لا ينكر أحد في الجزائر مدى حنكة الرجل وتاريخه ومساره الحافل باللحظات التاريخية التي زامن فيها عيش الجزائر في كل ظروفها -وإن كان بعيدا عن أرضها أحيانا-. هي حكاية حب السياسة والتفنن في رسم خيوط دهاليزها، أحيانا من وراء الستار وزيرا ومستشارة مقربا من أكبر رجل في البلاد وزعيمها الروحي حتى الآن "هواري بومدين" وأحيانا آخرى على خشبة مسرح الحكم الذي يصارع فيع "عبد العزيز بوتفليقة" الآن مرحلة أخرى حاسمة في تاريخ بلد المليون ونصف المليون شهيد ويصارع موازاة مع ذلك خصوما من على فراش المرض.

 

"بوتفليقة" الميلاد والجذور تؤرخ للوحدة المغاربية

ولد "عبد العزيز بوتفليقة" في ال2 مارس عام 1937 "بوجدة" المغربية ومكان مولده يوقع شهادات تحكي وحدة المنطقة المغاربية كلها حين زحفت عائلته إلى أراضي المغرب هروبا من نير استعمار تقاسمه البلدان الشقيقان فكان "وجدة" مسقط الرأس على الحدود مع "تلمسان" العرق والأصل. وظلت العائلة كذلك عدا ابنها الذي يبدوا أنه انخرط في عباب الكفاح مبكرا وجالس أعمدة الجهاد والنضال كالرئيس "هواري بومدين" الذي لازمه بعد الاستقلال وزيرا من أهله رغم أن لا قرابة في الدم بين "محمد بوخروبة" الاسم الحقيقي لبومدين المنحدر من محافظة "قالمة" شرقا و "عبد القادر المالي" الاسم الجهادي ل"بوتفليقة" المنحدر من أقصى غرب البلاد. ورغم أن المتفائلين بغد البلاد الجميل لا يحبذون مصطلحات الجهوية المقيتة –والتي تتجلى بعض منها حتى الآن في واقع البلاد المعاش- فإن كلة "جماعة وجدة" لها مدلول عن جهة الغرب الجزائري والمجموعة المسؤولة عن الناحية الخامسة العسكرية وما يجمعها من   إطارات عسكرية حكمت البلاد بعد الاستقلال. درس "بوتفليقة" حتى المرحلة الثانوية قبيل الالتحاق بجبهة التحرير الجزائرية وهو المستوى الكاف في ذلك الوقت أو أكثر لتقلد مناصب عليا في البلاد فقد تقلد في سنة 1962 العضوية في أول مجلس تأسيسي وطني  ثم عين وزيرا للشباب والرياضة وعمره لا يتعدي ل25 ربيعا وبعدها وزيرا لحقيبة أكبر: وزارة الخارجية التي بقي فيها ظل للرئيس حتى مماته عام 1978 وكان رفيق الدرب "بوتفليقة" هو من أبنه في كلمته مشهورة.

 

 المنفى الإجباري

كان اسم "بوتفليقة" مرشحا بقوة لخلافة الزعيم الراحل "هواري بومدين" ولكن رياح جناح العسكر الذي ورث ثقافة التحفظ (وفيما فسر مسح لكل رموز بومدين) أدرج على عجل اسما عسكريا لم يكن بذات الشيوع السياسي والبعد في النظر و الحكامة، فعين "الشاذلي بن جديد" رئيسا للبلاد فأمينا عام للحزب الوحيد جبهة التحرير الوطني التي كان "بوتفليقة" نفسه عنصرا مهمة في لجنتها المركزية ليجد نفسه مرغما ليس على مغادرة أروقة الحزب وحسب بل البلاد كلها ليختار منفاه في "باريس" و "سويسرا" فالخليج العربي عبر مراحل زمنية أشتغل في بعضها مستشارا وخبيرا ماليا في وقت كابدت فيه عائلته الأمرين. فبعد الاستقلال ودخولها من وجدة إلى تلمسان تنقل الشمل الملموم بعد الغربة القصرية إلى العاصمة الجزائرية رفقة الإبن الوزير لكنها وبعد نفيه وجدت نفسها منفية من الإقامة التي كانت تشغلها وزال رغد العيش في لحظة. وهنا يحتفظ "بوتفليقة" برد الجميل لكل من ساعد أمه وعائلته للحصول على بيت يؤويها وكل من زارها وواسها في فراق الابن "عبد العزيز" الذي بقي حتى عام 1987 ليدخل باب السياسة من جديد مع الحزب العتيد ويعود لعضويته و لمكتبه السياسي عام 1989.  

 

مراقبة السباق عن قرب

ظل "بوتفليقة" قريبا من أصحاب القرار والنفوذ بالبلاد التي عرفت عشرية سوداء دامية جعل المؤسسة العسكرية بصقور جنرالاتها تبحث عن المخرج (أو المجسد على الأقل للمخرج الذي طرحه الجيش). وكان أسم الحنكة قريبا وتقول الرويات إنه رفض رئاسة الجمهورية منتصف التسعينات لعدم قبوله الإملاءات ووقتها سير مجلس الحكم الانتقالي الذي تلى اغتيال الرئيس "محمد بوضياف" إلى غاية انتخاب "اليمين زروال" عام 1997 والذي بدوره دعا إلى انتخابات مسبقة عام 1999 فاز بها "بوتفليقة" وقال المرشحون الست الذي ترشحوا ضده ثم انسحبوا قبل يوم من الاقتراع إن الجيش أيده وسهل ولوجه للحكم.

 

"بوتفليقة" رئيسا للبلاد.

عرفت العهدة الأولى الرئاسية بعد عام 1999 حركية اقتصادية مشهودة ورغم ذلك زامنتها حالات الفساد و المحبات وتضييق الخناق على الرأي العام والصحافة بالبلاد. وعلى المستوى الخارجي ابهر الجزائريون بشخصية لم يكونوا ليعرفوا عنها كل هذا الدهاء السياسي خاصة الشباب. فبرزت الرحلات الماكوكية التي ربطت للجزائر جسورا قطعتها العهدة الدموية بها لتجد نفسها برفقة التكتلات العالمية الكبرى وضمن اجندة الزيارات الرئاسية ولقادة العالم حيث ما كانوا. ومع ذلك يرى متتبعون أن الرئيس لم يرق له اتهام البعض بمولاة الجيش له وبالتزوير فنظم حملة الاستفتاء حول "ميثاق السلم والمصالحة" الوطنية والتي يكون التصويت عليها بالغالبية إذانا بمشروعية عمله شعبيا وبعودة الآلاف المسلحين الذي صعدوا للجبال في مواجهة السلطة والشعب.

تسرد الولاية الثانية لحكم "بوتفليقة" للجزائر مواصلته لحملة الإصلاحات التي باشرها في خماسيته الأولى ومواصلة نهج الوئام المدني و مراجعة قانون الأسرة، و محاولة محاربة الفساد (والتي اظهر القضاء العالمي أنها الفساد خاصة في قطاع المحروقات بدأ في هذه المرحلة بذات). كما تسرد تعرضه للوعكة الصحية الأولى عام 2005 وما صاحبها من تشكيك في إمكانية مواصلة للحكم، لكنه تعافى بعد العودة من مستشفى "فال دوغراس" الفرنسي وصمد وواصل مهمة الحكم الذي تعرض فيه هذه المرة لمحاولة اغتيال سنة 2007 حين كان في زيارة عمل لمحافظة "باتنة" بعدما فجر انتحاري نفسه وسط الجموع اثر اكتشافه من طرف الشرطة.

أعيد انتخابه لولاية ثالثة في افريل 2009 بعدما اجري تعديلا دستوريا يسمح له بالترشح لأكثر من مرتين كما كان ينص عليه الدستور السابق، وهي نقطة الخلاف التي يرى فيها الآن منتقدوه لمواصلة عهدة رابعة كونها اغتصابا للحرية والديمقراطية وتجاوز للدستور ما فسر الحركات الاحتجاجية ضده والتي بدأت تتوسع جماهريا و أججتها أكثر تعرض الرئيس للمرض مرة ثانية إثر جلطة دماغية، و نقله مباشرة إلى مستشفى "فال دو قراس" العسكري في فرنسا مجددا، أبريل 2013 ثم نقل إلى مصحة "ليزانفاليد" بباريس في فترة إعادة تأهيل. واليوم وقبيل موعد انتخابي جديد للرئيس "بوتفليقة" السجال كما السؤال هل تكون الأحداث المتلاحقة مقبرة لتاريخ الرجل الحافل أو ستكون المرحلة المقبلة فترة رئاسية له ولو بإقتدار ولو على كرسي المرض حتى على الأقل كما وصف ذلك وزير الدولة مدير ديوان رئاسة الجمهورية "احمد اويحي" المعين مؤخرا و الوزير الأول السابق.