اعتبر الأستاذ إسماعيل حسين زاده في تحليل نشره موقع مركز البحوث حول العولمة الكندي "موندياليزاسيون" -الذي أطلق يوم 9 سبتمبر 2001 مختص في المقالات التحليلية المتعلقة بالساحة الدولية، خصوصا المتعلق بالحرب على الإرهاب ويكتب فيه عديد الأساتذة الجامعيين وكتاب- يوم 20 يونيو الماضي بعنوان: "العراق ليبيا إيران وأوكرانيا: حروب الكبار ضد الشعوب" أن معظم الخبراء يرون في التطورات التاريخية الأخيرة والحشود العسكرية الضخمة الهادفة لتدمير الخصوم، مؤشرات على إمكانية اندلاع حرب عالمية ثالثة، لكن الكاتب يرى أنها مختلفة عن سابقتيها، حيث ستكون حربا بين  نخب أكثر منها حربا بين دول.

ومن زاوية النظر هذه يرى زاده أن الحرب انطلقت بالفعل بالحرب الأحادية الجانب التي يخوضها "النيولبراليون" وتطبيق مبدأ التقشف الاقتصادي العابر للحدود الذي تفرضه الطبقة المتعددة الجنسيات واللوبيات" المالية ضد 99 بالمائة من سكان المعمورة.

ويرى زاده أن العولمة والرأسمالية وتداخل الأسواق العالمية، بلغ حدا يمكن معه أن تندلع مواجهات عسكرية من الحجم الثقيل، على غار تلك التي جرت في الحربين العالميتين السابقتين ، ما قد يؤدي إلى كارثة مالية في كل أنحاء العالم، خاصة وأن النخب المالية المتعددة الجنسيات، هي التي تقوم باختيار السياسيين والحكومات من وراء الكواليس برأي الكاتب.

"تغيير ناعم"

ويرى زاده أن مخاوف النخبة المالية من اندلاع حرب دولية شاملة هي التي تفسر التدخلات العسكرية الاستعمارية الأخيرة القائمة على أساس "التغيير الناعم" أو "soft-power" على حد عبارة الكاتب، حيث تتالت الثورات من مختلف الألوان وتعددت الانقلابات "الديمقراطية" وتم إشعال فتنة الحروب الأهلية وتطبيق العقوبات الاقتصادية مع الاحتفاظ بفكرة التدخل العسكري، عندما تفشل مخططات التغيير الناعم.

وتتركز جهود القوى المالية الكبرى على إبقاء هذه التدخلات العسكرية تحت السيطرة والتصرف، أي إبقاءها على المستوى المحلي والوطني، بينما يسعى الأثرياء إلى توجيه الحروب بطريقة تحفظ ثرواتهم وتجعل الحرب مصدر ربح في مجال الإنفاق العسكري، الذي يدر أرباحا على المركبات الصناعية الحربية وكبار البنوك بطريقة لا تشل الأسواق المالية العالمية.

وتملك الدوائر المالية الأولغارشية مصالح مشتركة مع نظرائهم في الولايات المتحدة وفي دول أخرى أكثر من تلك التي تمتلكها مع مواطنيها ، حيث تقول الصحفية في وكالة رويترز كريستيا فريلاند -التي ترافق النخب المالية حول العالم- " لا فرق إن كانوا يتخذون نيويورك أو هونغ كونغ أو بومباي كمقر للإقامة، فكبار الأثرياء يشكلون يوما بعد يوم أمة مستقلة بذاتها"

ويخلص زاده إلى أنه من المنطقي أن تحدث تحالفات بين أعضاء هذه "الأمة العالمية كبيرة الثراء" التي تساهم في تنفيذ المخططات الاستعمارية وتغيير الأنظمة القائمة.

ويذكر زاده مثال مخاوف روسيا من الولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين، في ظل رغبة الأثرياء الروس في التعامل بطريقة سرية مع نظرائهم الغربيين، مشتتين بالتالي جهود روسيا في ممانعة التدخل في صراعات القوى الغربية.

وبإلقاء نظرة على العمليات العسكرية الأخيرة التي كانت تهدف إلى إسقاط الأنظمة على غرار ما حدث في ليبيا والعراق من جهة وأوكرانيا وإيران من جهة أخرى، يمكن فهم أسلوب القوى الاستعمارية في التدخل بطريقة عسكرية مباشرة كما حدث في العراق وليبيا واختيار تكتيك التغيير الناعم ، ولكن بنفس الأهداف على غرار ما حدث في إيران وأوكرانيا ، تعتبر بنظر الكاتب أمثلة حية على خيارات القوى الامبريالية وأساليبها وتكتيكاتها.

وتتعلق طريقة تصرف هذه القوى بدرجة حضورها في الدول المعنية ، حيث استفادت الدوائر المالية من حملة الخوصصة الكبيرة في المرافق العامة في إيران وأوكرانيا.

شبكات مالية

وتتعاون القوى المالية المقربة من الغرب مع القوى المتدخلة في الخارج ، حيث يملكون عملاء يساعدون على تغيير الأنظمة من الداخل بالتعاون مع القوى الامبريالية من الخارج وهذا ما يفسر اعتماد تكتيك "التغيير الناعم" في كل من إيران وأوكرانيا من خلال "الثورات الملونة" وليس عبر التدخل العسكري المباشر.

أما بالنسبة لصدام حسين في العراق ومعمر القذافي في ليبيا فكانا لا يملكان طبقة ثرية كتلك الموجودة في إيران وأوكرانيا، ما يعني أن التغيير الناعم أو الثورات الملونة الذي يعتمد على القوى المحلية والبرجوازية الداخلية، لن يكون مجديا وبالتالي لا مناص من تدخل عسكري مباشر في ليبيا والعراق.

أما العامل الثاني الذي تأخذه القوى الاستعمارية في الحسبان، فيتعلق بمعرفة قدرة التحكم في الحروب التي تطلقها وإمكانية تحولها إلى صراع إقليمي أو دولي.

و في أوكرانيا على سبيل المثال كان احتمال حدوث تدخل عسكري يعني حتمية إقحام روسيا، ما يهدد بجعل الصراع عالميا مع النتائج الكارثية على المستويين المالي والاقتصادي تكون خارج سيطرة القوى الإمبريالية وهو ما جعل هذه القوى تخير "التغيير الناعم" بدل "الانقلاب الديمقراطي".

وتتواجد نفس المخاوف في إيران ، حيث يمكن أن يؤدي تدخل عسكري مباشر إلى حرب خارج السيطرة ، لذلك فضلت في النهاية خيار العقوبات الاقتصادية و"التغيير الناعم" على غرار "الثورة الخضراء" سنة 2009.

أساليب

وتوضح الأزمة الأوكرانية الأخيرة طريق تفكير القوى المالية متعددة الجنسيات وسعيها إلى تفادي حرب دولية غير مضمون العواقب، وتفضيل اللجوء إلى حرب تبقى تحت التصرف فبعد يوم واحد من انقلاب 22 فبراير الماضي على الرئيس فيكتور يانوكوفيتش ودعم الولايات المتحدة للانقلاب وارتفاع الاحتقان بين الغرب وروسيا.

وحذر مراقبون من أن حربا عالمية ثالثة قادمة في الطريق، لكن هذا الاحتقان بدأ بالتراجع مع بداية شهر مايو الماضي عندما خضع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في الصراع مع الغرب واعترف بالرئيس الأوكراني الجديد الملياردير الأوكراني بيرو بروشنكو يوم 7 مايو الماضي,

وبالرغم من تواصل المواجهات بين الجيش الأوكراني والانفصاليين شرق البلاد، إلا أن  الجهود الدبلوماسية بين النخب المالية في الولايات المتحدة وأوروبا وأوكرانيا وروسيا، نجحت في تفادي صدام عسكري بين روسيا والولايات المتحدة، ما يعني أن كبرى المصالح المالية العالمية لا يمكن أن تخاطر بحدوث حرب عالمية خارج سيطرتها وغير مضمونة العواقب.

نموذج ليبيا والعراق

ويقول زاده أن ليبيا والعراق تمثلان نموذجا للتدخل العسكري المباشر، حيث نجحت هذه العمليات في تغيير الأنظمة، ويرى زاده أن التدخل العسكري لا يحدث إلا في الحالات التالية:

-       عندما يمكن التحكم في العمليات العسكرية في البلد المستهدف

-       غياب حلفاء محليين وقوى مهمة يمكن الاعتماد عليها في الدول المستهدفة أي القوى الثرية المرتبطة بالأسواق العالمية

وكان صدام حسين ومعمر القذافي قد حكما بلديهما بقبضة من حديد، لكنهما حافظا على قوة القطاع العام وقاموا بتأميم أهم الصناعات والخدمات الوطنية، خاصة في يتعلق بالصناعات الاستراتيجية على غرار الطاقة والبنوك والنقل والاتصالات، في ظل دولة بيروقراطية تفضل الاستقرار والاستمرارية على التنمية التي تولد قوى اقتصادية متوحشة وصعود قوى صناعية مالية وصناعية في القطاع الخاص.

ويرى زاده أن رفض كل من صدام حسين والقذافي لصعود نخب مالية نافذة مرتبطة بعلاقات مع الأسواق العالمية والقوى الغربية، كان الدافع لتنحيتهم ، خاصة وأن النظامين اللذان كانا قائمين في البلدين، رفضا المشاريع الاستعمارية التي اعتمدت على بقايا أفكار قبلية أو ملكية أو على نخبة عسكرية وفكرية أجبرت على العيش في المنفى بسبب الأنظمة الدكتاتورية.

وعلى عكس النخب المالية في أوكرانيا، لم تكن قوى المعارضة في العراق وليبيا تملك الإمكانات الاقتصادية لتمويل القوى العاملة على تغيير النظام ولا لقاعدة اجتماعية ولا لعلاقات مالية مع القوى الكبرى في الأسواق العالمية والمؤسسات السياسية.

ولهذا كان من الواضح أن العقوبات الاقتصادية والتكتيكات الأخرى لـ"التغيير الناعم" لم تكن كافية لإسقاط أنظمة صدام حسين ومعمر القذافي، حيث كانت القوى المتدخلة تتصور أن التدخلات العسكرية التي نفذتها في ليبيا والعراق ستبقى تحت السيطرة ، ولن تخرج من حدود الدول المعنية.

تغييرات

أما في إيران فيبدو أن الولايات المتحدة وبعد فشلها في تغيير النظام القائم، اختارت أن تعمل على حدوث إصلاحات داخل النظام الإيراني من خلال التعاون مع قوى سياسية واقتصادية من بين المسؤولين الإيرانيين مقربة من الغرب.

ويرى زاده أن ما جعل الولايات المتحدة تغير موقفها من إيران هو صعود طبقة رأسمالية طموحة يبقى على رأس أولوياتها ربط علاقات أعمال مع نظرائها في الغرب، تعتبر قضايا السيادة الوطنية والتكنولوجيا النووية في مستوى أقل أهمية.

وفي خلاصة تحليله يرى زاده أن القوى المستفيدة من الحروب والإنفاق العسكري على غرار كبار البنوك والأقطاب الصناعية العسكرية والأمنية التي تعيش من الحروب والأزمات الدولية أصبحت تفضل دعم حروب محلية وطنية محدودة، تبقى تحت السيطرة على الحروب الإقليمية والدولية، التي قد يكون لها تداعيات كارثية تشل الأسواق العالمية، وهذا ما يفسر تفضيل الولايات المتحدة وحلفائها للخيار العسكري في ليبيا والعراق والاكتفاء بدعم الثورات الملونة و"التغيير الناعم" في أوكرانيا وإيران.

وتعود هذه الخيارات المختلفة إلى المخاوف من أن يفلت التدخل العسكري في إيران وأوكرانيا من السيطرة والاكتفاء بدعم النخب المالية المؤثرة في هذه الدول والاعتماد على التغيير من الداخل.

سياسة جديدة

ويضيف زاده أن القوى الاستعمارية تواصل استخدام نفس التكتيك للتقسيم والتحكم القائم على المسائل القومية والأصول الأثنية والعرقية والاختلافات الدينية، حيث تبين الأمثلة الأخيرة مواصلة اعتماد نفس المخططات "فعندما تكون العقوبات الاقتصادية والطبقات المالية الداخلية قادرة على القيام بثورة بأي كان فلماذا اللجوء إلى تدخل عسكري تكون له نتائج غير مضمونة وكارثية حتى؟ يتساءل الكاتب.

ويرى زاده أن المخططات الاستعمارية تغيرت بفعل الزمن ولم تعد تفضل الاحتلال العسكري الصرف من العهد الاستعماري القديم، بل تم تحديث أساليب التدخل الأقل تكلفة والأكثر نجاعة، حيث غير الرئيس الأمريكي باراك أوباما من سياسة الرئيس الأمريكي السابق جورج ولكر بوش، الذي كان دائما ما يميل للخيار العسكري المباشر.

وبالرغم من الانتقادات الموجهة لإدارة أوباما من قبل مساندي التدخل العسكري المباشر، -التي تتهم إدارته بأنها ضعيفة ومترددة-، - أظهرت سياسته الصامتة والمحافظة على التحالفات المالية الكبرى نجاعتها.

وكان وزير الخارجية الأمريكي قد وضح سياسة إدارة أوباما في حوار صحفي أجري يوم 30 مايو الماضي بخصوص السياسة الخارجية الأمريكية المتبعة في أوكرانيا وإيران قائلا:

"يمكن اعتبار أن إدارة أوباما قد حققت نجاحا إذا نظرنا إلى ما حدث في أوكرانيا، حيث عملت إدارة أوباما على الحفاظ على وحدة أوروبا ، وتوصل الرئيس الأمريكي مع حلفائه الأوروبيين إلى إقناع الرئيس الروسي لإنهاء الأزمة، أما في إيران فقد نجح الرئيس الأمريكي من خلال سلسلة من العقوبات في جر إيران إلى طاولة المفاوضات، حيث أثبتت المفاوضات أنها قادرة على تجميد البرنامج النووي الإيراني أو كبحه....نحن نتحرك في سياق لحظة أخرى من تاريخنا، ولكن النتائج ستثبت ما نقوم به".

ويخلص زاده إلى القول أن أوباما يعتمد سياسة استعمارية ذكية على تلك المندفعة ، التي كان يقودها بوش.