العالم الذي يقف على قدم واحدة كلما تعلق الأمر بالنفط الليبي، عليه أن يحترم مشاعر الليبيين وأن يشعرهم بأن دماءهم أغلى من النفط، وأن يساعدهم على الإسراع بالحل الذي لا يكون إلا بحل المليشيات.

مرة أخرى عادت الاشتباكات إلى طرابلس، وحتما ستعود في مناسبات قادمة، وسيتواصل الصراع حول العاصمة المنهكة منذ أن خيم عليها ضباب “فجر الأوديسة” في العام 2011، طالما أن قوى داخلية وخارجية تتعامل مع سطح الأزمة، ولا تريد النظر إلى عمقها السياسي والاجتماعي والثقافي.

فالعالم قد يقف على قدم واحدة، إذا علم أن هناك من يستهدف المجلس الرئاسي أو المؤسسة الوطنية للنفط، أو البنك المركزي أو مؤسسة الاستثمار، أما أن يسقط المدنيون ضحايا لعنجهية المليشيات وأن ينقطع الماء والكهرباء وتنهار الخدمات الصحية والتعليمية وتشح السيولة، ويعم الفقر ويرتفع منسوب الجريمة وتتسع دائرة الفساد، فذلك غير مهم، حتى أن الحدث الطرابلسي بات في ذيل قائمة الأحداث التي تثير وسائل الإعلام، ولا تنظر إليها دول الجوار وعواصم الغرب إلا بقدر مصالحها.

وفي ظل فشل المجلس الرئاسي الذي جيء به إلى السلطة نتاجا مباشرا لاتفاقية الصخيرات الموقعة في ديسمبر 2015، وعجزه عن التحرر من سيطرة المليشيات التي اتخذت لنفسها موقع القرار الأمني والعسكري والقضائي، وحتى الاقتصادي والمالي، تحولت طرابلس إلى واجهة لحكم ميليشياوي غير قادر إلا على الإبقاء على البلاد داخل النفق المظلم، وإلى عاصمة لا صلة لها بليبيا الشاسعة الواسعة. فعلى امتداد البلاد هناك مدن تحكمها ميليشيات أخرى، ولها اقتصادياتها المحلية المبنية على تهريب النفط والسلع والبشر، وهناك مدن وقرى لا تعترف بالعملية السياسية من الأساس، بل ولا يُرفع فيها إلا علم النظام السابق، وهي لا تحصد من الوضع الحالي شيئا يذكر، فلا أمن ولا خدمات ولا سيولة ولا مشاريع ولا دواء ووظائف ولا يهم إن انقطع الكهرباء لأسبوع كامل مثلما حدث مؤخرا في الجنوب.

وإذا كانت المنطقة الشرقية قد رتبت أوضاعها، بحل الميليشيات وطرد الإرهاب وتعميم سلطة الدولة وتطبيق المصالحة الشاملة، فإن المنطقة الغربية ذات الثقل الديمغرافي، وعلى رأسها العاصمة طرابلس، لا تزال تتعرض للتجاذبات الخارجية والداخلية التي تحمل نذر الحرب المؤجلة، وهي حرب لا يحاول الفاعلون السياسيون أن يفككوا دوافعها قبل أن تندلع، ولا يسعون إلى التعامل مع مسبباتها بالوعي والحكمة.

خلال الأيام الماضية، اجتمعت القبائل الليبية من مختلف أرجاء البلاد في مدينة ترهونة، وأعلنت دعمها الكامل للواء السابع الذي انطلق من تلك المدينة الواقعة جنوب شرق طرابلس، رافعا شعار تطهير العاصمة من دواعش المال العام، وهو شعار يجد تعاطفا لدى الليبيين الذين ما انفكوا منذ سبع سنوات يراقبون بعين الأسف والألم، كيف تهدر ثروة بلادهم وتنهب خيراتها وتسرق مواردها، وكيف تحول أمراء الحرب إلى أثرياء يديرون ثروات بمليارات الدولارات في عواصم عدة، بينما تعاني عامة الشعب من ضنك المعيشة وضيق ذات اليد.

ودعم القبائل للواء السابع، أخذ منحى مختلفا عندما أكدت عليه من جهتها قبائل النواحي الأربع، أي المناطق المحيطة بطرابلس، وبات ينذر بأن أي مواجهات قادمة ستشهد اندفاعا من المدن والقرى لإسناد القوات القادمة من ترهونة، فإذا انضمت إلى المعركة ورفلّة وورشفانة والزنتان والمقارحة وبقية القبائل، فإن ذلك يعني أن كل الاتفاقيات السابقة ستذهب أدراج الرياح، وعلى رأسها اتفاق الصخيرات الذي فقد شرعيته منذ فترة طويلة ولا يزال يقوم بدور المسكّن لمرض قاتل.

في العام 2011، عندما اندفع العالم لإسقاط نظام معمر القذافي، لم يكن يعرف شيئا عن ليبيا، ربما كان فقط يعرف أنها ثرية بالنفط والغاز والمعادن، ولها أرصدة مهمة في المصارف الأجنبية واستثمارات كبرى في الخارج، وموقع استراتيجي مؤثر، وإلى اليوم لا يزال العالم جاهلا بطبيعة المجتمع وجغرافيا البشر، ربما لأنه لم يقرأ تاريخ هذا البلد الذي عرف أقدم الكتابات والمنحوتات، وشهد بناء أول أهرامات، وتحنيط أول مومياءات، وأطلق فكرة الخلاص من خلال إنجيل مرقس الليبي، وخاض أول حرب مع الأميركان خارج ديارهم أوائل القرن التاسع عشر، وأسس أول جمهورية في الوطن العربي وهي الجمهورية الطرابلسية في العام 1918.

وربما لأن الغرب لا يزال غير مدرك لأثر القبيلة في مجتمع كالمجتمع الليبي، رغم أن مؤشرات الوضع في المنطقة الشرقية تكشف عن دور القبائل في إرساء الأمن والاستقرار والمصالحة، وهو ما يعني أن الجهل الخارجي بالواقع سيصطدم في لحظة ما بموقف قبلي لن يهتم كثيرا بالتحذيرات الأممية أو بطائرات الاستطلاع الأميركية أو بالمواقف الفرنسية والإيطالية أو غيرها.

كان على المراقبين أن يستوعبوا معنى اتجاه اللواء السابع مشاة الذي يقول إنه تابع لحكومة الوفاق من ترهونة إلى طرابلس، وأن يلتحق به اللواء 22 التابع للقيادة العامة للجيش الوطني، منطلقا من نفس المدينة ليدعمه وأن تجتمع قبائل ذات مرجعيات مختلفة سواء محسوبة على سبتمبر (النظام السابق) أو على فبراير (الثورة)، على نفس الهدف وهو تحرير طرابلس من الميليشيات، فإن ذلك يعني أن على العالم أن يدرك أن المهدئات لن تجدي طويلا وأن التصريحات واللقاءات والوعود لن تقنع الليبيين.

العالم الذي يقف على قدم واحدة كلما تعلق الأمر بالنفط الليبي، عليه أن يحترم مشاعر الليبيين، وأن يشعرهم بأن دماءهم أغلى من النفط، وأن يساعدهم على الإسراع بالحل. والحل لا يكون إلا بحل الميليشيات ولوبيات الفساد، وبإخراج العاصمة من وضعها الحالي لتعود عاصمة لكل الليبيين.