مصراتة هي مدينة الاقتصاد والمال، هذا هو الراسخ في أذهان الليبيين وغيرهم لسنوات طويلة. استراتيجية الموقع وتاريخية التعاملات التجارية بفضل تواجدها على خليج السرت بكل الأهمية الخدميّة له، تجعل تلك الفكرة الراسخة منطقية لدى قطاع كبير من الناس. لكن مصراتة ليست ذلك فحسب؛ هي تاريخ كبير في الثقافة والفكر، هي مركز أثري وتاريخي ضارب في القدم، وهي منشأ أعلام كبار عُرفوا وعرّفوا بالمدينة، بفضل ما قدموه للثقافة العربية والإسلامية وحتى العالمية.

أن نقول مصراتة يعني أن نعود بالتاريخ إلى ألاف السنوات، يعني أن نستذكر الفينيقيين الذين أسسوها حسبما تقول بعض الروايات، ونستذكر الومانيين الذي مروا عليها وتركوا آثارهم بادية إلى اليوم، ونستذكر الأمازيغ الذين تقول روايات أخرى أنهم منحوها اسمها، وأن نعود إلى العرب الذين وجدوا فيها منذ مئات السنين مستقرا وصارت لهم موطنا يساهمون في بنائه ويجعلونه منارة في ليبيا وعلى ضفاف المتوسّط.

تاريخ مصراتة الثقافي ضارب في القدم، هذا ما تقوله الحفريات الحديثة. ففي سبعينات القرن الماضي كانت الدولة الليبية في بداية منشئها بعد ثورة الفاتح من سبتمبر، تخطط لمشاريع بناء وتهيئة في مختلف مدن البلاد. وفي إطار مشروع على سواحل المدينة تم العثور على قطع أثرية تعود إلى ألاف السنين. قال علماء الآثار الذين اكتشفوها، إنها تعود إلى العصور الرومانية والفينيقية. كانت عبارة عن عملات ومنحوتات طينية ذات قيمة تاريخية كبرى. 

كانت تلك الآثار الفلاحية مقسّمة إلى وديان ومزارع قديمة وسدود قديمة والمعاصر، موزعة في مختلف مناطقها. يقول المختصون (ليبيون وأجانب)، إنها مهيئة على الطرازين البونيقي والروماني، وهي دليل على أن مصراتة ليست مركزا تجاريا فقط بل أيضا مدينة فلاحية تتوفر فيها الظروف المناخية والطبيعية المناسبة.

في بداية التسعينات أيضا نجح علماء الآثار في اكتشاف حمـامـات وأحـواض وقنـوات ولوحات فسيفسائية جميلة وأعمدة حجرية ورخامية وكســرات من الفخار في منطقة شط الحمام. كانت تتبع في أغلبها فيلات مشيّدة على الطراز الروماني يعود تاريخها إلى القرن الثاني ميلاديا.

كما اكتشفت خلال عمليات حفر لأحد المشاريع البنائية في بداية الألفية الجديدة بعض الأنفاق المتفرّعة تحت الأرض والتي يرجح أنها كانت إحدى المقابر الجماعية القديمة التي ترجع إلي فترة الحكم الروماني، وهي كلها دلائل على قدم الحياة البشرية في تلك المدينة ما يرجح وجود عدة مواقع أخرى قد يتم اكتشافها في إطار مشاريع ثقافية كاملة.

كل هذه الآثار هي موروثات تاريخية شاهدة على قيمة المدينة، وعلى الحياة فيها من آلاف السنين. ربّما مازالت لم تأخذ قيمتها الحقيقية لدى أهل القرار ومسؤولي الثقافة في البلاد، لكن بالتأكيد أنها ستبقى علامة على أن مصراتة مخزون ثقافي إنساني مازال فيه ما يكتشف في انتظار أن تخصص هيئات ذات خبرة لمزيد البحث والحفاظ على ما تم اكتشافه.

في التاريخ الحديث كانت أيضا مصراتة منارة ثقافية، ربّما ليس بهذا المفهوم العصري الحديث بما هو مسرح أو سينما أو آثار، ولكن بما هي حلقات تقليدية للعلم والشعر والدين التي تختلف أماكنها بين المساجد والمدارس التقليدية المخصصة عادة للصغار. وجدت تلك الحلقات إبان الفترة الاستعمارية في إدراتيها الإيطالية والبريطانية.

خلال فترة ما بعد الاستقلال في حقبتها الملكية تطوّرت المؤسسات الثقافية بشكل نسبي من خلال نشأة بعض المجلات والجمعيات ذات الفروع المختلفة، وكانت مصراتة إحداها. وكانت تلك الصحوة الثقافية متأثرة أيما تأثر بالمحيط العربي خاصة من الجهة المصرية التي كانت سباقة في مستوى الكتّاب والنوادي وحتى الأحزاب وغيرها من الأنشطة التي تأثرت بها الثقافة في ليبيا عموما وبمصراتة خصوصا.

في مصراتة أيضا أدباء ومثقفون وشيوخ مشهود لهم في خدمة مدينتهم وبلدهم. كان لهم الإسهام الكبير في الحفاظ على ثقافة المدينة وهويتها العربيّة والإسلامية التي كانت دائما مهددة سواء أيام الاستعمار الإيطالي أو حتى بعده وليس أدل على ذلك ما مرّت به المدينة إبان أحداث 2011، عندما حاولت بعض القوى الإقليمية وأساسا تركيا، التدخل المباشر واستمالة بعض الفاعلين فيها إلى درجة فرض ثقافة جديدة يتداخل فيها التتريك بالأسلمة السياسة ما تسبب في إشكالات اجتماعية وسياسية كبرى بين أبناء مصراتة وبقية المناطق.

من مثقفي ليبيا المشهود لهم نذكر البشير السعداوي، أب السياسة الليبية في القرن العشرين، تنقل في أكثر من عاصمة عربيّية وكان له إسهام في الحركة النضالية أيام الاستعمار، كما كان صاحب مشورة داخل ليبيا وخارجها، حيث عمل في القاهرة والمملكة السعودية ولبنان.

من أهل العلم والتديّن في المدينة، نجد مصطفى عبدالسلام التريكي، أحد أهم رموز التعليم الديني في ليبيا، كان سفيرا لليبيا في الملقيات الدينية العالمية، بفضل ما اكتسبه من خبرة خلال دراسته في الأزهر وربطه لعلاقات بين علماء العالم الإسلامي. عرف بأنه صاحب حلقات علميّة في مكة يجتمع حوله أهل العلم بالنظر إلى القيمة التي يحضى بها عندهم.

بعد ثورة الفاتح من سبتمر ساهم في مثقفو مصراتة في إثراء الثقافة الليبية، لكن الشخصية الأبرز التي طبعت لها مكانا، نجد علي فهمي خشيم. الرجل ذو مكانة كبرى في مدينه وفي ليبيا، يعتبره كثيرون مقرب من نظام العقيد معمّر القذافي لكنه يرى في نفسه مثقف من أجل ليبيا. هو أديب ومفكّر استثناء في تاريخ البلاد الحديث، كانت له كتبه وتراجمه.

يعتبر علي خشيم من مؤسسي الصحافة المكتوبة بعد ثورة 1969، حيث ترأس تحرير العديد من العناوين. خلال حياته تدرّج في مراكز كبرى في الجامعات الليبية، كما مثل بلاده في أكثر من موقع دولي لعل أهمها نيابته لرئيس المكتب التنفيذي لليونسكو في باريس.

مازالت مصراتة إلى اليوم مركزا ثقافيّا هامّا، قد تكون التطورات التي عاشتها البلاد بعد سنوات ما بعد 2011، سببا في تعطّل بعض الأنشطة فيها، لكن ذلك لم يمنع أن مبادرات فردية كثيرة ساهمت في تنظيم عدد من الفعاليات، مثل المعارض المحليّة للكتاب التي تشهد دائما نسب إقبال هامة أو الاحتفال بالمهرجانات الثقافية المختلفة، والأهم في كل ذلك اختيار مصراتة لتكون عاصمة الثقافة الإسلامية للعام 2023 وهي إشارة للقيمة الكبيرة للمدينة تاريخيا وثقافيا.