لم تكن مفاجأة ردة فعل حركة النهضة التونسية على قرار رئيس الحكومة المكلف هشام المشيشي بتشكيل حكومة كفاءات وطنية مستقلة على الأحزاب، ولا مستغربة. المشيشي أخذ قراره تجنيبا للبلاد من مزيد التوتر الذي عرفته خلال الفترة الماضية، لكن حركة النهضة كان ردها استباقيا بأنها ترفض ذلك التمشي وتعتبر وجود الأحزاب في الحكومة ضروريا لتحظى بحزام يحميها. والواقع أنها ليست وحدها من تقول ذلك بل هناك أحزاب حتى من معارضيها تفكّر بذلك المنطق، لكن موقف "النهضة" يخفي أمرين؛ الأول أنها تعوّدت على الحكم وتعتبر الخروج منه خسارة تفقد عبرها امتيازات كثيرة، والثاني وهو الأهم هو تخوفها من بعض الملفات القضائية التي تلحق بعض قادتها اتهامات فيها وخاصة قضايا الاغتيالات السياسية.

دخلت حركة النهضة في تونس إلى الحكم بعد انتخابات العام 2011، التي أعقبت الثورة، كانت في ذلك الوقت في وضع مريح منحها أغلبية نيابية وحكومية، والأمر مفهوم باعتبار عشريات المظلومية وسنوات السجون التي عاشها بعض قيادييها، وأيضا باعتبارها نجحت في استقطاب جزء هام من العقليات المحافظة وحتى المتطرفة التي ترى في النهضة مشروعا اسلاميا صاعدا.

منذ ذلك التاريخ أصبحت حركة النهضة جزءا من الحكم إما رئاسة أو مشاركة وتعاملت مع كل الوضعيات بنوع من البراغماتية أو الأحرى من التنازلات التي تضمن لها البقاء لأنها ترى أن الحكم هو امتيازات وحماية وقد نجحت في ذلك عبر إلحاق قيادييها والمتعاطفين معها بمواقع حساسة في الإدارة والأمن والقضاء، بالإضافة إلى الاتهامات التي تلحقها بكونها استغلت قانون العفو التشريعي العام لانتداب أنصارها في الوظائف الحكومية مما مثل ثقلا كبيرا على الميزانيات المتعاقبة للدولة.

10 سنوات تقريبا و"النهضة" في الحكم لم تخلف فيها إلا الجدل والتوتر في الساحة السياسية التونسية. بجرد بسيط يمكن معرفة نتائج حكمها. على الجانب الاقتصادي لم تخلف إلا العجز وتكثيف الديون وخنق البلاد بقروض واتفاقيات تعجز اليوم الحكومات على الإيفاء بشروطها. على الجانب الاجتماعي لم تخلف إلا الاحتقان وتوتير الأجواء عبر خلق الخصوم وشيطنتهم وتأليب أنصارها عليهم. أما الجانب الأمني فالأمور معقدة إلى حد كبير وهنا التخوف الكبير بالنسبة إليها لو غادرت الحكم.

فخلال سنوات حكمها عرفت تونس حادثتي اغتيال كبيرتين على الأقل. بالإضافة إلى وقوع عشرات العمليات الإرهابية سواء في الأمن والجيش أو حتى في المدنيين عبر استهداف المواقع السياحية. وفي كل ذلك كانت النهضة تتهرّب وتعتبر الأمر استهدافا لها. لكن بتتبع تصريحات بعض قادتها وما يكتب أنصارها على صفحات التواصل الاجتماعي تكون المسؤولية واضحة تماما، كما أن تطورات القضايا في الأشهر الأخير تكشف ارتباطا بين جهازها السري الذي تصر على إنكاره وبين تلك العمليات. لكن مهما حاولت النهضة الهروب من المسؤولية المباشرة، فإن المسؤولية السياسية واضحة وتتحمل عنها التبعات القانونية.

ورغم كل ذلك السجل في نتائج الحكم مازلت حركة النهضة متمسكة بالبقاء فيه، متذرعة بشرعية الانتخابات التي تراجعت فيها بشكل كبير ولم تعد النتائج تمنحها أغلبية تمكنها من ترؤس الحكومة، كما تصر على تقريب الجميع معها إلى الفشل لكي تدافع عن نفسها عبرهم وتعمم ذلك الفشل على الجميع. النهضة تناور مع الجميع؛ تطلق النار من جهة ثم تطلق تصريحات المهادنة من جهة أخرى، وهذه الاستراتيجية لا تخفي الخبث السياسي باعتبارها تخفف عن نفسها بعض الضغط الذي تعانيه منذ دخلت إلى الحكم عام 2011.

اليوم هي تخوض حرب البقاء، كل المؤشرات توحي بأنها عزلت نفسها، حتى تحالفاتها لا تقوم إلا حليفها الفكري "ائتلاف الكرامة" الذي وضع في واجهة الدفاع عنها بكل قوة أمام خصومها، أو حزب قلب تونس متقلّب المواقف والخاضع للابتزاز من الجميع بسبب ما تقول مصادر تونسية شبهات فساد تلحق رئيسه بين الفترة والأخرى.

الرئيس المكلف الجديد بالحكومة اختار هذه المرة أن يسير في مسار مختلف على رغبة الأحزاب. ربما يريد فعلا أن يتجنب حالة التوتر التي حصلت خلال الأشهر الماضية داخل الائتلاف الحكومي، لكن هذا المسار بالنسبة إلى حركة النهضة فيه تهديد لمستقبلها السياسي ولمستقبل بعض قياداتها في علاقة بعدد من الملفات الأمنية الأمر الذي يجعلها تدافع عن خيار البقاء مهما كان حجم التنازلات التي ستقدّمها.