اليوم الثاني/ الحوار 8

''اﻥ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﻴﻮﻡ 31 ﺃﻏﺴﻄﺲ ﻋﺎﻡ 1969 ﻡ ﻫﻮ ﺍﻟﻴﻮﻡ ﺍﻷﺧﻴﺮ ﻟـ 4000 ﻳﻮﻡ ﻣﻦ ﺭﺣﻠﺔ ﺗﺎﺭﻳﺨﻴﺔ ﺷﺎﻗﺔ .

4000 ﻳﻮﻡ ! ﻳﺎ ﻟﻬﻮﻝ ﺍﻟﺼﻮﺭﺓ !! ﻳﺎ ﻟﻠﻘﻴﻤﺔ ﺍﻟﺘﺎﺭﻳﺨﻴﺔ ﻟﻴﻮﻡ 31 ﺃﻏﺴﻄﺲ ﺍﻟﺬﻱ ﻳﻜﻮﻥ ﻫﻮ ﺁﺧﺮ ﻳﻮﻡ ﻣﻦ ﺁﻻﻑ ﺗﻠﻚ ﺍﻷﻳﺎﻡ !! ﺇﻥ ﺯﺑﺪﺓ 10 ﺳﻨﻮﺍﺕ ﻋﻠﻰ ﺍﻷﻗﻞ ﻣﻦ ﺍﻟﻤﺨﺎﺽ ﺍﻟﻤﺮﻳﺮ ﺗﺘﺰﺣﻠﻖ ﺑﺼﻌﻮﺑﺔ ﻣﻊ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﻴﻮﻡ .. ﻳﺎ ﺗﺮﻯ ﻛﻴﻒ ﺗﺤﻤﻠﺖ ﻧﻔﻮﺳﻨﺎ ﺳﺎﻋﺎﺕ ﺫﻟﻚ ﺍﻟﻴﻮﻡ ﺍﻷﺧﻴﺮ ﻭﺑﺄﻱ ﺃﻋﺼﺎﺏ ﺍﺳﺘﻘﺒﻠﻨﺎﻩ ﻭﻭﺩﻋﻨﺎﻩ ؟

ﺃﻣﺎ ﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ ﻟﻲ ﻓﻘﺪ ﺷﻌﺮﺕ ﺑﺈﺭﺗﻴﺎﺡ ﻟﻢ ﺃﺷﻌﺮ ﺑﻪ ﻣﻨﺬ ﻋﺎﻡ 1959 ﻡ.. ﻋﻨﺪﻣﺎ ﺑﺪﺃﻧﺎ ﺍﻟﻌﻤﻞ ﺗﺤﺖ ﺍﻷﺭﺽ . ﺷﻌﺮﺕ ﻓﻲ ﺻﺒﺎﺡ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﻴﻮﻡ ﺃﻥ ﺍﻟﻌﻤﻞ ﺍﻟﺴﺮﻱ ﺍﻟﻤﺤﻄﻢ ﻟﻸﻋﺼﺎﺏ ﻗﺪ ﺇﻧﺘﻬﻰ ﺣﻘﺎ ﻭﻣﻬﻤﺎ ﻛﺎﻥ ﻧﻮﻉ ﺍﻟﻨﻬﺎﻳﺔ . ﻣﺸﻘﺔ ﺛﻘﻴﻠﺔ ﻭﻗﺎﺗﻠﺔ 4000 ﻳﻮﻡ ﻛﻞ ﻳﻮﻡ ﻣﻨﻬﺎ ﻣﺮٌ ﺑﻲ ﻭﻣﺮﺭﺕ ﺑﻪ ﻭﻓﻲ ﻛﻞ ﺳﺎﻋﺔ ﻣﻦ ﺳﺎﻋﺎﺗﻪ ﺗﻮﻗﻌﺎﺕ ﻣﺨﻴﻔﺔ ﻭﻓﻲ ﻛﻞ ﻟﻴﻠﺔ ﻭﻛﻞ ﻳﻮﻡ ﺃﺷﺒﺎﺡ ﻣﻔﺰﻋﺔ .

ﻓﻬﺬﺍ ﺍﻷﻣﻞ ﺍﻟﻜﺒﻴﺮ ﻗﺪ ﻳﺨﻴﺐ ﻓﻲ ﺃﻱ ﻳﻮﻡ ﻭﻫﺬﻩ ﺣﻴﺎﺗﻨﺎ ﻗﺪ ﺗﺘﻌﺮﺽ ﻟﻠﺨﻄﺮ ﻓﻲ ﺃﻱ ﺳﺎﻋﺔ . 4000 ﻳﻮﻡ ﻣﻦ ﺍﻟﻤﻌﺎﻟﺠﺔ ﺍﻟﻨﻔﺴﻴﺔ ﻟﻌﺸﺮﺍﺕ ﻭﻣﺌﺎﺕ ﺍﻟﻨﻔﻮﺱ .. ﻧﻔﻮﺱ ﺃﻣﺎﺭﺓ ﺑﺎﻟﺴﻮﺀ .. ﻧﻔﻮﺱ ﻟﻮﺍﻣﺔ .. ﻫﺬﺍ ﻻ ﻳﺼﻠﺢ .. ﺯﻳﺪ ﻃﺎﻟﺢ ﻧﺒﺘﻌﺪ ﻋﻨﻪ .. ﻋﺒﻴﺪ ﺻﺎﻟﺢ ﻧﻘﺘﺮﺏ ﻣﻨﻪ .. ﺇﻗﺘﺮﺏ ﻣﻦ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﻄﻴﺐ ﺇﺑﺘﻌﺪ ﻋﻦ ﺫﻟﻚ ﺍﻟﺨﺒﻴﺚ .. ﻓﻼﻥ ﻓﻲ ﺍﻷﻟﻒ ﻳﻮﻡ ﻗﻮﻣﻲ ﻣﺨﻠﺺ .. ﻭﻟﻜﻨﻪ ﻓﻲ ﺍﻷﻟﻒ ﺍﻟﺜﺎﻧﻴﺔ ﺇﻗﻠﻴﻤﻲ ﻣﻨﺎﻓﻖ .. ﻋﻼﻥ ﻓﻲ ﺍﻟﺜﻼﺛﺔ ﺁﻻﻑ ﻳﻮﻡ ﺍﻷﻭﻟﻰ ﻭﺣﺪﻭﻱ ﺣﺮ .. ﺑﻴﺪ ﺃﻧﻪ ﻓﻲ ﺍﻷﻟﻒ ﺍﻟﺮﺍﺑﻌﺔ ﻣﺮﺗﺪ ﻭﺟﺒﺎﻥ - ﻋﻠﻴﻜﻢ ﺃﻻ ﺗﺜﻘﻮﺍ ﻓﻴﻪ - ﺍﻵﻥ ﻓﻘﻂ ﻋﺮﻓﻨﺎﻩ .. ﺿﻤﻮﺍ ﻫﺬﺍ ﻧﻌﻢ ﺍﻟﺸﺒﺎﺏ .. ﻭﻟﻜﻨﻪ ﺑﻌﺪ ﻣﺌﺎﺕ ﺃﻭ ﺁﻻﻑ ﺍﻷﻳﺎﻡ ﺍﺑﺘﻌﺪﻭﺍ ﻋﻨﻪ ﺑﺌﺲ ﺍﻟﻨﺎﺱ .. ﻓﻼﻥ ﺧﺪﻋﻨﺎ .. ﻋﻼﻥ ﻟﺪﻏﻨﺎ .. ﻭﺍﺣﺴﺮﺗﺎﻩ ! ﻭﺍﺧﺴﺎﺭﺗﺎﻩ ! ﻳﺎ ﻟﻸﺳﻒ ! ﻳﺎ ﻟﻠﺨﻴﺒﺔ ! ﻭﻟﻜﻦ ﺍﻟﺤﻤﺪ ﻟﻠﻪ ﺍﻟﺬﻱ ﻻ ﻳﺤﻤﺪ ﻋﻠﻰ ﻣﻜﺮﻭﻩ ﺳﻮﺍﻩ .. ﺛﻢ ﺍﻟﺤﻤﺪ ﻟﻠﻪ ﻟﻘﺪ ﺍﻛﺘﺸﻔﻨﺎﻩ ﻣﻦ ﺍﻷﻟﻒ ﻳﻮﻡ ﺍﻷﻭﻟﻰ ﻗﺒﻞ ﺍﻷﻟﻒ ﺍﻟﺜﺎﻧﻴﺔ .. ﻣﺎ ﺷﺎﺀ ﺍﻟﻠﻪ ﺛﻼﺛﺔ ﺁﻻﻑ ﻳﻮﻡ ﻟﻢ ﻳﻜﺘﺸﻒ ﺃﻣﺮﻧﺎ ﻭﻟﻜﻦ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﺬﻱ ﻧﺒﻬﻨﺎ ﻋﻠﻴﻪ ﺭﺑﻤﺎ ﻳﻜﻮﻥ ﻣﻨﺪﺳٌﺎ ﺑﻴﻨﻨﺎ ﺇﻧﻲ ﺃﺷﻚ ﺣﺘﻰ ﻓﻲ ﺍﻵﺧﺮ .. ﻭﻣﺎ ﺭﺃﻳﻚ ﻓﻲ ﺃﺻﺪﻗﺎﺋﻚ .. ﻓﻼﻥ .. ﻭﻓﻼﻥ .. ﻭﻓﻼﻥ .. ﺍﻷﻭﻝ ﺭﺑﻤﺎ .. ﺃﻣﺎ ﺍﻟﺜﺎﻧﻲ ﻓﻼ ﻳﺘﻄﺮﻕ ﺇﻟﻴﻪ ﺍﻟﺸﻚ .. ﺍﻟﺜﺎﻟﺚ ﻻ ﺃﻋﺮﻓﻪ .. ﺭﺑٌﻨﺎ ﻳﺴﺘﺮ .. ﻣﺒﺎﺣﺚ ﺃﻣﻦ ﺍﻟﺪﻭﻟﺔ ﺍﻛﺘﺸﻔﺖ ﺃﻣﺮﻛﻢ .. ﺍﻻﺳﺘﺨﺒﺎﺭﺍﺕ ﺍﻟﻌﺴﻜﺮﻳﺔ ﻭﺻﻠﺘﻬﺎ ﻣﻌﻠﻮﻣﺎﺕ ﻋﻨﻜﻢ . ﺍﻟﻤﺒﺎﺣﺚ ﻛﻠﻔﺖ ﺑﺈﻗﺘﻔﺎﺀ ﺃﺛﺮﻛﻢ .. ﺣﺘﻰ ﺍﻟﻤﻠﻚ ﻭْﺿﻊ ﻓﻲ ﺍﻟﺼﻮﺭﺓ .. ﺳﻔﺎﺭﺍﺕ ﺍﻟﺪﻭﻝ ﺍﻟﺤﻠﻴﻔﺔ ﻭﺿﻌﺖ ﺧﺒﺮﺗﻬﺎ ﺗﺤﺖ ﺗﺼﺮﻑ ﺍﻟﻤﺴﺆﻭﻟﻴﻦ .. ﺇﺣﺘﻤﺎﻝ ﺍﻟﻘﺒﺾ ﻋﻠﻴﻚ ﻳﺎ ﻣﻼﺯﻡ ﻣﻌﻤﺮ .. ﺣﺘﻰ ﺍﻟﺨﺮﻭﺑﻲ ﻭﺭﺩ ﺍﺳﻤﻪ ﻭﺃﻳﻀﺎ ﺍﻟﺨﻮﻳﻠﺪﻱ ﻫﺬﺍ ﻣﺎ ﻗﺎﻟﻪ ﻟﻨﺎ ﺿﺒﺎﻁ ﺍﻻﺳﺘﺨﺒﺎﺭﺍﺕ ﺍﻟﻄﻴﺒﻮﻥ ﺃﺑﻮﻏﻮﻟﺔ .. ﻫﻮﻳﺴﻪ .. ﺧﻠﻴﻞ .. ﻋﺒﺪ ﺍﻟﻤﻄﻠﻮﺏ .. ﻭﺍﻟﻔﺎﺭ ﻭﻫﺬﺍ ﻣﺎ ﺃﻛﺪﻩ ﻟﻨﺎ ﺃﻣﻴﺮْﻭﻧﺎ ﺍﻟﻜﺒﺎﺭ / ﺍﻟﻤﺪﻓﻌﻲ .. ﻭﻓﻮﺯﻱ ﻭﻏﺮﻳﺒﻴﻞ ﺍﻟﻄﻴﺒﻮﻥ ﺃﻳﻀﺎ .. ﻳﺎ ﺗﺮﻯ ﻛﻴﻒ ﺗﺴﺮﺏ ﺍﻟﺨﺒﺮ ﻣﻦ ﺑﻴﻨﻜﻢ ﺟﺎﺳﻮﺱ ﻭﻳﺎ ﺗﺮﻯ ﻣﻦ ﻫﻮ ؟ ﻻ .. ﺑﻞ ﺃﺣﺪ ﺍﻟﺠﻨﻮﺩ ﻛﺎﻥ ﻳﻌﺮﻓﻚ ﻭﺑﻠﻎ ﻋﻨﻚ .. ﻻ .. ﺇﻧﻪ ﺿﺎﺑﻂ ﺻﻒ ﻋﺮﻑ ﺍﻟﺨﺒﺮ ﺑﻄﺮﻳﻘﺔ ﺃﻭ ﺑﺄﺧﺮﻯ .. ﺃﺑﺪﺍ .. ﺃﺣﺪ ﺍﻟﻀﺒﺎﻁ ﺗﺴﺮﺏ ﻣﻨﻪ ﺍﻟﺴﺮ ﻓﻲ ﺣﻔﻠﺔ ﺯﻓﺎﻑ .. ﻟﻴﺲ ﻫﺬﺍ ﻭﻻ ﺫﺍﻙ .. ﺇﻧﻪ ﻃﺎﻟﺐ ﻓﻲ ﺍﻟﻜﻠﻴﺔ ﺍﻟﻌﺴﻜﺮﻳﺔ ﺷﺎﻭﺭ ﻭﺍﻟﺪﻩ ﻓﻲ ﻣﺴﺄﻟﺔ ﺍﻧﻀﻤﺎﻣﻪ ﻟﻠﺤﺮﻛﺔ .. ﻭﺍﻟﺪﻩ ﻧﻘﻞ ﺍﻷﻣﺮ ﺇﻟﻰ ﻣﻦ ﻳﻬﻤﻪ ﺍﻷﻣﺮ .. ﺍﻟﻤﻬﻢ ﺃﻧﻜﻢ ﻓﻲ ﺧﻄﺮ .

ﻫﺬﺍ ﺍﻟﺸﻬﺮ ﻫﻮ ﺃﺧﻄﺮ ﺍﻟﺸﻬﻮﺭ ﺍﻟﻤﺎﺋﺔ ﺍﻟﻤﺎﺿﻴﺔ .. ﻭﻫﺬﻩ ﺍﻟﺴﻨﺔ ﻫﻲ ﺃﺧﻄﺮ ﺍﻟﺴﻨﻮﺍﺕ ﺍﻟﺜﻤﺎﻧﻲ ﻻ .. ﺑﻞ ﺍﻟﺴﻨﺔ ﺍﻟﻤﺎﺿﻴﺔ ﺃﺧﻄﺮ .. ﻧﻌﻢ ﻭﺇﻥ ﺫﻟﻚ ﺍﻟﺸﻬﺮ ﺍﻟﺜﺎﻧﻲ ﻛﺎﻥ ﺃﺻﻌﺐ .. ﺍﻟﻜﺘﻴﺒﺔ ﺍﻟﺮﺍﺑﻌﺔ ﺗﻢ ﺣﻠﻬﺎ ﻛﺨﻄﻮﺓ ﺃﻭﻟﻰ ﻓﻲ ﺍﻹﺟﺮﺍﺀﺍﺕ ﺍﻟﻤﻀﺎﺩﺓ .. ﻣﻌﺴﻜﺮ ﻗﺎﺭﻳﻮﻧﺲ ﻭﺿﻊ ﺗﺤﺖ ﺍﻟﻤﺮﺍﻗﺒﺔ ﺍﻟﺸﺪﻳﺪﺓ .. ﻣﺪﺭﻋﺎﺕ ﺍﻟﻘﻮﺓ ﺍﻟﻤﺘﺤﺮﻛﺔ ﻭﺻﻠﺖ ﺑﻨﻴﻨﺔ .. ﺷﺎﻫﺪ ﻋﻴﺎﻥ ﺭﺃﻯ ﻗﻮﺍﺕ

ﺇﻧﺠﻠﻴﺰﻳﺔ ﻛﺒﻴﺮﺓ ﺗﻨﺰﻝ ﻓﻲ ﻃﺒﺮﻕ ﻟﺤﻤﺎﻳﺔ ﺍﻟﻤﻠﻚ .. ﺑﺮﻳﻄﺎﻧﻴﺎ ﻋﻨﺪﻫﺎ ﻋﻠﻢ ؟ ﺭﺑﻤﺎ ﺃﻣﺮﻳﻜﺎ ﺃﻳﻀﺎ .. ﺍﻟﻀﺎﺑﻂ ﺍﻟﻔﻼﻧﻲ ﺧﺎﻑ ﻭﺍﻋﺘﺒﺮ ﻧﻔﺴﻪ ﻣﻨﺴﺤﺒﺎ ﻣﻦ ﺍﻟﺤﺮﻛﺔ .. ﻭﺍﻟﻀﺎﺑﻂ ﺍﻟﻌﻼﻧﻲ ﺧﺎﺋﻒ ﺟﺪﺍ ﻭﺭﺑﻤﺎ ﻳﺒﻠﻎ ﻋﻦ ﺍﻟﺤﺮﻛﺔ ﻧﻌﻠﻤﻚ ﺃﻥ ﻓﻼﻧﺎ ﺍﺭﺗﺪ .. ﻭﺃﻥ ﻋﻼﻧﺎ ﺣﻴﻠﻪ ﺇﻧﻬﺪ .. ﻳﺄﺱ .. ﻗﻨﻮﻁ . ﻣﻬﻤﺎ ﻃﺎﻝ ﺍﻟﻠﻴﻞ ﺳﻴﻄﻠﻊ ﺍﻟﻔﺠﺮ''.


من قصة الثورة...    للكاتب معمر القذافي

...........................................................................................................

أخذت الشمس تلفح بوهجها الساخن رمال الصحراء المتموجة، بينما كانت ريح القبلي تعبث بسفوح الكثبان الرملية لتثير زويبعات حلزونية بين الفينة والأخرى.

كنت غارقا في شجون هذا الحوار النهاري، مع العقيد، الذي ألفت نفسي حواره ليلاً..حيث السكينة ولحظات التجلي والروحانيات التي تغمر المكان والزمان.. فنهار الصحراء وان كان مدهشاً كليلها الا انه يشكل تحدياً من حيث قسوة الطبيعة وانعكاساتها على تجليات الحوار..

كادت نفسي أن تستسلم للضعف والعجز.. لولا جرعة الامل في استمرار هذه الرفقة.. واعطاء الحوار زخماً أخراً.. ولما لا وانا اتأهب لسؤال الرجل عن اهم لحظات التاريخ.. ليلة انبلاج ثورة الفاتح.. ساعات اظهار العزم.. وابداء القوة.. ساعات إرهاب الخوف.. وقهر التردد.. وشحذ الهمم حيث ستشع الشمس بعد سويعات للجميع.. وحيث ستهدي الصحراء شكل اخر من اشكالها.. يجمع بين قسوة الطبيعة.. وقوة إرادة الانسان..

وسط هذا الوجل الذي يمتلكني.. كانت نفسي تتصارع مع تلك اللحظات النزقة وانا اترقب نظرات العقيد.. اترقب بتوجس حوارا بنكهة غير التي اعتدنا وسط ضياء النهار.. وتحت شمس حارقة وفوق رمال ملتهبة.. حواراً لا يكل ولا يمل مع رجل ألتحم مع الظاهرة الصحراوية حتى جعل منها ايقونة لصناعة التاريخ.. انه الحديث عن ليلة الفاتح.. ونتاج 10سنوات من العمل الدؤوب الذي تكلل بتغيير مجرى التاريخ..

طوى العقيد الكتاب الذي كان يتصفحه ووضعه على الارض.. نظرت فيه وقد تحررت نفسي من عقدة التردد فاذا به كتاب "الامير الصغير".. قلت له ما الذي يشدكم لتتصفحوا قصة ''الأمير الصغير''.. هذا الكتاب القصصي الذي اعتبر الافضل في كتب الأطفال في القرن العشرين؟ قال لي : و تعرفه انت؟ قلت اجل يا سيدي.. ولم يسمح لي ان أكمل.. فاستطرد قائلا: إلى هذه الصحراء جاء مؤلف هذا الكتاب غازياً.. فسقطت طائرته ولَم ينقذه الا رجال من هذه الصحراء.. أطعموه واسقوه وهو يكاد يهلك.. ثم أخذوه معهم وسلموه للحامية البريطانية في منطقة العقيلة! ولكنه أنكر ذلك وتنكر لهم كما يفعل كل الغزاة...

ثم أضاف قائلا.. مؤلفه النصراني .. ادعى ان ملاك زاره بعد ان أمضى أسبوع بدون طعام وشراب ولما اشرف على الموت قال له ارسم لي خروف و.... ثم توقف وقال: هكذا يتم استلاب العقول وتفتيت هوية الامم... واضاف مُغاضِبا وتجد اشباه المتعلمين يلقنون اطفالهم هذا الهراء...

نهض العقيد من مكانه وكما في كل مرة لم ينفض التراب العالق بثيابه.. فتبعته ولَم افعل ذلك ايضا،، استحياء منه! اخذ يمشي وسط الكثبان الرملية.. ثم قال لو كتب ذلك ياسر عرفات لصدقناه.. فهو يحمل نسخة من التاريخ والقداسة تنبغي له.. اما ذاك فليس له الا الثعبان الذي سحر به اعين السذج عندما صوره لهم يأكل فيلاً.. ولم يكن الامر الا مجرد لوحة زيتية فاقعة الوانها تسر الناظرين! وعندما تحطمت طائرته في منطقة بين السارة والكفرة في أواخر ديسمبر 1935 لم ينقذه الا رجال من قبيلة ازويًة والقذاذفة واولاد سليمان ممن نجوا من الطيران الفرنسي الذي كان يتعقبهم من الكفرة حتى واو الناموس...

استمر العقيد مغاضباً حتى اشفقت عليه.. وعلى استمرارية الحوار.. ثم قال: أميركم هذا رجع لبلاده فرنسا في موسم 'النويل'' وعوضاً عن ان يشكر الذين أكرموا مثواه ادعى لهم ان أميرا صغيرا يعيش في كويكب بعيدا تخاصم مع محبوبته فتركها وجاء اليه في الصحراء لينقذه واعطاه ماء مقابل ان يرسم له خروف.. أضاف العقيد بنبرة من الاحباط الشديد ان هذه الخزعبلات هي مثل الإسرائيليات التي استغرقت ثقافتنا الشعبية.. كما استحوذت على موروث عقيدتنا الدينية..

وبينما كانت أرجلنا تغوص في بحر الرمال الذي اخذ في التوهج. . صادفتنا قطع من الصفائح المتناثرة.. سألني العقيد عنها فأجبته بأنها قد تكون من مخلفات الحروب التي دارت رحاها هنا يوماً.. قال لي كلا هذه طائرة "السنت ياسر دي عرفات" الذي أمضى ليلة كاملة يصارع اهوال الصحراء وعواء الذئاب.. ولَم يأتيه أميراً صغيراً يرسم له حتى "حلوف".. بل تنكر له كل الشيوخ.. والامراء.. ولكن "السنت ابوعمار" لم يتنكر لرجال الصحراء من قبيلة الإشراف الذين سبقوا رجال البحث الجوي وأنقذوا ابو عمار وكان على رأسهم الخبير الصحراوي الريفي التواتي .

التفت اليً العقيد متسائلا بشيء من التلطف وقد هدأت نبرته قليلا.. وانت هل تعلقت بالأمير الصغًير ام "بالسنت ياسر دى عرفات" ! أجبته بتلعثم، ولازالت الرمال المتحركة تعيق حركة شفتاي، يا سيدي ان الغاية تبرر الوسيلة! ثم استدركت وقلت في نفسي وما أوجه التشابه بين الامير الميكافيلي وأنطوان دى سنت اكزبري وحتى “السنت ياسر دى عرفات” كما وصفه العقيد.. ودون ان أصل لأية اجابة قاطعني العقيد قائلاً: ان قيم المجتمع الصحراوي تأبى تبرير الوسائل مهما ألًحت الحاجات .. وان الغاية النبيلة لا يمكن شرعنتها وتبريرها بوسيلة رخيصة.. فالحق لا يمكن اقتضائه بطريق الباطل.. هنا في الصحراء العبرة بأخلاقية الوسيلة التي تقودنا للغايات النبيلة وليست العبرة بمدى ملائمة هذه الوسيلة للوصول لغاياتنا مهما كانت نبيلة.. ثم أضاف..احذروا إيذاء أنفسكم وتاريخكم بالركون للباطل مهما كانت غايابكم فاضلة..انا لم أكن يوماً ميكافيلياً ولا براغماتياً حتى في السياسة والحرب.. بل انا صحراوياً.. لقد كان حلم الاتحاد السوفيتي ان يرتهن قطعة من هذه الارض كقاعدة له مقابل ردع لميركان.. لو كنت مثلكم لفعلت.. ولكنني اجيد قراءة حركة التاريخ.. حتى ثورة الفاتح استخلصتها لليبيا عشرة سنوات تحت الأرض ولم يعلم بها حتى عبد الناصر.. 4000 يوم مسنا فيه كل لغوب ولكننا لم نخذل مبادئ امنا بها.. وعقيدة سرنا عليها.. ومنهاجا اتخذناه دليلا.

لم أشأ في هذه الاثناء ان أذى قلب العقيد وهو في نشوة عشق الصحراء وحديث عبق الثورة.. فارتأيت الا احدثه عما ألت اليه الأمور في غيابه وعن احفاد الروس والقردوغانيين والأحباش وباقي الملل التي حلت بيننا اليوم..

استمر العقيد في حديثه عن العشرة سنوات من التحضير تحت الأرض وليلة واحدة فوقها.. ليلة انتصرت فيها إرادة الوطن وهو في أكثر مراحل تاريخه ظلاماً وبؤساً وحرماناً وعبودية..

قلت في نفسي لو علم الرجل اننا نعيش عشرية نقيضة لعشريته.. 4000 يوم من الردة والنكوص.. عشرية كاملة ونحن ننتظر منادٍ ينادي أن هاتوا ايديكم وانسوا احقادكم.. عشرة سنوات ونحن ننتظر من يستنهض هممنا مستصرخا: يا من شهدتم لمعمر القذافي جهاداً مقدساً من أجل ليبيا والعروبة والإسلام..، ويا من قاتلتم مع ابوبكر يونس جابر.. يا من عشتم اساطير الحروب مع المعتصم بالله.. ويا من شهدتم لخميس الملاحم العظام.. ويا من التحمتم مع سيف الإسلام.. يا من أعتصمتم مع عائشة وهي تتحدى من وسط بيت العز الصامد..

عشرية كاملة ونحن ندير ظهورنا لحرائر استغاثت بمن عنده منا (اولايا).. عشرية كاملة ونحن نمارس الرذيلة علناً.. ولازلنا ننتظر من سيقول لنا: يا أبناء البادية، يا أبناء الصحراء يا أبناء المدن العريقة، يا أبناء الارياف الطاهرة، يا أبناء القرى، قرانا الجميلة الحبيبة، ها قد دقت ساعة العمل، فإلى الأمام..

ولكن من اين لنا بمعمر أخر نقول فيه ما قيل في أحد فوارس الاندلس:

أثاره تنبئـك عـن أخـباره ….

حـتى كأنـك بالعـيـان تــراه

تالله لا يأتي الزمان بمثله ….

أبدًا ولا يحمي الثغور سواه