مرّة جديدة، أجدني متورّطاً بمحاولات مجهدة في التفسير والتقاط المعنى، مرّة جديدة ترهقني، وأقولها بأسى، ترهقني أشكال التعبير السياسي التي من خلالها نسمع ونرى ونشاهد ما يجري في ليبيا، ونعاين سلوكيات مختلفة باختلاف من يسلكها، لكن الأكيد اليوم أنّ الأقنعة تتساقط باستمرار عن الوجوه الكالحة، المتآمرة على الشعب الليبي، حيث تغيب وجوه، وتظهر وجوه جديدة، إذ لم نعد نعرف، ونميز كيف ينتحل هؤلاء الصفة الوطنية وينتزعونها، ومن يمنحهم إياها… هل تاريخهم السياسي مثلاً، أم نفاقهم لعقود داخل النظام السياسي الليبي السابق، وتعبئة جيوبهم لسنوات طويلة...غريب أمر هؤلاء فهم يقولون ما لا يفعلون، لا دين يردعهم فهم منافقون مارقون، ولا قِيَم تضبط سلوكهم فهم مخادعون مُنحطّون، ولا حقيقة بها يلتزمون فهم دجّالون كاذبون، ولا شجاعة يمتلكون فهم جبناء مُدّعون، ولا يوجد في وجوههم ماء يُريقون، وليس لهم حياء فهم لا يخجلون، ولا على شَرف يحرصون... 


لقد امتلكوا أكاذيب اللسان وأفانين البيان وأخلاق الوضيع الجبان، فلا هم إلى ليبيا مخلصون، ولا على عرض يُحافظون، ولا لكرامة ينتصرون، ولا من عقاب الله العادل يخشون، ليبيا الوطن، الأهل، القيم، الأخلاق، الآخرة، كلّ هذه الأشياء لا وزن لها عندهم فيما يفعلون، وللحصول على المال كلّ شيء عندهم يهون، ولكن ما يزعجني ويوتر أعصابي، ويرفع الضغط في دمي، ويضعني في موقف المتحفز للشجار، في هذا الجو الغريب، الشاذ المتنافر هو سماع أولئك الذين يتربعون اليوم على مقاعد مكاسبهم المادية، وما اقتنصوه بالعلن أو الخفاء، من خلال مناصب استلموها، أو تجارة احتكروها، أو أعمال تهريب مارسوها، أو توسلٌ مطلق نافذة صغيرة وفرّت لهم مجال التسلل إلى المواقع الدسمة في هذا المكان أو ذاك، ولحس ما غرفته أصابعهم من تحت الطاولات، وما علق على أكمام قمصانهم من دسم صحون الموائد، وما اشتهته أنفسهم، وجاء موّضباً بالحقائب، أو ملفوفاً بأوراق دفاتر الشيكات، وكانوا في زمن نظام القذافي في صف الصامتين المتنعمين بما جنوه بعرق جبينهم، أو عرق...؟

كانوا في العهد الماضي يحنون ظهورهم، ويلوون أعناقهم، ويسبّلون أجفانهم، وتقصف ركبهم، ويتحدثون بصوت مرتجف في حضرة أصغر مسؤول من المسؤولين... هؤلاء هم اليوم نجوم الأزمة الذين يظهرون على بعض الفضائيات العربية والأجنبية كعاملين جدد فيها أو ضيوف على شاشاتها... وهم الذين تربوا وتربعوا وعاشوا النعيم في أحضان النظام السابق... وطبّلوا وزمروا له، وأشادوا بإنجازاته... وصفقوا وهتفوا لـ''انتصاراته''، وقبضوا مقابل ذلك المناصب والمواقع والجاه والأموال والرشا... وكانوا حين ينتقد البعض النظام ولو قليلاً، يصبون عليهم جام غضبهم واستنكارهم، ويتهمونهم بالخيانة ليس للنظام فحسب، بل لليبيا، لأن ليبيا والنظام كانا لهم واحداً... وفي سياق الاستعجال والارتهان والارتزاق كانوا يضيقون ذرعاً بالنقد، ولا يستطيعون التسامح معه أبداً، لأنهم على قناعة بشعار ''وافق ترافق''.

ويا ليتهم ظلوا صامتين متنعمين، ولم يركبوا موجة الموديلات الجديدة، والصرعات الجديدة، من نقد، وتعارض... وتسفيه، بدءاً بالحديث عن أخطاء، ومفاسد وتجاوزات، ارتكبت في المراحل السابقة واللاحقة، وكأنهم منها براء، أو أنهم بالحديث عنها، والعمل على تضخيمها، يحاولون إيهام الليبيين، أو على الأقل من لا يعرفهم، بنظافة أكفهم، ونقاء سريرتهم، ومظلومية أحوالهم، وما عانوه في سبيل الإصلاح، وتقويم الاعوجاج، والسير على الصراط المستقيم، وهم في الحقيقة والواقع، وما تشير إليه ثرواتهم، التي أبت إلا أن تطل برأسها... إما أنهم كانوا أكثر الناس استفادة وربحاً من أخطاء وتجاوزات هذه المراحل... وإما أنهم شاركوا فيها بكامل مجامع قلوبهم، ومجامع أيديهم، ومجامع جيوبهم، ومجامع ألوان حبر أقلامهم، ومن المعيب رفع رؤوسهم في هذه الظروف.

وإذا كنت في هذا السياق أستثني أولئك الأبطال الذين امتطوا المنابر البعيدة... والفضائيات القذرة... خيول سباق ومطاردة لملاحقة دجاجة باضت، ولم يشاركوا بأكل قشرة بيضتها، ويسفهون مرحلة كاملة من الإنجازات على أساسها... إن ما أعنيه ليسوا هؤلاء، بالتأكيد... بعد أن حسموا أمرهم كلياً... وباعوا أنفسهم لمن هو أكثر دونية وسفالة من الشيطان. إن ما أعنيه، وما أهدف إليه، هم أشخاص مازالوا يعيشون اليوم بين الليبيين... في القرى، وفي المدن، يثغون كالحملان في مكان، وينهشون كالذئاب في مكان آخر... ويتخذون من أحاديثهم الملوّنة بأصباغ النكد والشماتة... أسلوباً يتماشى تماماً مع رغباتهم، في استنساخ أنفسهم بأنفسهم... ولكن بهياكل جديدة، وملامح جديدة، بانتظار الفرصة المناسبة التي تمكنهم من دخول نادي الوجهاء أو الوزراء... طالما يملكون العدة اللازمة، كالمال، وتصنع الكياسة، وإجادة استخدام أساليب ''التلوّن''... أو دخول نادي المعارضة من خلال نبش أخطاء الماضي... التي يعرفونها جيداً بحكم مشاركتهم في إدارتها، والأكل من طبقها، والارتزاق باسمها، ناسين، أو متناسين أن هذه الأخطاء ما كان لها أن تكون لولا وجودهم، ووجود من هم على شاكلتهم في قلب معدتها الهاضمة. 

خلاصة الكلام: إن الشعب الليبي لن يمحى من الوجود، كما يطمع أعداؤه ويفعل تجار وسماسرة السياسة من أبنائه، ولن يعدم الوسيلة للنهوض حتى لو طالت معاناته وشقي ببعضِ من ذاته، ولن يصاب بزلزلة اختلال المعايير والقيم والسياسات إلى الأبد... إن الشعب الليبي سيصحو، ويخرج من محنته، ويضع حداً للطامعين به والمعتدين عليه، ولمن أوقعه في المحنة ولمن يريد له أن يتقزم ويتأبد فيها... شعب ليبيا لن يفنى ولن يهزم في حرب بين البُغاة والبُناة... فليبيا تاريخ وحضارة، وثمرة العروبة والإسلام، بالمعنيين الخاص والعام، منذ آلاف السنين وإلى أبد الآبدين... حيث ستبقى ليبيا تتجدد وتزدهر بعون الله وبقدرة أبنائه على الحياة.