هذا العام يكون قد مر على سلسلة النجع للشاعر والملحن الليبي الشهير علي الكيلاني، خمسة وثلاثون عامًا منذ انطلاقتها الأولى سنة 1987م، مر خلالها النجع بتحولات ومتغيرات عديدة ، النجع حالة من حالات المحاكات لمراحل سياسية وثقافية من تاريخ ليبيا المعاصر الذي شهد العديد من الإنكسارات والإنتصارات الأفراح والأتراح .. حالة تراجيدية مجسمّه للمواجهات العديدة التي تكررت على مدى عقود بين الدولة الثورية ذات التوجه الإشتراكي وأعدائها الغربيين، علي الكيلاني ومن خلال السلسلة الرائعة تمثّل دور الراوي لتلك التحديات لكنه لم يكتفِ بدور الحكواتي في ليلة رمضانية من ليالي دمشق الرمضانية أو حتى دور المسحراتي، دور الراوي للتراجيديا الليبية والعربية على مدى أكثر من نصف قرن أخذ آبعادً وإيحاءات متعددة صاغها في ذلك النص المُكثّف والمتنوع في اللحن والمفردات لتأخذ بعُداً آخر وتتشكّل حسب الإيقاع والأغنية وإستحقاقات المرحلة بل قل كل المراحل التي عايشها الشاعر مموسقًا الإنتصارات والإنكسارات في صور التراث المحفورة في الذاكرة والمطمورة في ذاتنا العربية المتشظية بفعل الحروب والنكبات عبر قرون كانت الأمة خلالها خاضعة للإتراك ومستباحة للمستعمرين الغزاة، كان النجع بسلسلته المحكومة ببكائيات لا متناهية ما أن تتوقف حتى تعود مرة أخرى أقوى مما كانت عليه عندها يمكن لنا أن نُدرك أننا أمام راوي (شاعر)  من نوع آخر أكبر من أن يكون في زاوية صغيرة كونه هنا يصبح حقًا مكتسبًا لكل   القاطنين والناطقين بلغة الضاد  في العواصم العربية منها المهدورة الكرامة أو تلك التي تعيش وتحيا يوميات الموت والرصاص أو تلك التي تحولت كقواعد للأجنبي لتنفيذ مخططاته ... 

أمام شواهد الأضرحة والمقابر الجماعية وحال الخراب الممتد من مراكش للبحرين  والتي صار   الشاعر شاهداً عليها وموثقًا لحروفها الدامية وبعد أن صار كل شبر من الأرض العربية صورة يمثلها وينوب عنها النجع  في سردية متشحة بالجرح والألم  في ليل العرب  المتشح بالسواد الدامس الأشد حلكة .. كثافة النص في سلسلة النجع الممتدة لأكثر من ثلث قرن من الزمان يمكن لها أن تكون بمثابة حالة من حالات المسحراتي ظهراً لاستفزاز وايقاض النائمين على بطونهم والدجى من فوقهم حجر، حد وصف محمد الفيتوري وهي حالة شبيهه بتلك المهمة الصعبة التي عادةً ما يقوم بها المثقف العضوي حسب تعريف " أنطوني جرامشي " فيحملون الرؤى والأفكار والمشاريع الكبيرة العظيمة سائرين بشعوبهم وأممهم نحو مستقبل جديد وأفقًا آخر، المتتبع للمفردات في النص الشعري لعلي الكيلاني وقصائده المغُناة في النجع يكتشف من الوهلة الأولى في معظم المقاطع الشعرية لكلمات أغاني النجع أنها تحمل في مفراداتها النصية المكثفّة حالة تعرية للواقع المأساوي الذي صنعه الغرب في بلداننا العربية وبالأخص الحالة الليبية التي فرضتها طائرات الرافال وحلف شمال الأطلسي التي  قوبلت بالزغاريد وأطلق عليها ثوار الناتو طيور الأبابيل لتتضح الحقيقة بعد فوات الأوان أن الحالمين بالأبراج لم يكونوا سوى أحجاراً على رقعة الشطرنج تم التلاعب بها كدمى في لحظات الصراع الدامي بين البلاد وقيادتها التاريخية المناوئة لذئاب الغرب الجائعة والطامعة في البلاد ومقدراتها، حالة الصدمة التي تحدثها قصائد الشاعر على الكيلاني، وضعتنا بين خيارين لا ثالث لهما إما العودة إلى جادة الصواب وإما عدم الإنصات لصوت الحق والضمير وإدعاء الصمم هذه الوضعية المرتبكة لدى المتلقي لابد لها أن تنحاز ذات يوم إلى الحقيقة تحت عنوان عريض هو النادمون الذين استقبلوا الناتو بالورود كما استقبل أجدادهم ذات يوم موسليني وهتفوا مرحبين بكازي روما وبين الإستقبال الأول في سنوات الزحف الإيطالي على ليبيا والاستقبال الثاني لزحف وغارات الناتو تكمن العمالة وتولد منها المقاومة والرد من عمر المختار إلى معمر القذافي وجلاء القواعد الأجنبية وبقايا الفاشست كنتاج حتمي وطبيعي فرضته إرادة الفاتح من سبتمبر في لحظة إنكسار العرب في يونيو 1967 وبين الاستقبال الثاني وتداعياته المُرة يفرض النجع  بمفرداته التحريضية المتمردة  التي تجاوزت واقع النكبة في 2011 وحالة إنكسار في أوساط النخبة والعقل الجمعي شروط الإعتذار   الثاني التي بدأت تفرض نفسها على الديموغرافيا والجغرافيا الليبية وهذا الأمر سيكون هو الفيصل والمتغيّر بين مرحلتين مرحلة ماقبل الذكرى الخامسة والثلاثين لإنطلاق النجع ومرحلة ما بعد والتي بالتأكيد سيكون لها مفرداتها التي تتوافق معها مع حالة النصر التي باتت تلوح في الأفق أكثر من أي وقت مضى هنا ستصبح ملاحم غنائية خالدة مثل لولا الناتو ما طحتيش وبالسلامه يا بلاد تهني والعشر سنين اللي ضاعت م الليبيين الله يعوض وسلسلة مين يجرى يقول من بداية مؤامرة فبراير وحتى أخر منشور أو ملحمة ستبقى خالدة تتذكرها الأجيال كتذكرها لملاحم جهاد الليبيين ومعاركهم طوال أكثر من قرن من الزمان لا لكون الذاكرة مثقوبة لدى الجموع بل لأن انتصار النجع سيأخذ منحًا آخر في أفقًا آخر جرى إبداعه بإتقان وبمهنية رفيعة .