في أسطورة إلهامية، من الحكايات المؤسسة لسكان أستراليا الأصليين، يولد طفل بعينين واسعتين، واحدة من قمر في ليلة تمامه، والأخرى من شمس الصباح الأول. لقد منحته آلهة التراب، التي يقدسها السكان، معرفة عميقة بالعالم عبر فضاء الرؤية التي اتسعت حتى شملت الخنفساء الضئيلة، والجبل الشامخ، في استضاءة واحدة. لقد كان بإمكان الطفل أن ينظر إلى الأشياء في رائعة النهار، وفي عتمة الليل، بحدقتين من خرافة ربوبية باهرة.

وقررت الآلهة والناس أن ذلك حسن.

ولكن الطفل ذا العيون الواسعة يكبر ويصير رجلاً رائياً، ويلحق قلبه في رحابة الأفق بعينيه. تقول الأسطورة، التي تحولت إلى أغنيات ذات غواية خاصة، إن الرجل الرائي صار مع الوقت يتوجع بالعالم وجعاً لا تنفع معه الأعشاب الطبية، والرقصات السحرية، ومناشدة الأرباب. عينا الرائي وقلبه تسفران له عن حزن الأشياء في تفاصيلها اليومية وكينونتها الشاملة. إنه يرى الخنفساء وهي تسحق تحت الأقدام غير المبالية، والجبل البعيد وهو يتألم من أثر الريح والبرد، والزهرة وهي تذوي في الرامضة، ومياه النهير الصغير تتسنّهُ لما أوقف حجر سيرها عبر الوادي الضيق.

ولكن الرائي في القصة العتيدة ينقذ قلبه من أن يتفتت من الحزن بأن ينقش صور الموجوعين على النطوع المجففة، والصخور الملساء، وأجساد الرجال والنساء. فوُلِد الفن، فن الرسم والوشم والحكايات. ومن هذا يأوّل السكان الأصليون "الأبورّيجينيز" كل ثقافتهم السمعية والبصرية: الرائي الأول أراد أن يدجج قلبه ضد حزن عينيه!

وهكذا، كلما رسم الرائي نملة، أو ياسمينة، أو صخرة، نزع عنها وجعها الوجودي وأسلمه للوسيط الإنساني أو الطبيعي الذي استقبل النقش المقدس على جلده أو سطحه الحجري الأملس. لقد صار الرائي هو الشاهد على العالم، والحاضن لأشواقه، والباعث لمسرته اللذيذة.  

وفي حي لندني على الأطراف الغربية لمدينة البرد والامبربالية العتيدة، التي كُتب لسفنها وقراصنتها وجنرالاتها، أن يسلبوا سكان أستراليا الأصليين أراضيهم وتاريخهم وثقافتهم، يسكن راءٍ معاصر ناوش الوجع الوجودي الحديث، وجع العمال الذين سلبوا عملهم، والأرض التي انتهك هواؤها وماؤها، والروح التي اجتثت من فضائها وغلت في حبس المكان. وهو يرسم بالكلمات على جسد العالم حكايا الظلم والوله الإنساني و "الوحشة" Alienation التي قال عنها ماركس أنها سياق الكادحين الذين نهبوا القيمة التي أنتجوها بأيديهم فصارت لغيرهم أمام أعينهم المطفأة بنظم السوق ونسق الرساميل!

"سعدي يوسف" يشبه الطفل الأبورّيجينيز ذا العيون الواسعة. إنه يرى ما لا يراه الآخرون، أو يختارون، بانحياز أخلاقي مشوه، أن لا يروه. في عدن العربية/الكونية يضج الرائي بلحظة الوداع لحلم اشتراكي باهر:


مذ غادرتك الدلافينَ

أحسستُ أن الطريق الى حضرموت القريبةِ

أطولُ من لحظة النزعِ ...

أي الفراتات أختارُ

من بعد أن نضب الفلُ في بئر ناصر

قد كان لي زورق وأحترق

كان لي منزلٌ لم أغادره حتى غرق

فلأُقل لاتزوري المضافة

حين نثرنا الأراك

الأرائك

والدوم والسيسبان الرزين

ولاتتركي في دمي اليودَ والملحَ

لاتتركي في لهاث الرئة

بعض رملِك

وفي طنجة يرى قرنفلة، وحلماً، وعائشةَ في طيف بصري واحد:


وَشْـمُ القرنفُلِ

بالأمسِ

حينَ دخلتُ طنجةَ، طائراً، للمرّةِ الأولى

حسِبْتُ الأمرَ حلماً:

هل دخلتُ حديقةً؟

بيتاً من الزّلّيجِ والنارَنْج؟

غيمة سندس؟

وسألت عائشة الجميلة:

هل سأبني هَهُنا بيتي، صغيراً، بين رمل البحر والأعناب؟

هل سيكون لي أن أجمع الأصداف والأعشاب...

هل سأُحبّ؟

هل أمضي، فأمْضِي الليل من حان إلى حان؟

وهل سأكون مجنوناً بحـبّ، مثل حُبِّكِ...

أنتِ عائشةُ الجميلةُ

لا تقولي، الآنَ، شيئاً!

واترُكي لي قُدْسَ هذي اللحظةِ ...

اتـركي على شفتَيَّ وشماً من قرنفلةٍ ووردٍ

ثـمّ نامي ..


وفي قاهرة العروبة المكسورة يلتحف الرائي بالزمن الأبدي والإنسان:


ستكونُ لي بيتاً …

تلُفُّ رداءَها القطنَ المهفهفَ حولَ أضلاعي الرميمِ :

ألم تجيءْ لتنامَ ؟

كم طوّفتَ في الآفاقِ حتى لم تَعُدْ تدري بأيّ سقيفةٍ انتَ !

البلادُ وسيعةٌ أبداً

وضيّـقةٌ …

وأنتَ تدورُ

كالخذروفِ أنتَ تدورُ

ترمي حبْلَكَ امرأةٌ إلى امرأةٍ إلى امرأةٍ

وأنتَ تدورُ …

فلْتهدأْ !

أقِـمْ حيثُ النواقيسُ الغريقةُ في مياه النهرِ

حيثُ الصبحُ شمسٌ

حيثُ اللوتُسُ  الأبديُّ تمضَغُهُ الجواميسُ  ؛

اقترِبْ مني  …

ولا تجفَلْ

ألم تشعرْ بأن ردائيَ القطنَ المهفهَفَ حولَكَ ؟

الأبقارُ في الوادي

وأنت على جلاجلِها تنـــام …


إن سعدي يمعن في الأمكنة، والإنسان، والآلهة، بنفس النفاذ البصري المتوهج بالرؤى. إنه قدر أسطوري فاخر أن تكون الشاهد على رائحة الأمكنة ونبض الشوارع ونبوءات المرسلين الذين لم يُصَلِّ عليهم أحد لأنهم يعرقون، وحيدين في جموعهم، في الورش والمصانع وحانات النسيان:


الـمَــدْبَــغـــــة


سـُـلَّـمٌ ضيّقٌ ، وحديدٌ ، سيأخذكَ ...

السُّلَّمُ الضيِّقُ ، الحلَزونُ ،سيبدأُ من آخرِ المخزنِ .

السّترةُ الجِلْدُ ، ثَمَّتَ ،والشايُ أخضرَ ،

تلكَ الحقائبُ مفتوحةٌ ، كفِخاخٍ ،ستسقطُ فيها عجائزُ برلينَ ...

والشمسُ غائبةٌ أبداً

ربما تُحرِقُ الجِلْدَ )

يأخذك السلَّمُ الضيِّقُ ، الحلزونُ ، إلى السطحِ :

من ههنا تُـبصرُ الـمَدْبَــغــةْ :

شمسُ إفريقيا تتمهَّلُ ، حتى تغورَ عميقاً بتلك القدورِ المدوَّرةِ .

الماءُ يفقدُ ما هو للماءِ .

للماءِ رائحةٌ كالمجاري التي في الحميمِ

وللماءِ لونٌ ،

وللماءِ طَعْمُ الرصاصِ .

الرجالُ يدورون بين القدورِ ، عراةً إلى النصفِ .

كانت جلودُ جِمالٍ على السطحِ تَنْشَفُ

كان قطيعٌ من الماعزِ الغِرِّ ينزعُ أثوابَهُ قربَ ثورٍ بلا جثّــةٍ

أتُرى دخلتْ في القدورِ خيولٌ من الأطلسِ ؟

الشمسُ باردةٌ

شمسُ إفريقيا تتمهّلُ كي تُنْضِجَ الجِــلْـدَ

كي تتفادى سكاكينَــنـا بالغياب...


ولكن الرائي الأول حين يمعن في العالم فإنه بضرورة الرؤية يتخذ موقفاً حاداً تجاه الأشياء. إنه، حين يحدّق، يصير مناهضاً للمشهد الكوني، ومناوشاً لسياق الاحتكار والمراكمة،  ومستشرفاً لتخوم الإمكان، إمكان الإنسان وإمكان الحرية. في الأسطورة الأساسية فإن الرائي النايتيڤ native  يخرج عنه الكلام عفواً فيُخبر عن الفراشة التي ولدت هذا الصباح وستموت عند العصر لا أكثر، ويتكلم عن الغيمة التي أوجعها أنها لا تحمل من الماء غير أمنية، ويهذر عن الفتاة التي حُمّتْ بجسدها حتى كادت تصير قصيدة لا امرأة. وفي آخر الأمر، يصير الرائي العتيد مغنياً، ومغنياً فحسب. حتى أن قبائل الأبوريجينيز تسميه أحياناً الرائي وأحياناً المغني، واحتاج علماء الأنثروبولوجيا الغربية زمناً طويلاً لكي يكتشفوا أنهما، الرائي والمغني، خرافة مقدسة واحدة.


وهكئا هو سعدي يوسف، خرافة مقدسة واحدة: يغني لأنه يرى، وربما يرى لأنه يغني. أليس الغناء، الشعر، تحديقاً طويل الأمد في العالم.


كل هذا بينما آخرون: شعراء وفلاسفة وقوادون يبيعون الكثير من الكلمات، يختارون أن لا ينظروا، ربما لأنهم ولدوا أساساً، خارج الأسطورة، بلا عينين.


أما سعدي يوسف، الرائي الأول، فخرج من رحم "أبي االخصيب"، بقضاء البصرة العراقي، يتفرس بعينين فاتنتين إحداهما من دهشة الأرض والأخرى من غواية الإنسان


سعدي يوسف، الرائي الأول، لا يستطيع إلا أن يرى ... ويغني.


* كاتب ليبي  ... برلين 29 ديسمبر 2019