شهدت السنوات الأخيرة تغيرات جذرية كبيرة في مفهوم اللغة ومن ورائها العمل الأدبي الذي هو مدين بوجوده الظاهري لهذه اللغة نفسها... ويرتبط التغيير ارتباطاً وثيقاً بالتطورات الجارية في ميادين علم اللغة والإنثروربوجيا والتحليل النفسي وفي حقول المعرفة. ومن دون شك نلحظ تداخلاً وتفاعلاً بين فروع المعرفة وتعد مسالة التداخل في فروع المعرفة مهمة ليس من اليسير انجازها وتحتاج إلى مزيد من الجهود والتفاعل مع فروع المعرفة الأخرى. والجديد في هذا الميدان لا يتأتى بالضرورة من إعادة صياغة كل حقل من حقول المعرفة وإنّما من خلال علاقته بالمادة وستنعكس هذه التطورات وبكل تأكيد على جميع النشاطات لذلك سوف لن يكون مفهومنا للغة استثناءاً لهذه القاعدة العامة. 

ويظهر هذا التطور في مجال اللغة وبكل جلاء في العمل الأدبي، وفي هذا المجال نذكر موضوعاً جديداً يتمثل بالنص، ولا تعد هذه المفردة جديدة ولكن ينبغي أن نأخذ بالحسبان ما تتضمنه فعلياً، وفي الحقيقة تتضمن مفردة النص بعض المسائل والافتراضات الرئيسة، وهنا نعني بالافتراضات في المجال القواعدي وليس المنطقي. ومن الأهمية بمكان أن نتفحص بعض المداخل والسمات التي هي مجازية حقاً وتشمل هذه المسائل التي نحن بصددها الأنماط الأدبية المختلفة والعلاقات والتعددية والتفرعات والقراءة وأخيراً المتعة. فالمدخل الأول يكمن في حقيقة أن النص لا يمكن دراسته بصورة منفردة وبعيداً عن العمل إذ يرتبط النص ارتباطاً وثيقاً بالعمل نفسه وليس من الممكن القول أن العمل قديم والنص حديث فالنتاج الأدبي لا يمكن تصنيفه طبقاً للتسلسل الزمني إذ سجل النص حضوره في كل الأعمال سواء أكانت قديمة أم حديثة ولكن بوسعنا أن نقول انه والى حد ما أن بعض النتاجات الأدبية المعاصرة تفتقر إلى النص الحقيقي ولكي نميّز المفهومين يمكننا أن نؤكد على أنّ العمل هو المادة وهو الجوهر في حين أن النص هو المنهج أو المنهجية التي بواسطتها يتم نقل المادة لذلك يمكننا أن نضع العمل تحت تصنيف المادة في حين أننا نضع النص في المجال المنهجي. 

والتمييز بينهما متماثل مع تمييز بين المصطلحين هما " الحقيقة والواقع" ومن الممكن أن نرى العمل في المكتبات والفهارس في حين أن النص يخضع للإثبات وبموجب قواعد معينة. وبناءاً على ذلك يمكننا أن نجعل العمل بأيدينا ولكن نحمل العمل في فكرنا وباللغة ومن الممكن التعبير عنه بحركة معينة في الخطاب ولهذا السبب يمكن وضع العمل على رفوف المكتبات ولكن ليس بوسعنا القيام بذات الشيء مع النص. ومن جهة أخرى لا يمكن للنص أن يتوقف في ناحية واحدة فقط إذ لا يمكن أن يقف عند الأدب بل يتعدى ذلك ليشمل كل المجالات. وفي الحقيقة يتسم النص بقوة دافعة فيما يتعلق بالتصنيف حيث لدينا لفيف من المؤلفين والمبدعين في مجالات عديدة مثل جورج باتاي الذي هو في الواقع روائي وشاعر وكاتب مقالات واقتصادي وفيلسوف إذن أين يمكن تصنيفه حصراً؟ 

من الطبيعي أنه كتب نصوصاً عديدة وإذا ما أثارت هذه النصوص مشكلات معينة فانه يعزى إلى الحقيقة وهي أن للنص حدود معينة، ومثال آخر الكاتب الفرنسي تيبودييه الذي اعتاد على التحدث عن الأعمال المحدودة وربما أفضل مثال ما كتبه الكاتب الفرنسي شاتوبريان حول "حياة رينيه" فقد وصلنا هذا النتاج الأدبي الرائع كنص مستقل ويكرر هذا النص القواعد الأساسية قبل العقلانية وقابلية القراءة. و من ناحية أخرى يمكن اكتشاف النص من خلال علاقته مع العلامة أو الدلالة وينتهي العمل مع المدلول، ولكن هنالك طريقتان للتعبير عن المعنى فأما أن يكون واضحاً وجليا أو أن يكون ضمنيا ونهائيا. ففي الحالة الأولى يعد العمل موضوعا في حين أنه في الحالة الثانية تفسيرا وتأويلا. وباختصار يعد العمل دلالة معينة والنص بدوره سوف يؤجل المدلول لان مجاله هو الدال. و يؤخذ الدال كمرحلة أولية للمعنى أو المدلول، ويتم إدراك العمل لغويا ويفهم حسيا ويتم تلقيه من قبل النص الذي هو في الحقيقة الطبيعة الرمزية للعمل. وهنالك سمة أخرى للنص وهي جمعيته حيث أنه متعلق بأكثر من نوع أو من الممكن أن نطلق على هذه السمة بالتعددية وهذا لا يعني أن للنص معاني متعددة وإنما هو الذي يقوم بإنجاز تعددية المعنى. وتعتمد هذه السمة على تعددية الدال لذلك يمكن مقارنة قارىء النص مع الشخص الذي هو في الطرف السائب، والذي يفهمه القاريء هو في الواقع أمر مضاعف ومتعدد، ويعزى ذلك إلى حقيقة أن هذه السمة متأتية من تنّوع غير مترابط وغير متناسق للمواضيع والمواد والألوان والحرارة والهواء وصرخات الطيور وأصوات الأطفال وغير ذلك ولا تعد هذه الظواهر مشخّصة ومفهومة بصورة كلية وإنما هي مثثالية من رموز معروفة لدينا وفي بعض الأحيان لدينا التناص وهو إدخال نص في نص آخر بحيث أن لا يؤدي ذلك إلى نوع من الإرباك مع المصدر الأصلي للعمل. أما المدخل الآخر المتعلق بالنص فهو التفرع الموجود، إذ هناك ثلاثة شروط ينبغي توافرها وهي تحديد اللفظ والتعاقب والملاءمة فتحديد اللفظ منوط بالعمل في حين أن التعاقب منوط بالأعمال الأخرى وأخيرا الملاءمة والتناسق بين العمل والمؤلف. 

وكما نعلم أن المؤلف هو الأب الشرعي للعمل وهو مالكه لذلك ينبغي احترام شرعية العلاقة بين المؤلف والنص. هذا فيما يتعلق بالعمل، أما فيما يتعلق بالنص فإنه من الممكن أخذه واقتباسه من دون كلام المؤلف (الأب) ونجد هنا فصلا مباشراً بين العمل والنص، وهذا يعني أنه بمقدورنا أن نقرأ النص دونما أية إشارة إلى مؤلفه، فإذا كان المؤلف روائيا سيكون بمثابة إحدى شخصياته، وفي الوقت نفسه يمكن أن نجد بعض الأعمال ونقراها كنص قائم بذاته، ومن السمات المهمة التي يجب التركيز عليها هي جودة العمل. فالمسالة لا تتوقف عند حدود قراءة العمل وإنما المسألة هي في الحقيقة تكمن في أن القاريء مجبر على تجاوز البعد الموجود بين القراءة والكتابة، إلا أن هذا البعد وهو في الواقع بعداً تاريخاً محضا، وفي هذا المجال يمكننا أن نذكر وجود اتجاهين اثنين في التعلم: الأول هو أن دور البلاغة يكمن في تعليم المرء الكتابة، في حين دور المدارس يكمن في تعليم القراءة، ولا تعني قراءة النص التلاعب به وبألفاظه، والتلاعب هنا نعني به النشاط الحقيقي الذي يمكن تمييزه عن الإصغاء. وهنا نجد نوعين من الأدوار الأول هو الأداء والثاني الإصغاء، ولابد من التميز بينهما فمثليهما مثل الشخص الذي يستطيع الإصغاء للموسيقى ولكن دون أن يكون قادرا على العزف على الآلات الموسيقية، ويكمن هنا تغيرا حقيقيا في الميدان، بسبب أن المفسّر يصبح مؤلفا شريكا إذ يقوم بوظيفة حقيقية تتمحور في إتمام المهمة التي يضطلع بها أما النص فانه يتطلب تفاعلا عمليا من لدن القاريء. ويمثل هذا الاتجاه تغيرا جذريا.

والسؤال المهم الذي يطرح نفسه هو: من الذي ينفذ العمل؟ وإذا ما استعرضنا تاريخ الأدب الفرنسي نجد أن ملارميه الكاتب الفرنسي سبق وأن طرح السؤال ذاته على الجمهور، وفي وقتنا الحاضر لدى النقاد القدرة على تنفيذ العمل لأنهم يمتلكون القدرة على التلاعب بالألفاظ، أما الفكرة الأخيرة التي يتوجب الوقوف عندها هي المتعة، إذ لا يخلو عملا فنيا أو عملا أدبيا من المتعة وليس من المعروف فيما إ ذا كان هنالك ما يعرف بالمتعة المسلية التي تتضمن التلذذ والسعادة التي هي الأمل الرئيسي في الحياة. و

مما لاشك فيه كان من أهداف رجال الأدب هو أن يمتّعوا القاريء، فالأخير سيجد المتعة لا محالة، وإلا فإن المسألة ستكون بمثابة مضيعة للوقت وهدرا في الطاقة وتبديدا للجهود. وفي الحقيقية تتطلب بعض الأعمال أكثر من قراءة كما يتطلب بعض المؤلفين قراءتين أو أكثر، وهكذا لعل بروست وفلوبير وبلزاك وحتى الكساندر دوما مؤسس الرواية التاريخية أفضل أمثلة على ذلك، إلا أن قراءة العمل لا تعني كتابته أو إعادة كتابته، فعندما نقرأ احد المؤلفين الوارد ذكرهم لا نستطيع أن نغير ما كتبوه، حتى أن من غير الممكن كتابة مثل هذه الأعمال العظيمة في الوقت الحاضر، أما بالنسبة للنص فانه يميل إلى الاستمتاع ويشارك النص عادة في اليوتوبيا الاجتماعية أي العالم المثالي الاجتماعي، ولا تشكل المسائل التي تمت معالجتها نظرية للنص وذلك لأنه ليس من السهولة بمكان إشباع هذه النظرية وإعطائها حقها، وعلى أقل تقدير أن الموضوع جزء من النظرية فالكلام عن النص لا يمكن أن يكون إلا نصا وبحثا ونشاطا نصيا ولذلك فان نظرية النص يمكن أن تتزامن مع ممارسة الكتابة.




كاتب صحفي من المغرب.