو شطط، ولا تكون داعية إلى العدل والسلم والتعاون في خطابها وفي سلوكها.

إنه من المؤلم أن نرى البلدان المغاربية مثالا في البؤس السياسي والإعلامي، وكما لو أن هذه البلدان، توقّفتْ نُخبُها عن النضوج الوجداني والمعرفي، حيث كل بلد يستنزف طاقته في صراع عقيم بين نخب عجزت عن تجاوز مرحلة المراهقة. ولو وضعنا كل بلد تحت مجهر التحليل لوجدنا نفس الاختلالات السيكولوجية والأيديولوجية التي تعيق سيرورة التطور. أنانيات طائشة تعاني من عصاب جماعي لا تجيد سوى الخطابات العنترية كلما كانت في المعارضة، فإذا كان لها حظ في الحكم تصرفت في شؤون الدولة كما يتصرف أطفال طائشون لا هَمّ لهم سوى التعويض عن حالات الحرمان التي عاشوها.

النخب السياسية والفكرية في البلدان المغاربية غير ناضجة للأسف، تضرب بعضها بعضا: المعارضة تعرقل وتعمل كل ما في وسعها لإفشال من في الحكم، والموالاة تتملق، وكلاهما ينتهز الفرص لقضاء مصالحه الضيقة، ولا يهمه الشعب. الأمثلة واضحة اليوم عن الجهل السياسي، لا فرق بين البلدان المغاربية إلا في درجة هذا الجهل، لا فرق بين الجزائر والمغرب وليبيا وتونس وموريتانيا.

إن السياسة لها قواعدها الخاصة، ولها منطقها وكوداتها، ومواردها المحددة، ولكل هذه الأسباب، فإنها تتطلب مهارات ودورات محددة من التنشئة الاجتماعية والتدريب لجميع أولئك الذين يكرسون أنفسهم لها. وإن التآخي بين الشعوب من الصعب أن يتحقق مادام هناك دعاة للكراهية وللفتنة داخل الشعب الواحد، وبث مشاعر الخوف بين مكونات الشعب الواحد، ومادام هناك مؤسسات تنتج الجهل والفساد في وسطه بشكل منهجي. إن الشعب الذي يحظى بنخب فكرية وسياسية فاضلة هو من يعيش أفراده في ما بينهم روح الوئام والتضامن، وهو من يمتلك القدرة على التآخي مع غيره من الشعوب الأخرى.

فحالما تتشبع العلاقة بين المواطنين بروح الصداقة، وبين الدولة ومواطنيها، فإن القيم الإنسانية هي التي تسود، ويسود معها خطاب الصراحة ويتعزز لدى المواطنين الشعور بالأمن.