بدأت العمل في المركز الطبي في 9 حزيران (يونيو) الماضي، في مدينة كايلاھون الواقعة غرب سيراليون بالقرب من الحدود مع غينيا. انضممت إلى فريق يضم 56 شخصاً من الطاقم الدولي وأكثر من 350 من الطاقم المحلي يعملون على مدار الساعة للحد من انتشار وباء «إيبولا». قابلت الأطباء الأكثر كفاءة فرحبوا بي وقدموا لي كل المعلومات والاحتياطات التي يجب الالتزام بها. وهنا دخلت منطقة شديدة الخطورة حيث قابلت المرضى الذين تم التأكد من إصابتهم بالفيروس. لم أكن تعاملت مع أيّ من الحالات المرضية للفيروس من قبل. اعرف جيداً طرق انتقال المرض وأساليب الوقاية كما أستطيع أن أخمّن كم من الصعب لـ «أطباء بلا حدود» أن توفر الحجم الهائل من الموارد البشرية اللازمة لمواجهة الوباء الذي يظهر للمرة الأولى في غرب القارة الإفريقية.

ومن خلال مراجعة التاريخ الطبي للمرضى يتضح إن الأسباب الرئيسة لانتقال المرض تكمن في الاختلاط المباشر مع إفرازات جسم المصاب، أو لمس جسد المتوفّى بالمرض. لذلك فإن عدم ملامسة الأسطح المعرضة للفيروس أو مصافحة الأيدي هما من القواعد الذهبية للوقاية.

وتوفر «أطباء بلا حدود» معدات الحماية الشخصية لجميع العاملين في المركز. وتتمثل هذه المعدات في السترة الصفراء التي لا تسمح بنفاذ أي هواء أو سوائل من الخارج إلى الداخل فضلاً عن زوجين من القفازات وزوجين من الأقنعة ونظارات طبية. والواقع ان معدل الشفاء من الوباء لا يتجاوز 10 في المئة على أحسن تقدير. لكن ما نجحنا في تحقيقه هو الوصول إلى نسبة شفاء قاربت 25 في المئة بفضل الرعاية الطبيّة التي تعنى بشكل أساسي بتدعيم المناعة البشرية ومساعدتها ليس إلا، أملاً بأن تعين صاحبها على مواجهة المرض، بالتوازي مع توفير معدل إرواء كاف من خلال السوائل الطبية والمياه.

ولم يكن مركزنا الصحي من المباني الخراسانية ذات الشبابيك الزجاجية العازلة كما قد يتصور بعضهم. كان عبارة عن 10 خيام كبيرة مزوّدة بمظلاّت للحماية من الشمس ومزوّدة بخزّانات للمياه وصيدلية صغيرة. وتبلغ القدرة الاستيعابية للمركز 84 سريراً، منذ أن بدأ العمل به في 26 حزيران وحتى يومنا تلقينا 606 حالات من بينها 391 مؤكدة وتم شفاء 140 منها.

أذكر الكثير من الحالات التي تم شفاؤها، ومنها طفلة تبلغ من العمر 22 شهراً فقدت معظم أفراد عائلتها بسبب «إيبولا» وجاءت إلى المركز في أول يوم عمل لي هناك. أخذت أول عينة مخبرية من إصبع يدها الصغرى للتأكد من إصابتها. وبالفعل كانت مصابة، وبدت مع ذلك في حالة جيدة إذا ما علمنا أن فرص نجاة الأطفال ضئيلة جداً. حاولنا أن نجد سريراً مناسباً لحجمها الصغير ولكننا لم نفلح. فما كان منا إلا أن أخذنا صندوقاً خشبياً صغيراً وصنعنا منه سريراً تستريح فيه. وكم فوجئنا ذات صباح حين وجدنا الطفلة خارج سريرها، وكانت قد قفزت منه في إشارة قوية إلى عزمها وإرادتها.

ومع مرور الوقت أخذت طفلتنا بالأكل والشرب وتمكّنت من الشفاء في شهر واحد وعادت إلى الحياة من جديد.

مريض آخر يصعب نسيانه ھو (س.ج) البالغ من العمر 55 سنة، ويعمل إمام جامع في إحدى القرى. كثيراً ما قابلته خلال الزيارة اليومية للمرضى وكان دائم الابتسام والهدوء. كان يبدو راضياً مطمئناً على نحو دائم، يستبشر بشفائه خيراً. وفي كل مرة أتحدّث اليه من خلال الأقنعة الطبية كان يميّز صوتي ويبدأ التحدث إلي بالقليل من العربية التي يعرفها. تم شفاؤه وقمت بملء الشهادة الطبية الخاصة به بنفسي.

وهناك أيضاً (ن.ج) البالغة من العمر 25 سنة التي فقدت طفلين بسبب هذا المرض. الأول يبلغ 6 أشهر والثاني 3 سنوات. إلا أنها، وعلى رغم هذه الكارثة العائلية الثقيلة، ظلّت قوية تحارب المرض حتى تماثلت للشفاء.

صحيح أن الصعوبات النفسية والبدنية كانت غالباً ما تطغى على كل شيء آخر. وبمجرد فقداننا أحد مرضانا كان الوضع يزداد صعوبة وقسوة. لكنني على رغم ذلك وجدت نفسي أتشبّث بصور من القصص المشرقة التي رويتها. ولا يمكنني أن أصف الإحساس الذي لا يزال يتملّكني كلما استرجعت لحظات كهذه من أمس قريب.

صور كانت تهوّن قسوة الواقع وتزيدني قوة وتفاؤلاً وإصراراً على بذل المزيد، خصوصاً عندما كنا نضطرّ للعمل فترات أطول لكثرة عدد المرضى وقلة الموارد. ولكن الغصّة هي في أن الطريق لا يزال طويلاً لكي تتم السيطرة على انتشار الوباء، الكثير من الموارد البشرية المتخصّصة والإمدادات الطبية لا تزال مطلوبة. وكلي أمل بأن يتوافر ذلك في القريب العاجل. هذا الأمل هو الدرس الذي تعلّمته من التجربة، فللحياة فرصة ما دام هناك أمل.

 

*الحياة اللندنية