خسائر متتالية،معاقل سقطت،قيادات قتلت وأخرى وقعت في الأسر،تلك هي حال تنظيم "داعش" في ليبيا الذي نجح في السيطرة على عدة مناطق ليبية مستغلا حالة الفراغ الأمني والفوضى التي شهدتها ليبيا في أعقاب التدخل العسكري الغربي في البلاد في العام 2011،لتسقط عقب ذلك معاقله وينتهي نفوذه،لكن التنظيم بالرغم من ذلك مازال يؤكد على وجوده في الأراضي الليبية في محاولة لاثبات قوته.

وعاد تنظيم "داعش" مجددا الى الظهور في الجنوب الليبي،الخميس،وذلك عبر إصدار مرئي جديد لعملياته الإرهابية جنوب غرب ليبيا بعنوان "وأخرجوهم من حيث أخرجوكم".وتضمن الإصدار الجديد ومدته 30 دقيقة، مشاهد اعدام جماعية بالرصاص والذبح لمواطنين ليبين يعملون في جهات أمنية وحكومية بسبب تأييدهم للجيش والحكومة في مناطق غدوة والفقها قرب الجفرة وسبها.

كما شملت عمليات تنظيم داعش التي لم يحدد وقت تنفيذها في الإصدار، مشاهد اقتحام وحرق بيوت ومرافق حكومية تهديدات من عناصر التنظيم بالقتل لمن وصفوهم بـ "المرتدين" ومؤيدي الطواغيت في إشارة لحكومة الوفاق والجيش الليبي.وأظهر الفيديو، أيضًا سيارات تحمل آليات عسكرية تحمل أشخاص يرتدون ملابس سوداء يسيرون في منطقة صحراوية إلى جانب عناصر ارتدوا ملابس عسكرية حملوا رشاشات في أيديهم.

ويبدو من لهجة عناصر التنظيم وهم يتحدثون في الإصدار المرئي انهم من جنسيات ليبية وعربية وافريقية مختلفة، حيث قال أحدهم، إنه "على أرض الخلافة في ليبيا" وأنهم يطهرون البلاد من كل الكفرة والمتمردين والخائنين الذي يتبعون حفتر والجيش بحسب زعمهم، محذرًا أي شخص يدافع عن الجيش بأن مصيره سيكون النار في الدنيا والآخرة.

ويبدو واضحا أن التنظيم الارهابي أراد من خلال الاصدار المرئي الجديد ارسال رسالتين،الأولى لأنصاره مفادها أنه مازال قويا في محاولة لتحفيزهم وأيضا لاستقطاب مقاتلين جدد،أما الرسالة الثانية فهي موجهة لليبيين وذلك من خلال مشاهد القتل والذبح المروعة والتي يهدف من خلالها التنظيم لنشر الخوف والفزع بين السكان أسوة بما كان يفعله سابقا في مناطق سيطرته بهدف تدعيم سطوته والنيل من عزيمة كل من يحاول الوقوف في وجهه.

سلاح الاصدارات المرئية ليس بجديد على "داعش" فالتنظيم الارهابي ومنذ صعوده إلى الواجهة صيف العام 2014،اتخذ من الآلة الإعلامية لنشر فظائعه التي دشّن بها حضوره وسيطرته على رقعةٍ جغرافيةٍ كبيرةٍ وإعلان دولته عليها. ومنذ ذلك الوقت لم يقتصر دور الإعلام الداعشيّ على تضخيم صورة التنظيم وإمكانياته وحسب، بل سعى من خلال تقنيات الصورة والصوت ووسائل التواصل الاجتماعيّ المتاحة لاستقطاب المقاتلين وتدعيم قوته.

وتلقى "داعش" ضربات موجعة في أكبر معاقله في سوريا والعراق وسقطت خلافته المزعومة وتتالى سقوط قياداته وصولا الى مقتل زعيم التنظيم أبو بكر البغدادي،في عملية عسكرية أمريكية فجر يوم الأحد الموافق 27 أكتوبر 2019 في الريف الشمالي لمحافظة إدلب في سوريا، بعملية إنزال جوي أشرفت عليها وكالة الاستخبارات الأمريكية ونفذتها قوات خاصة من الجيش الأمريكي.

وبالرغم من أن مقتل البغدادي مثل ضربة قوية لتنظيم "داعش"،الا أن الكثير من المراقبين اعتبروا أن تأثيرات مقتله على فروع التنظيم المنتشرة في عدة دول أبرزها ليبيا،لن تكون قاصمة مشيرين الى أن الخلايا الموجودة في ليبيا على سبيل المثال لا تحتاج لقيادة لتنفيذ هجمات ارهابية في البلاد.ويدلل هؤلاء على ذلك بهجمات متعددة شنها عناصر التنظيم في عدة مناطق ليبية منذ انسحابه إلى الصحراء بعد خسارته في عام 2016 مدينة سرت الساحلية معقله الرئيسي وسقوط أغلب قياداته.

ويأتي الاصدار المرئي الأخير بعد أكثر من أسبوعين على اصدار مرئي آخر ظهر فيه عناصر فرع تنظيم داعش في ليبيا وهم يبايعون أبي إبراهيم الهاشمي القرشي الذي أعلنه التنظيم زعيماً جديداً له بعد مقتل أبو بكر البغدادي.ونشر التنظيم، صورا لنحو 32 مقاتلا في أماكن مختلفة من ما أسماه "ولاية برقة" وكتب أسفل الصور "جانب من بيعة جنود الخلافة لأمير المؤمنين الشيخ المجاهد أبي إبراهيم الهاشمي القرشي" بتاريخ ربيع الأول 1441 هجري.

وقبل ذلك بث تنظيم "داعش" الإرهابي،في يوليو الماضي إصدارا مرئيا،تحت عنوان "العاقبة للمتقين"،بثته الأذرع الإعلامية للتنظيم حيث أظهر عددًا من مقاتليه في بقعة صحراوية يرجح أنها في ليبيا.وتوعد التنظيم الارهابي في الفيديو بمواصلة ما أسماه الجهاد في ليبيا.وهو ما اعتبره مراقبون محاولة دعائية جديدة من التنظيم لاثبات وجوده في الاراضي الليبية.

وظهر في الفيديو شخص يدعى "أبو مصعب الليبي" كمتحدث رئيس والذي من المرجح أن يكون "محمود مسعود البرعصي"، وفقًا لمصادر إعلامية ليبية.وجدد مقاتلو التنظيم مبايعتهم لأمير التنظيم (أبوبكر البغدادي) في الفيديو مؤكدين استمرار قتالهم لما أسموه "ملل الكفر".وظهر في الفيديو عشرات العناصر وبحوزتهم سيارات دفع رباعي مسلحة وغير مسلحة، معظمها سرقت من "تمنهنت" في وقت سابق، وهم يحملون أنواعًا من الأسلحة الخفيفة والمتوسطة مثل بندقية "الكلاشنكوف" وقاذف الـ"آر بي جي" ورشاش الـ"14.5" المضاد للطيران.

وتأتي هذه الاصدارات المرئية في محاولة من التنظيم لرفع الروح المعنوية لعناصره والايهام بقوته خاصة في ظل الخسائر التي مني بها خلال الغترة الماضية واستمرار ملاحقة عناصره من قبل الجيش الليبي ناهيك عن تواصل استهدافه من قبل قوات القيادة الأمريكية في أفريقيا "الأفريكوم"،التي أعلنت خلال شهر أكتوبر الماضي،شن 4 غارات جوية على الجنوب وخاصة مدينة مرزق، دمرت فيها مخابئ لتنظيم الدولة وقتلت العشرات من عناصره بينهم قادة بارزين.

وكان الجيش الوطني الليبي، أطلق خلال شهر يناير الماضي، عملية عسكرية واسعة لتطهير منطقة الجنوب من العصابات التشادية والسودانية، وملاحقة تنظيم داعش، ضمن مهمة جديدة لضبط الأمن في البلدات الجنوبية.وجاء الإعلان عن العملية، بعد تحركات عناصر تنظيم داعش في المنطقة، التي تمثل ثلث مساحة البلاد، وتضم أغلب الحقول النفطية في البلاد.

وعلى مدى سنوات، ظل الجنوب الليبي الصحراوي المهمش خارجاً بشكل كبير عن نطاق سيطرة الحكومات المتناحرة في الدولة،ويستفيد تنظيم داعش من المناطق الصحراوية، ذات التضاريس الصعبة، كما يستغل الهشاشة الحدودية للتمدد نحو دول الجوار خاصة دول الساحل الصحراء التي تمثل له موردا بشريا هاما لتعزيز صفوفه، إضافة إلى أنّه ينخرط في تجارة التهريب التي تعد أهم مصادر تمويله إلى جانب أموال الفدية المتأتية من عمليات الاختطاف.

كل هذه العوامل وسط الفراغ الحالي الموجود في جنوب ليبيا،جعلت من المنطقة مكانا مميزا لإعادة انتشار التنظيم،الذي يسعى لتعويض خسائره في عدة مناطق ليبية وكذلك في العراق وسوريا، عبر إيجاد معقل جديد، يسمح له بوجود حقيقي ومنظم، يتمتع فيه بالحماية الجغرافية، وعدم وجود سيطرة أمنية، وهو ما يتوفر في الجنوب الليبي حاليًّا، لاسيما أن الجنوب يُعَدّ المنطقة الوحيدة حاليًّا المتاحة أمامه لإعادة إحياء وجوده في البلاد من جديد، بعد أن كاد ينتهي وجوده فيها.

ويشهد الجنوب الليبي في الآونة الاخيرة محاولات لزعزعة الاستقرار، ليس طرفها تنظيمات إرهابية وحسب، بل جماعات مسلحة موالية لحكومة الوفاق،لعل ابرزها "قوات حماية الجنوب"، وهي مليشيا قوامها الرئيسي مقاتلون من قبائل التبو الليبية ومرتزقة من تشاد ودول أفريقية أخرى مثل نيجيريا، تقاتل تحت إمرة حسن موسى التباوي، الذي قتل مؤخرا على يد الجيش الليبي وذلك أثناء هروبه من حقل الفيل النفطي جنوب غرب ليبيا.

وبالرغم من خطره الذي مازال يتهدد ليبيا،فان تأثير تنظيم "داعش" بات محدودا في ظل الضربات المتتالية والرصد المتواصل لقوات أفريكوم لعناصره،بالاضافة الى الاستهداف المتكرر للجيش الليبي لفلول التنظيم في عدة مناطق وتضييقه للخناق عليها بهدف انهائها تماما.ويشير مراقبون الى أن محاولات التنظيم لاثبات وجوده وقوته في ليبيا هي محاولات يائسة لعناصر فارة وخلايا نائمة سيسهل القضاء عليها بصفة نهائية مع توحيد الجهود في البلاد وانهاء الانقسامات.