ينتهي العام 2020 في ليبيا بشكل مختلف عما سبق من سنوات. منذ 2011 كانت البلاد ساحة حرب لم تتوقف وانقسامات ضربت كل مؤسسات الدولة وكان تأثيرها كبيرا على كل المستويات، لكن النصف الثاني من 2020، اعتبر استثناء في ظل توقف لغة السلاح التي ذهب ضحيتها العشرات من الشباب الليبي، والتحول إلى لغة المفاوضات التي أشرفت عليها البعثة الأممية، مما بعث أملا لدى الليبيين في طي صفحة الماضي والانتقال إلى مرحلة جديدة تتوحد فيها المؤسسات السياسية والاقتصادية، ويستعيد فيها الشعب أمنه واستقراره، وحلم بناء دولة تتوفر فيها ظروف النهضة والعيش الكريم.
قبل الحديث عن الأشهر الأخيرة من 2020 التي طغى عليها التفاؤل، كانت ليبيا ساحة حرب كبرى بين فرقاء يتعنتون من أجل مضاعفة معاناة الشعب. قبل شهر أغسطس الماضي، لا يسمع الليبيون يوميا إلا أخبار الصواريخ والطائرات الحربية والقتلى. لا تنتقل وكالات الأنباء إلا أخبار السلاح والمرتزقة والتدخلات الخارجية. لم تكن هناك إرادة للمتصارعين في إيقاف الحرب، أغلبهم كان يعتقد أن الاقتتال هو القادر على حسم الصراع دون انتباه لما يمكن أن تتركه الحرب من جراحات وثارات تحتاج سنوات أيضا لكي تندمل وتنتهي.
لكن إلى جانب حرب السلاح، كانت هناك حرب أخرى عاشتها ليبيا مع العالم، هي فيروس كورونا، الذي لم يقل خطره عن الرصاص، ولم يكن ضحاياه أقل من ضحايا الحرب الفعلية. كانت المشتشفيات الليبية خلايا أزمة دائمة وسط تشكيات كبيرة من عدم انضباط داخلي تسبب في الانتشار السريع للفيروس بالإضافة إلى الانتقادات التي تطال المسؤولين بعدم تجهيز استراتيجية واضحة لتخفيف تأثيراته خاصة في ظل الانقسام الذي تعانيه البلاد على المستوى السياسي والذي كان القطاع الصحى أحد ضحاياه.
سنة أخرى مضت والشارع الليبي ينتظر لحظة وعي من الفاعلين في البلاد. ربما هذه المرة بأكثر تفاؤل في ظل نوايا من الجميع، على الأقل ظاهريا، في تجاوز أحقاد السنوات التي مضت والدخول في عملية سياسية تنوحد على إثرها المؤسسات ويتوجه عبرها الليبيون نحو صناديق الاقتراع التي ستفرز لهم وجوها جديدة يمكنها تحقيق تغيير فعلي على المستويين السياسي والاقتصادي، ولا ترتبط بهم اتهامات حول مسؤولياتهم عن الأزمة الحاصلة.
في بداية العام 2020 كانت أولى التحركات الدولية حول الأزمة الليبية. في العاصمة الألمانية برلين اجتمع ممثلو حكومات الجزائر والصين ومصر وفرنسا وألمانيا وإيطاليا وروسيا وتركيا وجمهورية الكونغو والإمارات العربية المتحدة والمملكة المتحدة والولايات المتحدة الأمريكية وممثلين عن الأمم المتحدة، بما في ذلك الأمين العام وممثله الخاص في ليبيا والاتحاد الأفريقي والاتحاد الأوروبي وجامعة الدول العربية، تحت رعاية ألمانية وأممية لبحث التوصل إلى توافق في الآراء بين وتأمين مظلة دولية لحماية الحوارات الليبية حول مستقبل البلد.
المؤتمر خلص إلى ثلاثة مسارات؛ عسكري وسياسي واقتصادي، الأول  بتشكيل لجنة عسكرية تتكون من 10 ضباط يمثل كل 5 منهم طرفي الصراع وتحدد اللجنة آليات تنفيذ وقف إطلاق النار وكيفية نزع سلاح المليشيات، والثاني سياسي من خلال الاتفاق على موعد لانتخابات تتوحد على إثرها مؤسسات الحكم وهو ما تم لاحقا في تحديد 24 ديسمبر 2021 تاريخ لها، والمسار الثالث اقتصادي، من خلال توحيد المصرف المركزي وسعر الصرف فيه، وأيضا إعادة الانتاج في موانئ الإنتاج وهو ما تم أيضا لاحقا.
في فبراير 2020 كانت كل من جنيف على مرحلتين وميونيخ والقاهرة على موعد مع اجتماعات تشاورية انتهت باتفاق طرفي النزاع الليبي على هدنة دائمة ووقف تدفق المقاتلين الأجانب إلى البلاد وإخراجهم من الأراضي التي دخلوها، لكن اجتماع جنيف الثاني شهد انسحاب ممثلي حكومة الوفاق بحجج عدم الثقة في الالتزام بالمخرجات، لكن الواقع أن السراج وحكومته في ذلك الوقت كانا يهدفان إلى استغلال الدعم التركي لفرض الضغط على الجيش من أجل التراجع خارج العاصمة طرابلس والمناطق التي كان يسيطر عليها وقد كان لهما ذلك بالتقدم نحو خط سرت الجفرة الذي بقي إلى اليوم نقطة توقف الطرفين في انتظار ما ستحمله الفترة المقبلة من تطورات.
وعلى الرغم من التطورات المختلفة التي عرفتها ليبيا في 2020 لكن الحدث الأهم يبقى وقف إطلاق النار في أغسطس الماضي. ففي الوقت الذي كانت حكومة الوفاق عبر حليفها التركي تتقدم شرق البلاد وكان الجيش يدافع عن المناطق التي يسيطر عليها، توقفت الحرب فجأة وبدأت بعدها مباشرة الاجتماعات الماراطونية في أكثر من مدينة عربية وغربية، ثم في ليبيا معلنة عن تطور جديد يطغى عليه السياسي رغم التخوفات الدائمة من استئناف الاقتتال وتأثير التدخلات الخارجية خاصة التركية في مسار الحوارات.
بعد وقف إطلاق النار، اتجهت الأنظار نحو مدينة بوزنيقة المغربية. لأول مرة منذ بداية الأزمة يجتمع فرقاء الأزمة بشكل مباشر، طرف يمثل مجلس النواب، وآخر يمثل مجلس الدولة في طرابلس. الهدف كان ضمان وقف دائم للحرب، ثم التوجه نحو العملية السياسية. الاجتماعات تكررت في المدينة حيث كان هناك إصرار مغربي على لعب دور ناجع، وربما في ذلك رسالة سياسية للمغرب إلى أطراف بعينها في إطار "صراع" إقليمي خفي حول ملفات مختلفة، لكن المهم في ذلك أن الدور المغربي كان ناجعا في نقاط مختلفة.
بعد بوزنيقة كانت تونس أيضا مع مؤتمر حوار أشرفت عليه الأمم المتحدة. الواقع أن الحوار لم يكن في مستوى الآمال الكبيرة التي عقدت عليه، لكن حقق في الحد الأدنى نقطة أساسية وهي تحديد تاريخ للانتخابات، ثم في نقطة ثانية الاتفاق على لقاءات في الداخل الليبي يتفق فيها الليبيون على تركيبية السلطة التنفيذية ودورها بالإضافة إلى توحيد مؤسسات الدولة، وهي نقاط تتقدّم ببطء لكن مؤشراتها إيجابية في الغالب.
القاهرة أيضا احتضنت لقاءات بين ممثلين على شرق البلاد وغربها، وعبرها اختارت القاهرة أن تنفتح على ممثلي حكومة طرابلس، كبادرة حسن نوايا، رغم الاحترازات الكبيرة على ارتباطاتها الخارجية، وقد خلصت تلك اللقاءات أيضا إلى أن تجاوز الخلافات ضروري للخروج بليبيا من أزمتها.
انتهى العام 2020، بوجود لجنة عسكرية موكول لها ضمان وقف إطلاق النار، ووجود لجان اقتصادية موكول لها الإصلاحات الضرورية لتوحيد المصرف المركزي، وقد انتهت قبل ساعات من نهاية العام بالاتفاق على توحيد سعر الصرف في مؤشر إيجابي لاقتصاد البلاد، بالإضافة إلى المسار السياسي الذي تراقبه البعثة الأممية وهي التي أعلنت عبره عن تحديد موعد للانتخابا نهاية 2021، لكن هذا التفاؤل تحكمه ظروف أخرى في علاقة بموازين القوى داخليا وتخوف أطراف عديدة من خسارة نفوذها في صورة الوصول إلى حلول واقعية على الأرض.ذ
من جنيف إلى برلين إلى بوزنيقة المغربية إلى تونس والقاهرة ثم إلى غدامس، يجتمع الليبيون من أجل الحل النهائي وإنهاء سنوات الاقتتال. كان العام 2020، صعبا على كل العالم، لكنه بعث الأمل لدى الليبيين في تغيير طريق الأزمة المتعثر إلى خارطة جديدة تراقبها أطراف كثيرة وتتوجه فعليا إلى انتخابات عامة تتوحد على إثرها كل المؤسسات السياسية والاقتصادية في البلاد، لكن ذلك يبقى يبقى رهين الإرادة الداخلية في الحل والإرادة الخارجية في عدم التدخل، لأن الإجماع العام لدى الرأي العام في ليبيا وخارجها أن التدخلات الخارجية كانت السبب الرئيسي في تعميق الأزمة في ظل رغبة كل المتداخلين في ربح الساحة الليبية بما فيها من مزايا استراتيجية على كل المستويات السياسية والاقتصادية.