الملفت في زمننا هذا، أنّ الذين تشدّقوا كثيراً وعلى مدى سنوات من الاسترخاء على المنابر''باحترام الإختلاف، واعتباره طريقاً للاتفاق، وأنّ التباين دليل عافية، وأن المجتمعات البشرية لن تصل إلى سلام ما بقيت ثقافة واحدة تمارس القهر الفكري على غيرها''... هم ذاتهم نراهم الآن صامتين، كصمت قبورٍ مجرّدةً من جلال الموت، في مرحلة مفصلية تستوجب أقصى قدر من الإحساس بمسؤولية (الكلمة) وهي فاتحة التحوّل من الكائن البشري إلى الإنسان، إنها الكلمة التي يمكن أن تخرّب عالماً بأكمله، ويمكن أن تؤسّس لعالم بأكمله، وقد تكون الكلمة زيتاً يشعل السراج فيسطع الحق، أو قد تكون ماءً آسناً يطفيء كلّ ضوء...
إن كان الصمت ملاذاً للتأمّل، والغوص في الأعماق في لحظة معيّنة، فهو تواطؤ مُدان عند المنعطفات التاريخية، ومزرعةً لأوبئة الظنون، وجريرةً لن تغفرها الأيام. وإن كان دور المثقف هو مقاومة الشقاء والتخلف، والعمل على تحقيق العدالة فهل يجوز له أن يجلس في برج عاجي، أو أن يتقوقع في أوكار مظلمة بعيداً عن مجريات الحياة وأحداثها وحقائقها؟! أليس من أبسط واجباته أن يحرّك الساكن والراكد والمتكلس بقلمه، وبصوته، وبكل أشكال حضوره؟ وأن ينخرط في قضاياه في لحظة مصيرية؟ وأن تشغله هذه القضايا، ليجهر برأيه ويعلن رؤيته بنقاء وشفافية، غير عابيء بتبعات ما يجرّه عليه الجهر برأيه، أو الإنتقاد الذي قد يكون مرّاً؟ بخاصّة وأن الساحة مفتوحة على اتساعها للجميع والأيدي ممدودة... ولكن، ما أقصرها من فرحة! كفرحة حقل متعطشٍ لموسم المطر، فإذ بالغيث المنتظر يتجمّد، ويحرن، ويتصلب في غيمة لا تمضي ولا تنسكب، في لحظة، بل، وفرصة للحضور قد لا تتكرّر.
لقد انبهر الكثير من المثقفين بالعدو، وتعمق إحساسهم بالدونية، فسعوا لاجتذاب الأضواء من خلال تزييف الوعي، وضخ الذرائع والتحاقهم بأعداء الأمة، وبعضهم يزعم أنه يجري خلف الحرية دون أن يستوعبوا التغيرات، فلاكوا الشعارات الخبيثة، منتهكين حرية الأمة، يسعى بعضهم لتشجيع الاعتدال والحوار مع من يدعي المعارضة وهو مرتبط بالغرب والصهاينة، لجهل أو حسن نية، أو سوء نية، ولكن هل يصح هذا، والغرب موحد في الكيد لنا، يفتعل الذرائع ويجهز المطبات، فهل الحوار مع هؤلاء وأسيادهم جائز ومفيد يا ترى؟ إنه حوار الضحية مع الجلاد، أو الأمان للذئب في حراسة الغنم، إلا إذا اعترف الخطاة بخطئهم، وهذا محال بالنسبة للغرب.
بالتأكيد لست أطالب المثقفين بالمعجزات، ولكن كيف لمثقفين عرب أن ينقلبوا، عن قصد أو عن ضياع، من حالة اليسار (بكل أطيافه) والمشاركة في الأفعال القذرة لـ ''الإمبريالية'' التي حاربوها عقوداً... كيف تخلى هؤلاء عن ''وعيهم''، وعن ''حسّهم النضالي الوطني العربي''، وغابوا أو غيّبوا أنفسهم وعقولهم في وهم نظرية جديدة تقول إن: الحرية والديمقراطية يجب أن تتحقق حتى عن طريق الاستعانة بكل من ناضلوا ضده سابقاً، بل إلى استباحة الذاكرة والتاريخ...؟!
أعتقد أن أحد أهم الأسباب هو غياب ''الوعي التاريخي'' لديهم، والوعي التاريخي ليس فقط تراكم أعمارهم وعدد الشعرات الشائبات في رؤوسهم، وسمك زجاج نظاراتهم، إنما هو القدرة على قراءة عميقة ودقيقة ومستمرة للتاريخ عموماً، ولتاريخ الأوطان خصوصاً... لقد اعتقد بعض المثقفين المزيفين أنهم بالذهاب إلى أبعد الحدود في محاربة دولهم وشعوبها فهم بذلك يكسبون التاريخ، ويخلدون في ضمائر الناس، وهذا هو الفجور بعينه أو إنهم بذلك يصبحون ''مثقفين ثوريين'' أو''مثقفين نضاليين''، أو''مثقفين متحررين''، ناسين أمراً مهماً جداً هو أن ''المعرفة لا تولّد الأخلاق، وأن الأفراد المثقفين ليسوا بالضرورة أناساً صالحين'' كما يقول جان جاك روسو، وأن التاريخ، منذ الأزل، رغماً عن ''إنسانيتهم'' و''سموّ'' أهدافهم، يكتبه الأقوياء، ويذهبون هم أوّل ضحاياه. مشكلة هؤلاء المثقفين المزيفين، أنهم مفضوحون وإن لاذوا بعتمة الوضعيات الاستثنائية في تاريخ القلاقل والأزمات، إلا أنهم يمثلون بمواقفهم البهلوانية الانتهازية سلعاً مطلوبة لمن يحترفون سياسة التعجيل أو التأجيل، الإضمار أكثر من الإظهار، تمرير الأفكار والبرامج في الأوقات الحرجة الاستثنائية بتعلة الاستفادة المؤقتة من كفاءات هؤلاء الذين عوّدونا في كل حين على ألاعيب القول ورقصات الفعل وغدر اللغة بالتحايل على بلاغتها عند تحويلها من شرف الكيان إلى أكاذيب البيان... لهذا وذاك، فالأقلام والأصوات الصادقة، والقامات الكبيرة التي انتظرناها طويلاً، لتقود المشهد الثقافي العربي، وتعيد الوعي، والتي تعرّضت للتجفيف، وبعدها لمحاولة الاختطاف، والتي عليها نفخ الروح في فكر الأمّة العربية، مدعوّة اليوم، وأكثر من أيّ يوم لتظهر، وتعبّر عن حضورها... في لحظة إنقاذٍ لكل ما هو جميل على أرض الوطن العربي...
أسأل، وبكثير من الحزن والخيبة هؤلاء الذين انتظرناهم طويلاً، وأحببناهم كثيراً، ووثقنا بأقلامهم، وأفكارهم، ودافعنا عنهم، هؤلاء الذين بُحّتْ حناجرهم من الصراخ في المكان الخطأ، ونراها الآن تصدأ من صمتٍ مُريب، أم أنّه صمت مدفوع الثمن؟ حاشاكم... واعذروني... ما وأدتُ الشك فيكم، إنّما قد أجبرتموني، فأيّ حريق عربي بعدما حصل، ينتظر المثقف ليُظهر نفاسة جوهره، وقوّة جذوره الممتدّة خضرتها نحو السماء أكثر مما حصل؟! فمن الصعب على أي شعب على هذا الكوكب أن يدخل في إهاب اختلاط المفاهيم، وتشويش المعارف والثوابت ومنطق الوصول إلى شواطىء الأمن، والاستقرار، والأمل وتظل لديه الراشدة راشدة والحكمة حكيمة أو أن تتواصل إمكانيته في القبض على زمام أموره، وتحديد موقعه، والتحكم بوقائعه على أرضه التي فيها تعيين شروط وجوده، وحق تقرير مصيره، وفي مثل هكذا سلوك يكون الشعب مستهدفاً باسم الحرص عليه، ومطلوباً له الأغلال باسم البحث عن حريته، وزيادة عليه حين يتم تعريضه للعبة الأمم ستكثر المشاريع الرامية إلى تمزيقه باسم الخوف على وحدته، ونهبه بإسم تأمين معيشته، وقتله باسم الرغبة بطول عمره.
ومن غريب الحال ـ في هذا الزمن ـ أن يصبح العدو الذي هو السبب في كل مصائب الشعب والوطن العربي، المنقذ الوحيد له في كل محنة وقد قال الشاعر: ''فيك الخصام، وأنت الخصم والحكم. وعليه فالذي احتجز حرية الوطن العربي لقرون يصبح صاحب بوابات الحرية القادمة، وبيده مفاتيحها، والذي منع جميع أشكال إحقاق الحقوق، ودعم كل مشاريع الصهيونية منذ احتلال فلسطين... هو صاحب العدل والنوايا الطيبة، والذي لا يملك من مقومات السيادة واستقلال القرار هو الرائد، والقائد للشعب نحو السيادة والكرامة.‏
 
وإلى أين تصبح الإجابة مغطاة بألف احتمال، واحتمال، ويصبح الأمر عند حدود مقولة ''ومن نكد الدنيا على الحرّ أن يرى عدواً له ما من صداقته بدّ''، وفي سياق هذا الحال أصبحنا نسمع بوجوب تدويل القضايا العربية ووجوب التدخل العسكري في الدول التي لا ترضى عنها أمريكا وربيبتها إسرائيل، ووجوب تعريض جغرافيتها للتقسيم، وأصبحنا نسمع أن جبهة الحلفاء من العرب، أو من المسلمين لم يعد لها أي حاجة، وأن السيادة والاستقلال يضمنهما العدو التاريخي، والاستعمار الغربي الأمرو أوروبي المتصهين.‏ وعلى هذا الأفق الجديد مطلوب من العرب أن يطمئنوا، ويغتبطوا بروعة ما هو قادم، ومقدار ازدهارنا فيه وبخاصة حريتنا، وحقوق إنساننا، وأوطاننا. ومن عجب العجاب أن يصبح العدو صديقاً، ونحّول الصديق إلى عدو، وأن تصبح الحرية بوابة عبور للمستعمرين ومجال حضور لهم في بلادنا من جديد، وأن تصبح حقوق الشعب العربي مضمونة بيد غاصبيها، وأن نتعلم من الأعادي كيف يكون حالنا الذي يرضون عنه، وماذا علينا أن نفعل حتى نكون عند حسن الظن. فالحرية القادمة من الأطلسي هي ما أصبحنا نتمناها، والحرية القادمة من التتريك والعثمنة هي ما نتمناها... أما الحرية القادمة من الحوار الوطني العربي الذي يضمن وحدة الوطن والشعب والدولة لم تعد ترى من قبلنا، أو مسموح لنا فيها...

إن أهم صفة يجب أن يحملها المثقف اليوم، أن يعمل من أجل المستقبل الأفضل ويخطط له، فالكلمة بالنسبة له هي مسؤولية، يجب أن تقال ويتحمل تبعتها، نحن مهددون بالانهيار وفقدان الدولة العربية المدنية، مهددون بانهيار التعليم، وبالتالي انهيار القيم، مهددون بفقدان عمليات التثقيف المجتمعي، والوعي بالمشاركة السياسية، والوعي بالمواطنة، والوعي بحقوق المرأة والطفل، والوعي المتقدم بالحياة نفسها، وهذا خطر كبير يتهددنا وإن كان مفروضاً علينا، ليس أمامنا سوى الارتقاء بالمواطن من كل النواحي، لمواجهة التهديدات التي تواجهنا، هناك ضعف كبير في المناعة الوطنية العربية... يجب حماية الذاكرة من التلف والضياع، ومواجهة الأحقاد التكفيرية العمياء، والغربية الطامعة بالمقدرات وبالثروات، والسر الكبير في أوطاننا أنه قوي، وقوته غير متناهية، في القدرة على التجدد والولادة، من أشلائه ودمائه وقدرته على إعادة بناء وخلق نفسه باستمرار، وفي الوقت الذي يظن فيه الجميع، الأصدقاء والأعداء أنه انتهى، ينتفض من رماده كالعنقاء، ويمضي في تجديد عملية البناء وشق طريق المستقبل.

كاتب صحفي من المغرب.