دخل الاستحقاق الانتخابي الرئاسي في تونس مرحلته الأخيرة، بعد أن تبيّنت أغلب التحالفات والاصطفافات وراء المترشحين، الباجي قائد السبسي، رئيس الحزب الفائز بالانتخابات التشريعية، والمنصف المرزوقي الرئيس المؤقت المنتهية ولايته، المدعوم “خلسة” من طرف حركة النهضة الإسلامية، وسيدور الجزء الثاني من هذه الانتخابات يوم الحادي والعشرين من ديسمبر الجاري داخل تونس، فيما ينطلق التصويت يوم 19 من ذات الشهر خارج البلاد، في ظلّ ظروف أمنية حساسة زادها الوضع المتصاعد في ليبيا تعقيدا.

قبيل أقل من أسبوعين على تاريخ إجراء الدور الثاني من الانتخابات الرئاسية التونسية، أضحى من الجلي أنّ السباق سيكون على أشدّه بين المترشحين اللذين نالا ثقة التونسيين في الدور الأول، خاصة بعد أن أعلنت عديد الأحزاب عن مواقفها بشأن دعم أحدهما، حيث أعلن كلّ من حزب الحركة الدستورية الذي يقوده الوزير السابق حامد القروي وحزبا الاتحاد الوطني الحر وآفاق تونس الفائزان على التوالي بالمرتبة الثالثة والخامسة في الانتخابات التشريعية، عن دعمهم للمرشح الباجي قائد السبسي، الّذي حظي بدعم أحزاب أخرى مهمّة مثل حزب المسار وحزبي الخيار الثالث والحركة الوطنية التونسيّة، فيما يبقى موقف الجبهة الشعبية من دعمه رهين نقاش طويل انطلق منذ فترة داخل هياكل التكتل اليساري الأكبر في تونس.

لماذا تأخر موقف الجبهة الشعبية؟

في ما يتعلّق بالأسباب الكامنة وراء تأخر الإعلان عن موقف الجبهة الشعبية، قال زياد الأخضر النائب في مجلس نواب الشعب وعضو مجلس أمناء الجبهة الشعبية “إن موقف الجبهة كان حاسما في ما يتعلّق بضرورة قطع الطريق أمام رئيس الجمهورية المؤقت المنتهية ولايته محمد المنصف المرزوقي، لكنّ مسألة دعم الباجي قائد السبسي من عدمه ما زالت قيد الدرس، وقد انطلق الحوار حولها منذ مدّة لكن لم يصدر أيّ قرار نهائي إلى حدّ الآن”.

وكانت بعض الصحف التونسية قد نشرت، مؤخرا، موقفا عن السياسي فتحي الدبك، الذي قدمته كقيادي في حزب الـ”وطد” الموحد (أحد أهم الأحزاب المكونة للجبهة الشعبية والذي يشغل فيه زياد الأخضر خطة الأمين العام).

وكان الدبك قد أعلن، وفق ما نقلته وسائل الإعلام، عن مساندة حزبه للباجي قائد السبسي، حيث جاء في تدوينة أصدرها الدبك على صفحته على موقع فيسبوك: “لن ندخل في حملة مضادّة ولن أردّ على السبّ والشّتم واختيارنا التصويت للباجي هو موقف اتّخذناه في ظرف تاريخي تمرّ به البلاد، فالاستعمار التركي الأفغاني على الأبواب، ولا يمكن أن ننسى أنّنا دخلنا سابقا مع حركة نداء تونس في إطار تحالف وأسسنا جبهة الإنقاذ”، وأضاف: “الشعب التونسي يعرف الوطد، ونحن بدورنا لن نكون على حياد و لن نخفي رؤوسنا تحت الرمال، فيوم الانتخاب سنصوّت ضدّ القتلة وسننحاز إلى دماء الشهداء”.

غير أن زياد الأخضر نفى أيّ علاقة لحزبه بفتحي الدبك، مشدّدا على أن حزب الـ”وطد” الموحّد لم يُصدر أيّ قرار منعزل عن مواقف الجبهة الشعبية في هذا الموضوع، وكشف أنّ الخلاف حول مسألة دعم الباجي قائد السبسي من عدمه هو خلاف لا يُعدّ مصيريا ولن يفسد للود قضية، على حد تعبيره.

من جهتهم يرى مراقبون، أنّ الجبهة الشعبية التي تكاد تعلن عن ذات الموقف الذي أعلنت عنه حركة النهضة الإسلامية في الدور الأول (التزمت الحياد وتركت الحرية لقواعدها لتنتخب المرشح الذي تريده في ظل تواتر أحاديث ودلائل على دعمها للمرزوقي من خلال تسخير مراقبيها له والقيام نيابة عنه بحملته الانتخابية في العديد من مناطق البلاد)، حيث أنّ الجبهة في نظر ذات المراقبين، وبعد أن أعلنت في وقت سابق أنها لن تدعم المرزوقي ولن تصوت له، إنّما هي قد أعلنت ضمنيا دعمها للباجي قائد السبسي، غير أنّها لم تستطع قول ذلك صراحة هذا لهشاشة بنيتها التنظيمية، وهي الحديثة من حيث النشأة (2012) ولطبيعة الأيديولوجيا “الثورية” التي استقطبت على أساسها قواعدها (وأغلبهم من فئة الشباب غير المتمرسين على نواميس السياسة ومناوراتها وقواعد لعبتها القاسية أحيانا)، وهو ما يهدد بانفجار الجبهة وتشرذمها إذا ما اتخذت قرارا صريحا بدعم السبسي، الذي يبدو صاحب الحظوظ الأوفر للفوز حتى دون إعلان الجبهة عن موقفها ذاك، وفق رأيهم.

من يدعم المرزوقي؟

في الجهة المقابلة تدعم أحزاب قريبة من “الترويكا” الحاكمة سابقا المرشح محمد المنصف المرزوقي، وهي في أغلبها غير ممثلة في البرلمان الحالي، بينما تقف على الحياد في هذه المعركة الانتخابية أحزاب مثل الحزب الجمهوري وحزب التكتل وتيار المحبّة، فيما يذهب محلّلون إلى أن موقف حركة النهضة، مازال يكتسي صبغة الدعم المقنّع للمرزوقي حيثُ أنّ مجلس الشّورى الذي انعقد مؤخرا، اتّخذ نفس الموقف المذكور سلفا، والذي اختارته الحركة في الدّور الأول من الانتخابات.

ويرى متابعون أنّ موقف النهضة غير محايد وأنّها تناور سياسيا بعدم تحديد موقف واضح وصريح من الانتخابات الرئاسية، حيث أن خطابات قياديّيها تتميز بمصطلحات تتعلق بـ”التّغوّل” وعودة الاستبداد وحكم دولة البوليس، وهو توجيه ضمني لناخبيها نحو التصويت لصالح الرئيس المنتهية ولايته. غير أنهم يشيرون بالمقابل إلى أنّ ناخبي النهضة وحدهم لن يمكّنوا المرزوقي من الصمود أمام السبسي الذي بدا في الآونة الأخيرة محلّ إجماع لدى معظم التونسيين.

ما هو الوضع الأمني قبيل الانتخابات؟

لا يخفى على أحد من المتابعين أن الحملة الانتخابية التي تمّ الإعلان عن انطلاقها، أوّل أمس الإثنين، ستكون حامية الوطيس بين مناصري المرشحين، ممّا ينبئ بأنها يمكن أن تخرج عن سياقها السلمي في بعض الأحيان وهو ما يستدعي احتياطات أمنية مكثفة.
كذلك وفي سياق متصل يبدو، حسب الأخبار الأخيرة القادمة من الجنوب الشرقي لتونس حيث الحدود مع ليبيا، أنّ الصراع بين الفصائل الليبية المسلحة قد اشتدّ في الآونة الأخيرة غير بعيد عن الأراضي التونسية، وهو ما من شأنه أن ينعكس سلبيا كذلك على سلامة الجو الانتخابي ويشتت جهود وحدات الأمن والجيش.

في هذا الإطار، قال بلحسن الوسلاتي، النّاطق الرّسمي باسم وزارة الدّفاع التّونسيّة، في تصريح لـ “العرب”: “إنّ كل الأطراف في تونس وليبيا على حدّ سواء، تسعى إلى تحييد تونس عن الصراع الجاري هناك، فبالإضافة إلى الحياد الحقيقي الذي أعلنته تونس، فإنّ الأطراف الليبية تعتبر أنّ أمن تونس هو بمثابة خطّ أحمر لأسباب عديدة، أهمّها اعتبار أنّ الأراضي التونسية توفّر الملجأ للعائلات الليبية من كلّ الأطراف المتناحرة، وفق تعبيره.

وبخصوص الوضع الأمني العام في البلاد مع انطلاق الحملة الانتخابية، قال بلحسن الوسلاتي “إنّ البلاد قطعت شوطا كبيرا في حربها ضدّ المجموعات المسلحة، والعناصر الأمنية والعسكرية الآن تمسك بزمام المبادرة في مقابل تشتّت المجموعات المسلحة إلى مجموعات صغيرة مكوّنة من عنصرين إلى ثلاثة عناصر”.

*نقلا عن العرب اللندنية