في سجن داخل قاعدة معيتيقة ، تديره ميلشيا قوة الردع تحت إمرة عبد الرؤوف كاره ، يقبع عالم الاجتماع الروسي ماكسيم شوغالي ومساعده من أصول أردنية سامر حسن ، منذ منتصف مايو 2019 ، عندما تم إعتقالهما في غرب البلاد ، بتهمة العمل على التأثير في نوايا تصويت الناخبين ، والاتصال بسيف الإسلام القذافي في المكان المجهول الذي يتحصن فيه
ما جعلني أتطرق للقضية في هذا الوقت بالذات ، هو أن جمهورية كومي وهي إحدى جمهوريا روسيا الإتحادية ، وتقع في الشمال الشرقي من أوروبا الشرقية ،شهدت الأحد الماضي انتخاب أعضاء مجلس الدولة ، وعددهم ثلاثون عضوا ، وقد ترشح للانتخابات عدد من الأحزاب من بينها  حزب رودينا ، ومعناه الوطن الأم ، وهو حزب ليبيرالي محافظ ، الذي اختار أن يدفع الى المنافسة باسم السيد شوغالي الى جانب مرشحين أخرين ، وكانت النتيجة أن الرجل القابع في سجن معيتيقة فاز ، بل وكان الفائز الوحيد من بين مرشحي حزب رودانا ، وأصبح عضوا في مجلس الدولة
قصة شوغالي الذي يعمل في مؤسسة حماية القيم الوطنية التابعة للمركز الفيدرالي للعلوم والتكنولوجيا بموسكو ، تحولت الى قضية رأي عام في روسيا ، الأسبوع الماضي انتظمت بطولة للفنون القتالة في مدينة سانت بطرسبورغ شارك فيها لاعبون كبار من خمسة دول وتم نقلها عبر الإنترنيت وشاشات التلفزيون ، وكان الهدف منها التعريف بالقضية والتعبير عن التضامن مع شوغالي ورفيقه ، وبالتزامن انطلق عرض الجزء الثاني من الفيلم الوثائقي الروائي الطويل حول القضية ذاتها ، والذي تضمن مواقف داعمة للسجين الروسي في طرابلس من قبل عدد من نجوم هوليوود من بينهم  فيني جونز وتشارلي شين ودولف لوندغرين
الجزء الأول من فيلم «شوغالي » والذي يمكن مشاهدته على مواقع الإنترنيت ، كان الأول من نوعه الذي يفضح حقيقة حكم الميلشيات في غرب ليبيا وما ترتكبه من انتهاكات مروعة في حق المدنيين ، وضد كل من يقع بين براثنها ، ويقدم  قصة الفريق الروسي الذي يقول أنه دخل البلاد بطريقة قانونية لإجراء دراسة علمية حول المجتمع الليبي ورؤيته للانتخابات وما قد تسفر عنه ، وهو أمر معتاد لدى المؤسسات الروسية ، ويروي تفاصيل تحركاته في الأراضي وكيف تم نقل شوغالي في سيارة معتمة من مكان ما ، وهو مغمض العينين الى حيث يقيم سيف الإسلام القذافي ، وكيف غادر العضو الثالث للفريق ، ألكساندر بروكوفييف ، الأراضي الليبية بكامل حريته ، ثم القبض على العنصرين الباقيين ، وبداية رحلة التعذيب والتنكيل في السجن تحت إشراف عبد الرؤؤف كارة ذاته ، والمساومات التي عرضها رئيس مجلس الدولة خالد المشري بإطلاق سراحهما مقابل تغيير موسكو موقفها من الصراع القائم في البلاد
فيلم « شوغالي » يصنفه النقاد الروس على أنه واحد من أهم الأفلام الوثائقية التي تم إنتاجها في القرن الحالي ، ومن يشاهده يدرك أن الجهة المنتجة كانت سخية في التمويل وخلق إطار للتصوير مماثل لمواقع الأحداث الحقيقية في ليبيا ، كما تم استقطاب عدد مهم من كبار الممثلين للمشاركة فيه ، ولكن أغلبهم وخاصة من العرب انسحب من الجزء الثاني بسبب التهديدات التي تعرضوا لها من قبل الميلشيات وقوى الإسلام السياسي في بلدانهم
في الجزء الثاني من الفيلم ترد إشارة على لسان أحد مسؤولي حكومة الوفاق بأن الهدف من الاستمرار في التنكيل بشوغالي هو اجباره على الاعتراف بأنه جاسوس روسي ، ولكن هل هو كذلك ؟ التفاصيل الدقيقة الواردة في الفيلم تؤكد أن الروس هم الأكثر اطلاعا على تفاصيل الحياة في ليبيا ، والأكثر معرفة بمرجعيات كبار المسؤولين وقادة وعناصر الميلشيات والجماعات الإرهابية ، وكذلك الأكثر قدرة على تفسير الأحداث المتتالية بما في ذلك التدخل التركي واضطرار الجيش للانسحاب من غرب البلاد
يقول الروس أن الجانب الأمريكي من خلال إدارة الأمن في سفارته بتونس كان له دور كبير في القبض على شوغالي ورفيقه سامر حسن ، والتحقيق معهما ، وإن أطرافا ليبية عدة تدخلت في القضية بحثا عن فدية تم تحديدها بمليوني دولار ، وإن محمد عبد السلام التريكي نجل وزير الخارجية في العهد السابق ، وهو من الشخصيات العامة في مصراتة قد جرى تكليفه بالاتصال بالروس ، ثم تم اعتقاله لاحقا ، وتعرض للتنكيل والصعق الكهربائي تحت إشراف وزير الداخلية المفوض فتحي باشاغا ، ما اضطر زوجته الى مغادرة ليبيا خوفا على سلامتها الشخصية  وهي حاليا مقيمة في روسيا
 عندما صوّت الناخبون في جمهورية كومي لفائدة شوغالي ورفعوه الى منصب عضو بمجلس الدولة ، رغم أنه ليس بينهم ، ولم يقد حملة انتخابية ولم يقدم برنامجا ما عدا برنامج حزبه ، طرحوا مسألة مهمة ، أساسها كيف سيتم التعامل مع منتخب لمنصب سيادي في بلاده وهو قابع في سجن بلد آخر دون محاكمة ؟ وما هي الضغوط التي يمكن أن تمارسها موسكو على سلطات الوفاق المتهالكة لإطلاق سراحه ؟
ربما هي سابقة في العالم ، أو ربما تكون من الحالات النادرة ، ولكن المؤكد أنها لن تمر في صمت ، وقد تكون أحد أبرز الملفات المطروحة في أية مفاوضات مستقبلية تجريها موسكو حول الأزمة الليبية سواء مع أنقرة أو مع واشنطن أو مع حكومة الوفاق ذاتها ، لأن المسألة بالنسبة للروس أصبحت تتعلق بالكرامة الوطنية ، فمن ينام على استفلت سجن معيتيقة ويأكل حفنة طعام رديء ويتعرض للتعذيب والإهانة هو مسؤول منتخب في بلاده ، وكرسيه في مجلس الدولة سيبقى شاغرا الى أن يتم الإفراج عنه وإعادته الى بلاده