في الوقت الذي تتعمّق فيه الأزمة الليبية مع مشاورات متسارعة لإجراء تغيير مرتقب على مستوى شكل السلطة التنفيذيّة من خلال حوارات مجلسي النواب والدّولة، وفي ظل تغييرات وزاريّة مهمة تجريها حكومة الوفاق في مناصب هامة، ومع تردّي الحالة الأمنية جنوبا حيث تنتشر المليشيات القبلية وتنهار بشكل كبير كل الخدمات والمرافق، وفي العاصمة طرابلس التي تعيش على وقع اتفاق هدنة هش بعد أسابيع طويلة من القتال، يبدو الحديث عن إجراء انتخابات قبل نهاية العام تماشيا مع مخرجات اتفاق باريس أمرًا صعب التحقيق، خاصة مع تصادم الأجندات الخارجيّة وتصارع مشاريعها ورؤيتها للأوضاع في ليبيا.

اتفاق باريس بدا عند توقيعه كانتصار ديبلوماسي كبير لماكرون وانتصارًا أيضًا للبعثة الأممية الساعية عبر مسارب اتفاق الصخيرات المتشابكة والوعرة الى حلّ الأزمة السياسية المستفحلة في ليبيا، المشهد في باريس حيث اجتمع الفرقاء الرئيسيون بشكل مباشر في حديقة الاليزيه ظهر، أيضًا، وفي البداية كخطوة جيدة إلى الأمام وكنوع من تحريك المياه الراكدة في مستنقع الأزمة الليبية الموحلة بالإرهاب والعنف والانهيار الاقتصادي والانقسام السياسي.

غير أنّ هذا الاتفاق، والذي حظي بدعم الأمم المتحدة، لم يحصل على الإجماع "الإقليمي" المطلوب، فايطاليا اللاعب المؤثر في الساحة الليبية، أعلنت رفضها وبشكل صريح لأهم بنود الاتفاق وهو إجراء انتخابات تشريعية ورئاسية قبل نهاية العام 2018، وبدأت تتحرّك على كل المستويات والأصعدة لعقد مؤتمر آخر منتظر في روما، والذي يبدو أنّه يحظى بدعم أمريكي ومن مختلف القوى الإقليمية المؤثرة في الصراع الليبي، ولكن ليس كل الأطراف الليبية الدّاخلية وعلى رأسها قائد الجيش الليبي خليفة حفتر .

وبغض النّظر عن الموعد، فإنّ الاتجاه نحو إجراء انتخابات تشريعية ورئاسيّة في ليبيا، يبدو نظريًا هو الحل الوحيد الذي يؤمن به الجميع للخروج من الأزمة التي عفّنها انقسام المؤسسات في البلاد، فشرعية الانتخابات هي وحدها الكفيلة بتنصيب سلطة تنفيذيّة وتشريعية لها كل المشروعيّة لتوحيد المؤسسات بما فيها الجيش والبنك المركزي.

وتحت هذا العنوان بدأ الجميع في التحرّك وعلى مختلف الأصعدة، من أجل كسب المعركة المنتظرة وإن لم يتحدّد موعدها بعد، وبقي رهينا لتطاحن مصالح القوى الخارجيّة، فالكل يبحث عن تدعيم أوراقه للفوز بهذا الرهان الأهم ربّما منذ العام 2011.

الإعلام ومنابر التحليل السياسي تتحدّث عن العديد الأسماء المترشّحة للرئاسة في ليبيا، وإن لم يتم بعد الاستفتاء على الدستور ولا توضّح معالم الدّولة القادمة ولا تقاسم الصلاحية فيها ولا حتى شكل نظامها السياسي، الذي يبدو أنه متجه نحو إقرار دولة جمهورية بنظام رئاسي.

أسماء متداولة كثيرة، أغلبها لم يعلن بعد ترشّحه بشكل رسمي ومعلن، ولكن يبقى الاسم الأهم ربّما (حتى على مستوى التداول الإعلامي) هو سيف الإسلام القذّافي نجل العقيد الليبي الراحل معمّر القذّافي، الذي ظل بعيدا عن الأضواء في محبسه من مدينة الزنتان الجبلية غرب البلاد، والذي ينظر له كثيرون كأحد الحلول التي يمكنها أن تساهم في إخراج البلاد من وضعها الرّاهن، في مقابل وجهة نظر أخرى ترفض عودته أصلا إلى الساحة السياسية.

 في مارس الماضي أعلن سيف الإسلام معمر القذافي ترشحه للانتخابات الرئاسية المقبلة في ليبيا من خلال ندوة أقامها المكلف ببرنامجه السياسي الإصلاحي أيمن بوراس وذلك عبر مؤتمر صحفي عقده في العاصمة التونسية تونس. وأعلن سيف الاسلام عبر هذه الندوة عما أسماه بوراس "برنامجا إصلاحيا ورؤية مستقبلية لتجاوز الأزمة الليبية".

وأوضح المتحدث بأن البرنامج يتمحور حول إعادة إعمار ليبيا بمساعدة دول الجوار، مبيناً ترحيب سيف الاسلام القذافي بكل النتائج وسيكونون طرفاً في الحياة السياسية من أجل إعادة بناء ليبيا. وهو تأكيد لما كان قد صرّح به المتحدث باسم القبائل الليبية وعائلة العقيد الراحل معمر القذافي، باسم الهاشمي الصول، في ديسمبر من العام الماضي من أن سيف الإسلام القذافي، ينوي الترشح للانتخابات الرئاسية المقبلة في ليبيا.
 

 
وقال الصول، في تصريحات صحفيّة حينها إن "سيف الإسلام القذافي، يحظى بدعم أكبر قبائل البلاد للترشح في انتخابات الرئاسة الليبية، المتوقع إجراؤها في منتصف العام المقبل (2018)، وسوف يعلن خلال وقت قريب ترشحه للرئاسة في ليبيا وهو أمر مؤكد ولا جدال فيه، وذلك عبر شاشات التلفاز وأمام جميع وسائل الإعلام، وسوف يتحدد موعد الإعلان خلال أيام قليلة".

هذه الطريقة في إعلان الترشّح خلّفت نوعا من الجدل حتى بين أنصار القذّافي نفسه، الذين اعتبر بعضهم أنّ إعلان الترشّح من خارج البلاد لم يكن صائبًا بقدر ما كان يجب أن يعلن عن هذا الترشّح وعن البرنامج السياسي المستقبلي من داخل ليبيا، في حين اعتبره آخرون "غير جدّي" حتى يظهر سيف الإسلام ويعلن بشكل شخصي وواضح ترشّحه للرئاسة ويطرح بنفسه برنامجه على الليبيين.

ورغم ما يحظى به  سيف الإسلام القذّافي من شعبيّة كبيرة في نظر تحاليل سياسية كثيرة ووفق تقارير مراكز دراسات وصحف كبرى، دعّمها الفشل الذريع لمنظومة "17 فبراير" ونتائجها وضخّمها الحنين لدولة القذّافي القديمة والحد الأدنى والرخاء الاقتصادي الذي كان يحظى به الليبيون، إلاّ أن عوائق كثيرة تقف أمام هذا التقدّم المفترض للانتخابات الرئاسيّة والعودة، بشكل معلن، الى الساحة السياسيّة في ليبيا.

وأهمّ هذه العوائق هي محكمة الجنايات الدّوليّة التي تطالب بتسليم نجل العقيد الليبي الراحل معمّر القذّافي على خلفية اتهامات تتعلّق بالحرب الأهلية في العام 2011، وتبدو هذه الإشكالية هي الكبرى أمام سيف الإسلام القذّافي الذي يتمتّع محليا بقانون العفو التشريعي العام والذي يجعله حرا بشكل كامل ويسقط عنه كل التتبعات القضائية السابقة في المحاكم الليبية، وهو ما خوّل له أساسا إمكانيّة الترشّح للرئاسة والعودة للحياة السياسية وتشكيل الجبهة السياسية لتحرير ليبيا ذراعه السياسي وغطاؤه "الحزبي" الذي يتحرّك تحته محليًا.

لا تبدو مشكلة الجنايات الدّوليّة مؤثرة في حد ذاتها في قضيّة الترشّح، لكن قد تبدو سلاحا يسهل توظيفه في "الدعاية المضادة" عند منافسيه الانتخابيين، ولكنها قد تظهر كمشكلة كبرى في حال فوزه بالرئاسة وان كان الأمر في نظر مراقبين قابلا للتجاوز والحل بالأشكال القانونية بعد ذلك أو ربّما حتى من خلال التسويات السياسيّة والدّيبلوماسيّة .

غير ذلك، هناك صف محلي معارض لترشّح سيف الإسلام القذّافي للرئاسة، أجسام سياسية مختلفة بخلفيات جهوية وأخرى إيديولوجية، وبغض النّظر عن تأثيرها من عدمه، غير أنها تمثّل أحد العوائق القائمة في طريق هذا الترشّح، وهي تعمل بشكل ضاغط اعلاميا وسياسيا وحتى اقليميا ودوليا في اتجاه الدّفع نحو سدّ الطرّيق في وجه نجل العقيد الراحل معمّر القذّافي.

في المقابل، وبحسب معظم القراءات والتحاليل والدراسات يبدو سيف الاسلام الأوفر حظا للفوز الفوز إذا تمت الانتخابات بشكل رسمي وتم الانتهاء من تجهيز الدستور وتوفير كل الظروف اللوجستية والأمنية وتحقيق كل شروط النزاهة والرقابة الدّولية والعربيّة والإفريقية، فالرّجل بحسب معظم التحاليل الصحفية والاستراتيجية المعتبرة، يحظى بالشعبيّة الكبرى في البلاد، منافسة مع قائد الجيش خليفة حفتر الذي حقق انجازات عسكرية مهمة في الاربع سنوات الماضية وأصبح الرجل الأقوى في الشرق الليبي والذي نجح كذلك في سحب كتلة هامة من أنصار النظام السابق، وهو الشيء الذي نجح فيه (بالمقابل) سيف الاسلام القذّافي كذلك بسحب رصيد كبير من أنصار "فبراير" الذين عاد بهم الحنين الى دولة والده العقيد الراحل معمّر القذافي بعد سنوات من الحروب والدمار والموت والانهيار الاقتصادي وتردّي الأوضاع المعيشية. 

غير ذلك، وإذا تم الاتفاق حول موعد الانتخابات وانتهت كل المسائل الإجرائية والتقنيّة وأعلن سيف الاسلام القذّافي ترشّحه بشكل معلن للرئاسة في البلاد، فان النقاش سيبقى قائما حول توازنات القوى في الساحة الليبية، السلاح، الجيش، المال، القبليّة، والإرث والسياسي وحتى الحنين القديم والوضع الراهن والسياق الإقليمي والمعادلات الدّولية ورهانات الدّول الكبرى ومخططاتها.. خليط كامل من الأشياء سيصبغ المعادلة وتحليلها.