مع تتويجه بجائزة "فرانسوا شاليه" لدى الإعلان مساء أمس "الجمعة" عن أولى جوائز مهرجان كان السينمائي الدولي الذي يختتم دورته الـ71 اليوم "السبت" فإن الفيلم المصري "يوم الدين" يكون قد ترك علامة ثقافية إبداعية مصرية في المهرجان الدولي الأشهر للفن السابع بقدر مالفت الأنظار لأهمية "السينما المستقلة".

وجائزة "فرانسوا شاليه" التي تحمل اسم صحفي ومؤرخ سينمائي فرنسي يرجع تاريخها إلى عام 1997 وتمنح للأفلام ذات المضمون الإنساني الفني الرفيع المستوى وأصحاب الرؤى السينمائية التي تعلي من القيم السامية في الحياة فضلا عن القيم الصحفية النبيلة.

ومن قبل لم يستبعد بعض النقاد والمعلقين السينمائيين إمكانية فوز فيلم "يوم الدين" الذي ينتمي للسينما المستقلة بجائزة في ختام الدورة الـ71 لمهرجان كان السينمائي خاصة جائزة "الكاميرا الذهبية" المخصصة للعمل الأول المشارك في المسابقة الرسمية لهذا المهرجان الدولي فيما ذهب البعض حتى لإمكانية أن يتوج هذا الفيلم بجائزة "السعفة الذهبية" وهي الجائزة التي تمنح لأفضل فيلم.

واستند أصحاب هذه الرؤية المتفائلة للحفاوة الواضحة التي استقبل بها هذا الفيلم المصري في مهرجان كان السينمائي الدولي والتصفيق الحماسي من الحضور بعد عرضه لأول مرة في ظاهرة استثنائية يشهدها هذا المهرجان السينمائي الرفيع المستوى.

ويعد مهرجان كان السينمائي أكبر المهرجانات السينمائية في العالم فيما بدأت دورته الحالية في الثامن من شهر مايو الجاري وهي الدورة الـ71.

وإلى جانب الفيلم المصري "يوم الدين" الذي كان أغلب ممثليه بمن فيهم البطل من الهواة ولم يسبق لهم الوقوف من قبل أمام كاميرات السينما حتى وجدوا أنفسهم من المرشحين للفوز بجائزة في "كان" يتنافس أيضًا فيلم عربي آخر من لبنان وهو "كفر ناحوم" للمخرجة اللبنانية نادين لبكي التي حظي فيلمها بدوره بحفاوة واضحة من جانب الحضور في المهرجان الأشهر للسينما بتلك المدينة الساحلية الواقعة جنوب فرنسا.

وفي قسم "نظرة ما" الذي يقع خارج المسابقة الرسمية لمهرجان كان يشارك فيلم "صوفيا" للمغربية مريم بن مبارك وكذلك فيلم "قماشتي المفضلة" للسورية غايا جيجي بينما يشارك في قسم "أسبوع المخرجين" الموازي الفيلم التونسي "ولدي" للمخرج محمد بن عطية كما تشارك فلسطين بجناح خاص في هذا المهرجان السينمائي الدولي.

ولأول مرة منذ عام 2012 يشارك فيلم مصري في المسابقة الرسمية لمهرجان كان، فيما يحمل فيلم "يوم الدين" الذي يكاد أن يكون تمويله "ذاتيا" مضمونا إنسانيا ويتناول أوضاع المصابين بداء الجذام كفئة من البشر الذين ابتلوا بمرض ويتطلعون للاندماج في المجتمع وإن كان بعضهم قد اعتاد على الحياة بمعزل عن الآخرين.

ومع بعض الأفلام الهابطة فنيا وذات المضمون العشوائي التي استشرت في السنوات الأخيرة وكادت تنفرد بدور العرض والسوق تبدو "السينما المستقلة" في مصر هي الرد الثقافي الإبداعي على تلك الموجة الهابطة فيما يظهر اهتمام وحفاوة مهرجان كان السينمائي الدولي بفيلم "يوم الدين" مدى اهمية "السينما المستقلة".

وإذا كانت الثقافة قاطرة هامة للتنمية فان السينما المستقلة تتميز ثقافيا بخروجها عن "التسليع المعتاد والخط التجاري الاستهلاكي" كما تتميز بمحتوى إبداعي أكثر حرية وتعبيرا عن أفكار غير تقليدية ورؤى انسانية وقضايا مجتمعية حقيقية.

وفي "فيلم يوم الدين" الذي ألفه وأخرجه أبو بكر شوقي تتجلى معاني السينما المستقلة أو تلك الأفلام التي يتم انتاجها خارج منظومة الاستديوهات وشركات الانتاج والتوزيع الكبرى المتحكمة تقليديا في صناعة السينما وغالبًا ما تنتج أفلامها بميزانيات صغيرة وتكاليف محدودة بعيدا عما يعرف بالنجوم الكبار الذين يتقاضون اجورا فلكية.

ويطرح أبو بكر شوقي في فيلمه الروائي الأول رؤية فنية ثقافية تقوم على معايشة كاملة للمصابين بالجذام وهي رؤية تنحاز إنسانيا لضرورة اندماج هذه الفئة من البشر في مجتمعهم وتنقل مشاعرهم وآلامهم وآمالهم كما تسعى "لكسر رهاب الخوف المرضي لدى الكثير من الناس من الاختلاط بهؤلاء الذين كتب عليهم الإصابة بهذا الداء" بينما تؤكد دراسات طبية وتقارير منشورة أنه "بعد تعافي المصاب بهذا المرض بجرعات العلاج لبكتيريا الجذام لا يمكن ان يشكل مصدر عدوى لأي شخص آخر".

وبطل فيلم "يوم الدين" هو ذاته أحد من تعافوا من هذا المرض وإن بقت آثار المرض على وجه "راضي جمال" الذي يعرف طريقه للتمثيل لأول مرة في هذا الفيلم وربما لم يدر بخلده أبدًا من قبل إمكانية الظهور على الشاشة الكبيرة وكذلك الطفل أحمد عبد الحفيظ الذي قاسمه البطولة وحمل في الفيلم اسم "أوباما"!

ومن بين قلة تحترف التمثيل وظهرت في هذا الفيلم كان الفنان أسامة عبد الله الذي وصف في تصريحات صحفية فيلم يوم الدين "بالحالة الفريدة والمشرفة" منوهًا عن حق بأن الفيلم الذي صنعه المخرج الشاب أبو بكر شوقي "يوازن بين الفن والرسالة الهادفة".

ولئن اجتهد نقاد ومعلقون في تصنيف فيلم "يوم الدين" وذهب البعض إلى أنه ينتمي "للواقعية الإنسانية الجديدة" بينما يضعه البعض الآخر ضمن موجة تعرف "بالواقعية الإيطالية الجديدة" او ما يعرف "بالتراجيديا الكوميدية" فضلا عن كونه من "أفلام الطريق" فان المخرج أبو بكر شوقي قد لا يكون مهموما بالتصنيفات قدر اهتمامه بأن يلمس الفيلم قلوب الناس وأن يعرف الجميع الحقائق العلمية المتعلقة بمرض الجذام وآلام العزلة التي يكابدها من كتب عليه هذا الابتلاء متمنيا أن تتحول المراكز المخصصة لعلاج هؤلاء البشر لمستشفيات مثل أي مستشفيات أخرى.

ولا ريب أن هذا الفيلم المصري المفعم بمضمون إنساني بعيدًا إلى حد كبير عن المباشرة التي تخاصم الفن والإيقاع المشوق يشكل نوعًا من "الحساسية السينمائية الجديدة" كما يطرح مخرجه البالغ من العمر نحو 33 عاما رؤية للأمل عبر محاولة استعادة الجوهر الإنساني النقي وإن وقع هذا المخرج الشاب أحيانا في فخ الإسقاطات الفجة والأسماء التي قد تخصم من الرصيد الفني ولا تضيف لسرده السينمائي.

وفي سياق ما يثيره هذا الفيلم المصري من اهتمام واضح "بالسينما المستقلة" والشباب ودور الفن السابع في التغيير المجتمعي في راهن اللحظة المصرية فإن جذور ظاهرة صناعة السينما المستقلة ترجع في الواقع للسنوات الأولى من تاريخ السينما في العالم وتعود في الولايات المتحدة لعام 1900 تقريبا بينما كان رهانها على "جودة المضمون السينمائي".

وبدأت السينما المستقلة في مصر منذ نحو عقد واحد في ظل رغبة واضحة لدى فنانين موهوبين من الشباب في التحرر من قبضة الحسابات التقليدية للإنتاج النمطي والسينما التجارية التي تفضي أحيانا للابتذال وتتصادم حتى مع المعايير المتعارف عليها عالميا للسينما التجارية كصناعة لها قواعدها وآلياتها الواضحة.

و"السينما المستقلة" باتت تحظى بمكانة بارزة على مستوى التمثيل الدولي للسينما المصرية في العديد من المهرجانات السينمائية الأوروبية والعربية فيما تألقت اسماء ممثلين تاريخيين وشبابيين لهذا التيار السينمائي الطليعي بمهرجانات سينمائية مصرية كمهرجان الأقصر بأعمال مثل "المدينة" ليسري نصر الله و"كليفتي" للمخرج الراحل محمد خان و"بصرة" لأحمد رشوان و"الشتا اللي فات" لابراهيم البطوط و"هرج ومرج" لنادين خان و"فرش وغطا" لأحمد عبدالله.

ويبدو أبو بكر شوقي مدركا لأهمية عرض فيلمه المنتمي للسينما المستقلة امام الجمهور حيث قال :"دون الجمهور يفقد الفيلم مضمونه ورسالته وقيمته كعمل" يريد لفئة من البشر ان يعودوا كبشر عاديين.

وبتتويجه بأول جائزة تعلن في الدورة الـ 71 لمهرجان كان السينمائي الدولي يكون الفنان المصري الشاب أبو بكر شوقي قد نجح في تقديم "واقعية سينمائية مصرية جديدة للعالم بفيلم يمزج بنعومة وسلاسة مابين الأبعاد الاجتماعية والإنسانية ويبشر بمزيد من الإبداعات المصرية على المستوى العالمي في الفن السابع".

وفيما ترأس النجمة الاسترالية كيت بلانشيت لجنة التحكيم في هذا المهرجان السينمائي الأشهر عالميا كان المدير الفني للمهرجان تيري فريمو قد وصف فيلم "يوم الدين" بأنه "عمل فني فريد وشاعري" لافتا الى انه يثير أسئلة إنسانية كبرى مثل: "من نحن ومن هم الآخرون وما هو العالم ؟" فيما نوه بأن مهرجان كان ينزع نحو منح الفرصة للسينمائيين الشبان حول العالم.

وإذ أشار أبو بكر شوقي لعقبات مالية جمة اعترضت طريق إنتاج فيلم "يوم الدين" واستدعت جهدا كبيرا للتغلب عليها رأت المخرجة المصرية هالة لطفي صاحبة فيلم "الخروج للنهار" ان السينما المستقلة تحترم عقل المشاهد وتعبر في مصر تعبيرا حقيقيا عن قضايا المجتمع المصري وهمومه ومشاكله فهي تعيد الاعتبار "للفن بعد ان كادت التجارة تلتهم القيمة".

ومصر بصناعتها السينمائية العريقة شاركت في مهرجان كان منذ أربعينيات القرن العشرين بفيلم "دنيا" لشيخ المخرجين المصريين محمد كريم وبطولة سيدة الشاشة العربية فاتن حمامة كما عرف الفنان الكبير يوسف وهبي طريقه ضمن أعضاء لجان التحكيم منذ باكورة هذا المهرجان العالمي الذي يعد الراحل يوسف شاهين السينمائي المصري والعربي الأكثر حضورا فيه بأفلامه.

وفي دورته التي تختتم اليوم كرم مهرجان كان السينمائي المخرج المصري يوسف شاهين في ذكرى مرور عقد كامل على رحيله وعرض فيلمه الشهير "المصير" فيما توج شاهين في عام 1997 بسعفة الذكرى الخمسينية لمهرجان كان "اليوبيل الذهبي" عن مجمل أعماله السينمائية.

ومنذ نحو سبعة اعوام تسود مخاوف من تراجع صناعة السينما في مصر التي تعد الصناعة السينمائية الأبرز في العالم العربي غير أنه بعدما كانت قاعات العرض تستقبل أكثر من 70 فيلما سينمائيا فإن الإنتاج في السنوات الأخيرة لم يزد أحيانا عن 15 فيلمًا في العام الواحد.

وقبل نحو عقد كامل من فيلم "يوم الدين الحافل بمفردات الشجن والسخرية معا"، كان أبو بكر شوقي قد صنع فيلما تسجيليا قصيرا بعنوان "المستعمرة" يدور حول عالم المصابين بالجذام فيما كان هذا الفيلم التسجيلي القصير وما اقترن بها من حكايات على أرض الواقع حافزا لهذا الفنان المصري لصنع فيلم روائي حول العالم ذاته معتمدا على "الإبداع التلقائي لممثلين أغلبهم من الهواة الذين لم يسبق لهم التمثيل بل ولايعرفون القراءة والكتابة".

وفيما يرى نقاد أن الأفلام التسجيلية أو الوثائقية تنتمي للسينما المستقلة تواجه صناعة السينما في مصر "أزمة قرصنة الأفلام على مواقع شبكة الإنترنت" وبعض القنوات الفضائية بالتزامن مع عرضها في دور العرض السينمائي ما يهدد هذه الصناعة من وجهة نظر القائمين عليها في مصر بسبب الخسائر التي تقدرها غرفة صناعة السينما بـ100 مليون جنيه سنويا.

وواقع الحال إن السينما الشبابية المستقلة التي ينتمي لها فيلم "يوم الدين" قد باتت لاعبا أساسيا في المشهد الثقافي للفن السابع على مستوى العالم فيما أبدعت كاميرا الأرجنتيني فدريكو سيسكا في تقديم صور سينمائية مبهرة في الفيلم المصري الذي توج مساء أمس بأولى جوائز مهرجان كان السينمائي الدولي.

وحتى الإعلان عن بقية جوائز مهرجان كان في ختام دورته الـ71 اليوم "السبت" فإن السينما المصرية تمكنت عبر مبدع شاب ينتمي للسينما المستقلة من اقتناص فوز مبكر بأول جائزة معلنة في هذه الدورة التي ستبقى في الذاكرة الثقافية والفنية العالمية طويلا بعلامات متعددة من بينها فيلم "يوم الدين".

ومن ثم فان "السينما المستقلة" التي ينتمي لها فيلم "يوم الدين" يمكن بالفعل أن تقدم اجابات ثقافية إبداعية لتحديات جسيمة في صناعة الفيلم المصري وتعيد الاعتبار لسينما تحمل اسم مصر وثقافتها وقيمها وإبداعها.. فالمجد للإبداع الشاب الذي يتحدى شيخوخة الخيال ويأتي لنا ببرق إبداع مشحون بالفرحة!